دكتور عادل عامر
الأحزاب الإسلامية تكرر حالياً الخطأ نفسه، إذ تعمل على استنساخ التجربة التركية. إنّ تأمل أسماء الأحزاب الإسلامية العربية بعد الربيع العربي سيضعنا أمام استنساخ تقليدي غير مبدع، إذ لم يستطع الإسلاميون الارتقاء بمستوى أسماء أحزابهم، فهل سيستطيعون الارتقاء بتجاربهم؟ واليوم تقف الأمة على مفترق طرق بعد تسونامي الثورات الشعبية وزلازل «الربيع العربي» وبعد أن تحرر المارد العربي وخرج من قمقمه للمرة الاولى منذ قرن من الزمان ليصرخ بأعلى صوته مطالباً بحقوقه ومصراً على استعادة كرامته ودوره وحقه بالمشاركة الكاملة في صنع القرار ومؤكداً أحقيته وقدرته على تقرير مصيره بنفسه بعيداً من القمع والقهر والتنكيل وفرض الأمر الواقع عليه.
والأمل كل الأمل أن تنجح الشعوب في تحقيق أهدافها النبيلة والوصول بالأوطان إلى شاطئ الأمان بسهولة ويسر مع نبذ العنف والإرهاب وتغليب ثقافة التسامح والمحبة ورفض التفرد والديكتاتورية من أية جهة ووضع حد لعودة الطغيان والتعامل مع المواطن كقاصر لم يبلغ سن الرشد ويحتاج إلى من يتخذ القرار بالنيابة عنه ووضع حجر عليه وحجب أشعة الشمس عنه وتجويعه لتركيعه.
هذه صفحة نأمل أن تكون قد طويت إلى الأبد وطوت معها تجارب الأنظمة الفاشلة ومعها النظام العربي القديم، إن كان هناك مثل هذا النظام في الواقع، ولكن ما هو البديل؟ وهل نحن أمام حالة ضياع وحيرة وانتقال من ديكتاتورية إلى ديكتاتورية ومن تفرد واستئثار إلى نظام بديل مماثل تتغير فيه الوجوه والأدوات والمبادئ وتعيش تجربة نظام يطلق عليه صفة «الإسلامي» من دون خطة عمل ولا أفق للمستقبل وحلول للمشاكل والأزمات المستعصية.
من حيث المبدأ لا يحق لأحد أن يعارض هذا التحول طالما أنه جاء من طريق صناديق الاقتراع ووفق الوسائل الديموقراطية بمفهومها العريض مع أن التجربة ما زالت في مرحلة التكوين أو انها مجرد جنين لم يكتمل بنيانه بعد حتى يبصر النور كما أن الشعوب العربية ما زالت غير معتادة على ممارسة الديموقراطية بشكلها الصحيح بعد سنوات الحجر والتشويه وفرض الأمر الواقع.
في المقابل، لا يمكن المراقب ولكل من يتابع التطورات والممارسات والخلافات والاتهامات إلا أن يتحفظ على التجربة من بدايتها ويضع يده على قلبه خوفاً من انتكاسة جديدة لم يعد المواطن قادراً على تحمل تبعاتها وأوزارها على رغم انه مسؤول عنها إما بسبب مشاركته في اختيار مرشحيه أو لأنه تقاعس عن أداء دوره وامتنع عن ممارسة حقه الانتخابي. وهذا هو حال «الأكثرية الصامتة» في العالم العربي.
في مصر، التي تعدّ مسقط رأس الإخوان المسلمين، أسس الإخوان حزبهم السياسي الذي حمل اسم «الحرية والعدالة»، وفي ليبيا أسسوا حزب «العدالة والبناء»، وفي المغرب «العدالة والتنمية». إنّ مقارنة أسماء الأحزاب المذكورة باسم الحزب التركي «العدالة والتنمية» ستجعلنا نكتشف مدى الاستنساخ الحاصل في التجربة. وإذا كانت الأسماء بحد ذاتها ليست دليلاً على أن تكون الممارسة استنساخية، فإنّها تعدّ مؤشراً إلى طريقة التفكير التي عجزت عن اختيار أسماء تمثلها ولا تتطابق مع النموذج المتبنى، فما بالك إن كانت التجارب تدل على ذلك أيضاً، أي عجزت حتى الآن عن أن تخرج من ثنائية «المطبّقُ مطبّقاً» لمصلحة «المطبّقُ مبدعاً» بلغة الطيب تيزيني.
وفي استنساخ آخر، يبدو أنّ الأحزاب الإسلامية بدأت تسير على درب الاندراج اقتصادياً في المنظومة الليبرالية بشقها الأميركي، أي الانصياع لبرامج صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاعتماد على المساعدات الاقتصادية التي تتطلب تنازلاً سياسياً، وهو ما يعني أنّها تسير على النهج نفسه الذي سارت عليه الأنظمة التي ثارت عليها سابقاً. سياسة الرئيس المصري محمد مرسي حتى اللحظة تعدّ المثال الأوفر على هذا الأمر، فالحكومة الجديدة تسعى إلى أخذ قروض من صندوق النقد الدولي برعاية أميركية، ووافقت قطر وتركيا والسعودية على منحها قروضاً لقاء الاندراج ضمن محور الدول الفاعلة لإسقاط النظام السوري. وهنا ثمة فرق بين الوقوف إلى جانب الشعب السوري في قضيته العادلة، وتجيير تلك القضية لمصلحة الدول التي تريد إسقاط نظام دمشق، لأجندتها الخاصة المعادية حتماً لمصالح السوريين كشعب.
إلا أنّ المعيار الأهم الذي يمكن من خلاله معرفة مدى سير الإسلاميين في طريق الفشل هو الموقف من إسرائيل، وخاصة أنّ الأحزاب الإسلامية بكافة إيديولوجياتها تتوحد على فكرة العداء لإسرائيل، ولطالما كانت القضية الفلسطينية شعاراً وستاراً لها للتظاهر ضد النظم المستبدة التي ثارت عليها، حين ما كان بإمكانها التظاهر ضد الاستبداد بشكل مباشر. إنّ مقارنة الأحزاب التي كانت في السلطة بتجربة الإخوان المسلمين، ستجعلنا نجد تقارباً واضحاً بين التجربتين، إذ كانت الأحزاب الحاكمة ترفع فلسطين شعاراً أساسياً لها قبل وصولها إلى الحكم، لتصبح فلسطين مجرد شعار بعد وصولها إليه. تجربة الإسلاميين القصيرة في الحكم تدل على ما سبق وبأسرع مما توقعنا، إذ أكد الرئيس المصري محمد مرسي أنّه سيحافظ على اتفاق كامب ديفيد ظاهراً، وعلى أمن إسرائيل باطناً، ليحظى بالرعاية الأميركية التي تعمل على رفع الدور الإقليمي المصري ليحصد الفراغ الناتج عن انهيار الدور الإقليمي السوري، وليواجه الدور العراقي الذي تسعى إيران إلى تسويقه في المنطقة بديلاً عن دور حليفها السوري، الذي يتضعضع. وكذلك أقدم مرسي على منح الرئيس الراحل أنور السادات، الذي اغتاله الإخوان أنفسهم، قلادة النيل العظمى ووسام نجمة الشرف بمناسبة الاحتفال بذكرى حرب 1973، وذلك رغم خلافهم التاريخي معه، على خلفية اتفاقية كامب ديفيد، وهو ما يعني تحديد الوجهة التي ستسير فيها مصر، لما يعني الأمر أيضاً من إرسال رسائل واضحة إلى الراعي الأميركي، بأننا «قدّ المهمة وقدود». ذلك عدا التطبيع مع إسرائيل، الذي بدأه الإخوان فعلياً، إذ كشف الدكتور سعد الدين إبراهيم في تصريحات لوكالة أنباء «أونا ONA»، عن مشاركة وفد من جماعة الإخوان المسلمين في مؤتمر عن الأمن والتعاون الإقليمي في الشرق الأوسط في العاصمة التشيكية «براغ»، بتاريخ 31 أغسطس/ آب الماضي، مع باحثين وأكاديميين من أوروبا وأميركا وإسرائيل ومصر ودول عربية أخرى. انأ مع الشباب الغاضب إذا صرخ بوجه الحكام لظلم أصابه وحيف وقع عليه، ولكن أخشى ما أخشاه أن تكون مثل هذا التظاهرة وهذا الاحتجاج ليس خوفا من فشل الثورة وحماية لها، وإنما ضد نجاحها، وضد أغلبية تقول لمعارضيها تعالوا نتحاور ونحتكم إلى صناديق الاقتراع ويرفض المتظاهرون! ولأول مرة أرى العلمانيين اللبراليين الرافضين للاستقطاب الديني يضربون على الوتر الديني الذي يحاربونه، ويحتضنون الكنيسة ويغازلون الأقباط بطريقة لا تدل على أنهم علمانيون صدقا وحقا.
مرة أخرى أؤكد خطأ الوقوف بوجه المتظاهرين السلميين وضدهم، وبنفس القوة أعرب عن حذري من تأييدهم، لأن الكثير من قيادات هذه الأحزاب وخطبائها ومتحدثيها المحرضين على التظاهر سبق لهم أن حذرونا من الإسلاميين وصدقناهم، قالوا الإسلاميين عملاء لإيران وسيجلبون لنا البلاء الصفوي المجوسي الفارسي، واتضح أنهم ألقموا إيران حجرا في عقر دارها. وقالوا حكم الإسلاميين سيجلب الإرهابيين الجهاديين المتطرفين واتضح أنهم قادوا حملة عسكرية ضد المتطرفين لتنظيف البلد، وقالوا الإسلاميين سيحاربون السياحة ويقطعون أرزاق الناس، وشهدت السياحة في الأشهر الماضية في مصر ازدهارا فاق ما مضى لأن الإسلاميين وفروا للقادمين قدرا من الأمن ولا أقول كله، وقالوا الإسلاميين تعاونوا مع أمريكا وتعاونت معهم وسيساومون على القضية الفلسطينية، واتضح أنهم نجحوا في دعم القضية الفلسطينية ولم يساوموا عليها كما ساوم غيرهم، وأصبح دعم الفلسطينيين في نظر المحتجين خطيئة وذنبا اقترفه الإسلاميون يلامون عليه.
--
كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
عضو والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية
0 تعليقات:
إرسال تعليق