عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
في ستينيات القرن المنصرم، وقف أحد الإنجليز ذات غصة على منصة المسغبة ساخرا من جهود مهندس كاتدرائية كوفنتري ليقول: "بالطبع ندين للألمان بالشكر لأنهم قاموا بتصميم وتشييد هذا الصرح اللاهوتي الضخم. كما نشكر أهالي كوفنتري الطيبين الذين خيروا بين إنشاء الكاتدرائية و بناء مشفى أو مجمع سكني أو عدة مدارس فاختاروا الكاتدرائية. ففي هذا المكان يمكن لأهالي كوفنتري أن يلتقوا جميعا ليسألوا الله أن يمن عليهم بالمستشفيات والمساكن والمدارس."
لكن سماء كوفنتري لم تسقط يوما مدرسة أو دار حضانة، وظل الأميون يذهبون إلى الكنيسة دون أن يلمحوا في أنفاقها طريق خلاص نحو فردوس أو دكان بقالة أو رغيف خبز يابس. ظل الناس يتدفقون هناك بأجساد نحيلة شفها المرض والشقاء ليعودوا إلى بيوتهم بعد الظهيرة أكثر جوعا وأشد مسغبة. وفي كوفنتري، سرى المرض في الصدور الخربة والعظام العارية سريان النار في كومة حطب يابسة. وبدأت الأقدام تنصرف شيئا فشيئا عن عتبات الكنيسة وعتبات السماء لتغرق في وحل الجوع واليأس والمرض.
ولم يصدق الناس القس بيلي جراهام حين أوعز للناس في خطبته أنه يعرف الطريق إلى الجنة لأنه ظل يسألهم وهو في طريقه إلى هناك عن أقرب حانوت لشراء التبغ. ويومها صاح فيه أحد المصلين منددا بعنجهية رجل لا يجيد إلا الكلمات ولا يرى أبعد من أرنبة أنفه: "كيف تبصر طريق الجنة وقد سقطت مرارا في حفر الشوارع ولم تلتفت إلى أطفال مشردين على جانبي الحزن في بلاد أخطأت طريقها نحو الرب؟"
لم يكن هناك ثمة شاحنات تحمل المؤمنين الواقفين في طوابير التأييد لإنشاء كنيسة نحو الحرية أو الخلاص أو الجنة. لكن شياطين اليأس والفقر والمرض لم تترك لأبناء كوفنتري أي خيار. كانوا فقراء متعبين هدهم لصوص الأمل الذين سرقوا أقدامهم ومعاولهم وتركوهم في واقع مستأجر يدفعون إتاوة بقائهم فيه من جلود صغارهم ودموع نسائهم. لم يجد أهل كوفنتري طريقا إلى الله إلا الكنيسة، ولو أنهم ذهبوا إلى المصانع والمدابغ والحقول، لوجدوا الله هناك أيضا.
في كتابه إحياء علوم الدين، روى الإمام الغزالي أن عيسى عليه السلام قال لمتعبد: "من يعولك؟" فقال: "أخي." فزجره عيسى عليه السلام وقال: "أخوك أعبد منك." وفي كتاب العقد الفريد، روى أن قوما من الأشعريين كانوا فى سفر، فلما قدموا على النبى صلى الله عليه وسلم قالوا : ما رأينا بعدك أفضل من فلان كان يصوم النهار، فإذا نزلنا قام الليل حتى نرتحل ، فقال : " ومن كان يكفله ويخدمه"؟ قالوا : كلنا، فقال "كلكم أفضل منه." وذات وعي طارد عمر بن الخطاب المتواكلين الرابضين في المساجد بدرته معلنا أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة.
لكن أهالي كوفنتري الطيبين ما زالوا يقفون في طوابير غبية خلف فتاوى تطمينية بأن الطريق إلى الجنة يمر عبر أنفاق البؤس والحرمان والمرض. ما زال أهالي كوفنتري كعادتهم يقدمون بناء الكنائس على شق الطرق وحفر الآبار وبناء المدارس والمشافي والمساكن، وما زلت تجدهم هناك بنفس ثيابهم البالية يرفعون أكفهم نحو السماء في انتظار الذهب والفضة لأنهم لا يجدون فقهاء بقامة عمر يجمعوا شتات حمقهم نحو الخلاص الحق. وما زال أهالي كوفنتري ينصتون إلى فتاوى القس بيلي الذي يصر على السير نحو كاتدرائيته دون أن يلتفت لآلام الفقراء على جانبي الخارطة التي تضيق بساكنيها شيئا فشيئا كل يوم.
0 تعليقات:
إرسال تعليق