Ads

رفرفة خارج القفص

سحر عبد القوي


"لألسنة الدخان لغة...وكلمات...لا يفهمها إلا مرتادى ملاهى المحارق...وأبناء النار"

 كانت تتأمل الكومة المتفحمة أمامها في ذهول...تتساءل عن مصدر نشأة الحريق...هل فقدت ذاكرتها وهل ذاك شيء

يُنسي...؟ أم أن تلك "الكومة" المتفحمة هى التى ستحمل إليها ومضات ولقطات من تلك الذاكرة المتفحمة... وكأن الحريق

الخامد القابع أمامها ليس إلا عاملا حفازا يساعدها على تلميع ذاكرتها المطموسة بحرائق أتت على معالمها الجميلة...وهل

يصاغ الذهب والألماس بدون نار....؟تلك "الكومة" المتفحمة....باتت كمرآة بللورية عاكسة للماضي...جالبة للذكري...تنظر

إليها فى شرود لتحاول لملمة شظايا حياتها لتصل إلى معنى...لتفهم...لتكشف أغوار ماضيها...لتستعيد نفسها التى

ضاعت منها فى الزحام...والحريق...و تناقضات الحياة..."ريهام" الحاملة لشهادة متوسطة...والمنتمية  لعائلة "أقصرية" أقل

من المتوسطة...والحاملة لــ ملامح أنثوية أقل من المتوسطة...لم تجد بعد تخرجها من المدرسة الفنية مستقبلا ورديا

....لكنه حلم امتلاك نقود فى "جزلانها" الفارغ  كان دائما ما يداعب خيالها ... تلك النقود...حسب ظنها .... بامكانها أن تعيد

لها ما سقط من درب طفولتها ... لم تكن تحلم بسيارة فارهة....ولا فيلا على النيل...فقط كانت أحلامها تنحصر فى شراء ما

يحلو لها من العصير والأيس كريم...إنها الفاقة التى قصمت ظهر أبيها ...تلك التى نتجت عن عدد أولاده الكبير فلم يشفع لها

أن ترتيبها هو الأصغر ويفترض أن تكون الأكثر دلالا...كانت الأكثر بؤسا... فى المأكل والملبس...كانت لا ترتدى إلا بقايا ثياب

أختها الأكبر...ولا تأكل إلا ما يتبقي من أثر معركة شرسة بين أبناء جائعين حول "طبلية فقيرة" أطباقها قليلة...ماذا سيفعل

لها الدبلوم وماذا ستعمل به...فى زمن لا يجد فيه حملة الشهادات الجامعية فرصة عمل...كانت تفكر فى مهنة تمتهنها قد

تجلب لها دخلا جيدا...كانت تحسن تزيين النساء...ففكرت فى انشاء محل كوافير خاص بها وصدمها الواقع...من أين لها

بالمكان ومن أين لها بالمال اللازم لشراء مستلزماته...سقط الحلم فى مستنقع الواقع...و انتهى بها الحال بائعة فى محل

بقالة...استكملت الحياة دورانها ...واستكملت هى حياتها...تغدو وتروح حاملة حلم الزواج على أهدابها...كان أملها الوحيد هو

أن تتزوج رجلا يوفر لها الكفاف...ويغنيها عن وجبة الفُتات على "طبلية" الأهل...وتحكمات الأخوة الذكور الذين حققوا

استقلالهم المادى وانتقلوا إلى الطبقات المتوسطة وفوق المتوسطة دون الالتفات لها...الأدخنة التى تتصاعد من "الكومة"

المحترقة نبهتها إلى البداية الحقيقية للمرار الذي غلف حياتها الخالية من المذاقات الحلوة...يوم وقعت فى حب صاحب محل

البقالة...ذلك الرجل المتزوج والذي يقارب سنها أولاده ...أغدق عليها العطايا...وأكمل نواقصا كانت تقتلها في بيت

أهلها...ليس فقط الراتب الكريم والمعاملة الطيبة...فقد كان يسعدها أنه يأتى بالطعام ليشاركها إياه...والشراب ليشاركها

إياه...وكانت تسعد بزيادة واردات المحل...وتحزن إذا نقصت فباتت تعمل بهمة  وكأنها تملكه... لم تسيء الظن أبدا بمحاولاته

للتقرب منها...ولم تستاء...من لمساته واهتمامه...على العكس...كان ذلك يعوض عندها اللا مبالاة التى وجدتها في كنف

بيت أبيها...كان يعوض حرمانا طفوليا داخلها للاحتواء قبل أن يعوض احتياجها الأنثوى للرجل...وهى التى لم يحتضنها أحد

ولم يربت على كتفها أحد...عشقته...نعم تلك طامتها الكبري...ليس لأنه رجل متزوج...ولكن لأمر آخر جلل...كل ذلك كان

يراقبه اخوانها الذكور بتحفز وغضب...منتظرين سنوح الفرصة لإعادتها للقفص البيتوتى ومنعها من العمل...تهامس الناس

على زهرة الحب ذات العطر المتأجج والتى تفتحت في حى المنشية...وفى الأقصر يكفى أن يتحدث شخص من شارع واحد


عن خبر فينتشر كالنار بين الشوارع والبيوت ويصبح حديث المدينة...هل كان طلبه ليدها اثباتا لحسن نيته...أم  أيضا اللطمة

الكبري للواقع على وجه أحلامها الناعم...؟ ذلك التصرف الرجولى _ من قبل رجل أحب فتاة وقرر الزواج منها رغم كونه متزوج

ورغم استطاعته الاسترسال في مسلسل  تسلية معها إلى ما لا نهاية نظرا لحبها له...و انعدام خبرتها لكونه الأول فى

عمرها_كل الفتيان ينظرن إلى خطوات رجال أحبوهم داخل بيت آبائهم كخطو هلال العيد فى السماء...إلا هى....كانت زيارته

لهم كارثية..كان رد اخوتها على طلبه صفعة هوت على وجهها بمجرد خروجه من البيت" عايزة توطى راسنا وتتجوزيلك واحد

هلاليلى يابنت الكلب وكمان متجوز يا قليلة الرباية" لم تدرك أذنها غير تلك العبارة والأيدى والأرجل تتهاوى عليها وكأنهم

يهدون جدارا مبنى على أرض لا تحمل صكا بملكيته... كانت فرصة لاخوتها للنيل من احلامها...وللنيل من العصفور الذي

يحلم بالطيران خارج القفص....كانت الحصيلة النهائية هى "علقة" موت تركت أثرها دماء متفجرة فى أنحاء

جسدها...مصحوبة بـــ "فرمان" بعدم خروجها من باب البيت...مرت الأعوام ثقيلة...ولا أحد يطلبها الزواج منها بعد أن أصبحت

سيئة السمعة نظرا لانتشار خبر علاقتها العاطفية مع "الهلايلى" وطلبه لها...حتى جاء "عصام" خاطبا لها...رجل أربعينى

ينتمى لـــ "عائلة" ذات اسم جيد...لكن تحوم حول أخلاقه شبهات...تغاضي عنها الجميع....وزوجوها له...زواجها كان افتتاحية

مسلسل جديد تماما...كان قد اختارها لأغراض اخري...فهو لا يعمل ولا يريد أن يعمل...بل يريدها أن تعمل هى...أن تكون

هى محل عمله...ومصدر رزقه...!!لم تصدق أن زوجها كان يأتى بأصدقائه لها من أجل أن يفترسوها...ليقبض ثمن

الفريسة...رفضت مرة ومرتان وثلاث...وكانت اللطمة دائما هى عبارته القاتلة: "انتى هتعمليلى شريفة ياروح امك انا واخدك

مخصوص عشان كدة" علقة الموت والطرد من الجنة... كان علاجه لعنادها..." انتى لازم تترمى تانى فى بيت أبوكى عشان

تفتحى مخك"اخوتها رفضوا طلب طلاقها...واكتفوا بمنع سيء السمعة هذا من دخول بيوتهم...وتركوها للحجيم...مع موافقة

ضمنية منهم... وتحفيز على "طاعة الزوج" ... تحت غِطاء الزواج...لا بأس...هى فى النهاية "امرأة متزوجة".عادت

له...وللوحل..وعاد هو ينفث سمومه في اذنها ولم يشفع له أنها أصبحت اما لابنة منه... لعله كان ينتظر بلوغها الصّبا

 ليضمها لفريق عمله الشيطانى...!!

تردد عليهم الأصدقاء...والمعارف..بمعرفة زوجها...وبحضوره...وفى غيابه...مع ريبة الجيران

وطردهم من مسكن لآخر بمعدل مرة كل ستة أشهر...حتى قررت أن يكون لها عملها الخاص...فتردد عليها أناس من طرفها

وباتت تنتقل هى من مكان لمكان بعيدا عن أنظار زوجها نكاية فيه...حتى اصبحت معلومة بنشاطها ذاك للقاص

والدانى...ومن هنا نشأ الخلاف مع الزوج الحريص على اتمام العمل تحت "غطاء عينيه" وبمعرفته... وأن تصب المكاسب فى

جيبه...فدب الخلاف...وتعمق...وأصبحت هى توازى بين ما يريده زوجها وما تريده هى فأحيت علاقتها بصاحب

المحل...بموافقة ضمنية من الجميع هذه المرة...!!كانت لا تفكر اطلاقا فيما آلت إليه قبل النوم...أصبحت مثل الآلة المبرمجة

على سلوك الطرق الملتوية و المختصرة واستعمال الثغرات...لم يؤرقها سوى منام تري فيه نفسها تسبح فى أعماق بحر من

الوحل...وعندما تصحو تغمر نفسها لوقت طويل تحت مياه "الدوش" ...وهى تدرك أنها لن تزيل أوساخ علقت بروحها...الكوافير

هو مازال حلمها فقررت أن تخبر زوجها أنها ستفتح كوافير لتعمل به وتؤسسه من مالها ... فكانت الصفعات من نصيبها تلك

المرة أيضا...ولكنه لم يدرك أن انها ضاقت ذرعا به وبصفعاته وبلكمات المجتمع المتناقض المريض...هى التى تلقت الصفعات

طيلة حياتها لم ترد عليه بصفعة...بل انتظرته لينام بعدما أدمى جسدها ووجهها...و حولته إلى كومة من رماد...حينها تحول

هذيانها الذكرياتى إلى صراخ فى حضرة الشرطة وتجمع الجيران:

"الكومة دى جوزى...أنا حرقته...أيوة  حرقته...عشان أنقذ اللى باقي من حياتى  وحياة بنتى..حرقته...أنا التى حرقته" 



0 تعليقات:

إرسال تعليق