منذ فترة ليست بالوجيزة ، وأنا أواجه ضغطاً من أحد الأصدقاء ، الذي يعد زميلاً في العمل في آن معاً ، بشأن ضرورة الكتابة عن الفساد الذي يغط فيه الجهاز الإداري للدولة ، خاصة أن هذا الأمر يعد الموضوع الرئيس لكافة مناقشاتنا بشأن ما تعانيه الدولة المصرية من جهازها الإداري . هذا الجهاز الذي من المفترض أنه يمثل العمود الفقري للدولة ـ أي دولة ـ دونه تسقط الدولة . والواقع أن الجهاز الإداري للدولة المصرية يعاني ترهلاً هائلاً بسبب استيعابه في فترة من الفترات ـ امتدت لنحو ثلاثين عاماً ـ لكل خريجي الجامعات والمعاهد والدبلومات الفنية بغض النظر عما إذا كان هناك عملاً لهم من عدمه ، وكانت وزارة القوي العاملة في هذا الزمان ترسل خطابات التعيين للخريجين ، فيذهب الخريج لاستلام عمله ، ثم تحفظ له وظيفته حتي ينتهي من آداء الخدمة العسكرية أو الخدمة العامة ، ويعود إليها ، مع أنه في الأصل لا توجد وظيفة . وظل الأمرهكذا ، أرحام تدفع ، وأرضاً تبلع ، ولا شيء آخر ،حتي ضاق الجهاز الإداري علي العاملين به ، فتخلت الدولة عن مسئوليتها تجاه تعيين الخريجين سراً ، كما تخلت عن أمور أخري كثيرة ، ودون إعلان ، تجنباً لإثارة الغضب الإجتماعي . وقد استمر هذا الوضع نحو أربعين عاماً أخري . وليست المشكلة في التزام الدولة بتعيين خريجيها من عدمه ، ولكن المشكلة أن يتم التعيين علي وظائف وهمية ، أي وظائف بلا وظيفة ، بلا عمل ، ويصبح هذا الشخص عبء علي الدولة علي نحو أو آخر ،أولاً من حيث كونه يتقاضي أجراً مقابل اللاعمل . وثانياً لكونه غير منضبط في حضوره وانصرافه ، وإذا انضبط في ذلك ، شغل غيره من زملاء العمل بثرثرته فيما لا طائل من وراءه . وثالثاً لأنه يترقي في السلم الوظيفي بحكم الأقدمية ـ بقوة القانون ـ ثم في غفلة من الزمن قد يجد نفسه في مواقع القيادة ، والتي تبدأ برئاسة القسم ، ثم مدير إدارة ، ثم مديراً عاماً ، ثم رئيساً لإدارة مركزية بدرجة وكيل وزارة أو وكيل وزارة أو وكيل أول وزارة وذلك دون رصيد معرفي سواء مكتسب عن طريق التعلم أو عن طريق الخبرة . ورابعاً حين يجد نفسه متورطاً في اتخاذ قرار في موضوع لا يفهمه ، وأمر لا يجيده ، ولا يحسن التصرف وفقاً لمقتضياته . فيخرج منه القرار وفقاً لأهواءه أو أهواء مستشاريه ، وهو الهوي المحكوم بذات الظروف وذات النشأة ونفس الدوافع . وخامساً حين تتحكم نوازع الجهل في العاملين تحت تلك الرئاسة الجاهلة ، والجهل هنا ليس مقصوداً به الإساءة ، وإنما توصيف لمن يفهم الأمر علي غير حقيقته . فيجد الموظف الكفء نفسه هو الموظف المطارد من رؤسائه وزملاءه ، ويصنف علي اعتبار أنه مشاغب ، ولا يسمع الكلام ، فيحرم مما يتمتع به غيره من الزملاء الأقل كفاءة ، ودون المستوي . ومن خلال هذا اللانظام تجد مصر نفسها " محلك سر " . بل قد تكون مدفوعة إلي الخلف . ومن هنا يمكننا القول وبارتياح شديد أن الدولة المصرية لن تتقدم إلا بإعادة النظر في النظام الفاعل داخل الجهاز الإداري ، فخبرات العاملين في هذا الجهاز مستمدة من الغير سواء من رؤساء في العمل أو من زملاء من العاملين دون مرجعية علمية لمدي سلامة ما يجري اكتسابه من معارف أو خبرات . فليس هناك أي منهجية علمية في العمل ، إلي حد أن معظم العاملين يتوجه إلي عمله وهو لا يعرف تحديداً ماذا سيفعل اليوم ؟ . ويظل بلا عمل حتي تأتيه التعليمات من رؤسائه ، فإن غاب الرؤساء غاب العمل . وقد يقول قائل بأن هناك دورات تدريبية متوفرة ، وهذا صحيح ولكنها توظف وفقاً لذات المنهجية الحاكمة ، دورات يتم ابتعاث أصحاب الحظوة إليها ، لا لكي يتدربوا ، ولكن من باب إتاحة الفرصة لهم للتخلص من الروتين اليومي المعتاد من ناحية ،وتوفير سيرة ذاتية زائفة توفر فرصاً للترقي علي حساب كفاءات ـ ذاتية ـ أوجدتها الصدفة من ناحية أخري . قد أجد معترضين كثر علي وجهة النظر تلك ، وقد تكون اعتراضاتهم لها وجاهتها من وجهة نظرهم . ولكن دعونا نتساءل معاً كعاملين في الجهاز الإداري للدولة ، كم موظف في مصلحتك أو هيئتك أو مؤسستك لديه فكرة عن بطاقة الوصف الوظيفي خاصته ؟ . وكم زميل لك لديه فكرة عن القانون الذي يحكمه ؟ . وهل لديك لا ئحة خاصة بمصلحتك أو هيئتك أو مؤسستك ؟ . وإن كانت إجابتك بنعم . فهل لديك فكرة عنها ؟ . لا ريب أنك ستتفق معي فيما اقول ، وهناك العديد من الأمور والمسائل التي تحتاج مناقشة ومراجعة لإعادة بناء الجهاز وصياغته ، وصياغة توجهاته بما يخدم التوجهات الحالية للدولة .أقول ذلك بمناسبة توجيهات السيد رئيس الجمهورية للسادة الوزراء بضرورة التواجد في دواوين وزاراتهم من الساعة السابعة صباحاً ، وعلي الفور أصدر السادة الوزراء تعليماتهم لرؤساء المصالح والهيئات والمؤسسات بضرورة التواجد بمقر العمل من الساعة السابعة صباحاً . وستصب هذه التوجيهات في المستويات الأدني صباً ، وكأن مشكلة الجهاز الإداري للدولة في مصر هي مشكلة الوقت . نعم المشكلة هي مشكلة الوقت ، ولكن ليس ضيق الوقت فيجري توسعته بالعمل من السابعة صباحاً ، وإنما في بحبوحة الوقت وسعته إلي حد أننا لا نجد من العمل ما يشغله . وظني أن السيد رئيس الجمهورية قد بني توجهه علي اعتبار أن الوقت غير كاف للعمل . والمشكلة الحقيقية هي في بناء الموظف المصري وفقاً للمنهج العلمي للعمل ، وذلك من خلال توفير دورات تدريبية متخصصة يحصل عليها الموظف علي مدار خدمته ، مع ربط الترقية باجتياز هذه الدورات . واعادة النظر في قانون العاملين المدنيين بالدولة ولائحته التنفيذية ، وأن تصدر كافة القرارات الإدارية والوزارية والأوامر المكتبية وفقاً لهذا القانون . مع صياغة القانون باعتباره قواعد قانونية لا تفتح الباب لمخالفته من خلال إرجاع الأمر للسلطة المختصة ، لأن السلطة المختصة إذا جاز لها أن تجتهد لمصلحة العمل ، فلا تجتهد مع القانون بما يخالف القانون ، وإنما تجتهد في القانون وفي إطار أحكامه . وظني أن ذلك يتوافق مع توجه الرئيس في دعوته للإعتماد علي الكفاءة والإخلاص ، وهنا تصبح الدعوة للتبكير للعمل ذات جدوي . والله من وراء القصد .
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة
(
Atom
)
0 تعليقات:
إرسال تعليق