كتبت : الصحفية الجبوري
صديقتي رسالتك أحملها بين ضلوعي.. أجلس معها وحدي في غربتي كلما ضاقت بي الدنيا لأبدأ بقراءة سطورها التي تنطق بكلمات كنا نرددها.. ولتشع منها صوراً لأيامنا الجميلة فأتذكر خبر أستشهادك.
صديقتي الحبيبة كنت أود أن أعرف كيف مستك يد الغدر لتقتل روحك المحبة للوطن.. نعم قتلت بيد غادر مملوء بالحقد والكراهية ليمزق جسدك وأجساد الأبرياء بمتفجراته.
أنا أندب حالي كيف لم أستطع أن التقيك قبل أن تودعي الحياة.. أتذكر كيف كان يشغلك ويشغلني همّ الوطن.. نعم أعترف أني كنت مجبرة ولم أقوى على البقاء.
ياصديقتي التي حرمت منها.. لو تعلمين كم هي سنوات الغربة طويلة وأنا أقرأ رسالتك هذه كنت قد وعدت نفسي أن أرد عليها ولكن اللعنة على الغربة أخذت مني الراحة فتكاسلت كثيرا لأسمع بعدها خبر أستشهادك.
اليوم وبعد زمن طويل من الأغتراب أدركت بأن الحياة قادتني مجبرةً لمصير مجهول.
أتذكر ذلك اليوم المشوؤم حينما غادرت العراق حينها ضاع مني كل شيء.. طفولتي.. ذكرياتي..أقاربي.. أصدقائي.. أحلامي .. بيت عائلتي , حديقتي التي احبها جيراني أشياء وأشياء كثيرة أخرى.
سألتيني مرة عن شعوري وأنا أغادر العراق.. سأروي لك كيف ودعت الوطن في اللحظات الأخيرة وأنا أقترب من الحدود بدأت أعد الدقائق الواحدة تلو الأخرى وفجاءة سمعت السائق يقول لم يبقى لنا إلا القليل.. أحسست بوجع في قلبي وتمنيت في تلك اللحظة لوكان الامر بيدي ماكنت اخترت المنفى.. وفي تلك اللحظة صرخت توقف هنا من فضلك.. نزلت من السيارة التفت ونظرت الى العراق نظرة وداع اخيرة .. نظرت اليه طويلاً وتنهدت وكأني لن أراه مجدداً. حينها أقسمت بأني سأعود حتى لو كنت ملفوفة بكفني. وركعت على الأرض وقبلتها عشرات المرات وأنهيتها بقبلة طويلة وبعدها مسحت وجهي بترابه الزكي وتحدثت اليه وأعتذرت له لشعوري بالذنب رغم اني ليس لي ذنب في الاختيار.. شعرت اني تخليت عنه وهو بأمس الحاجة لي.. وبعدها صعدت الى السيارة لنكمل الطريق أخرجت دفتري وقلمي لأخط بعض الكلمات التي مازلت أحتفظ بها للآن.
وطني أعذرني لأني طمعت فيك فسرقت حفنه من ترابك المعطر بالذكريات المفرحة والمحزنة لأحملها معي وفي قلبي حزن عميق.. أتعلم ياوطني أني مازلت أحتفظ به في وعاء فخاري صغير كنت قد صنعته من طين ترابك ووضعته في زاوية غرفتي وأحطته بشموع من كل الوان طيفك الرائع .. أركع عنده كلما ضاقت بي الغربة.. أوقد الشموع لأصلي.. أجلس أمامه أحدثه عن قصص وذكريات حصلت معي وأحيانا أشكي له همومي.. أتمعن به وأنا أذوب كذوبانه لأنه يحسسني كيف أحترق في الغربة وأنا بعيدة كل البعد عنك ياوطن.. فأحس بدموعي تنزلق لتتحدى دموعه وكأني أقول له أن أحزاني أعمق من أحزانك.. هكذا مرت علي الأيام ياصديقتي.
ياعراق من بعدك مررت بمحطات.. الواحدة تلو الأخرى.. وكم من محطة توقفت فيها أنظر إليها بعيون تائهة.. حائرة لأقول ياترى هل هنا ستكون غربتي وهل هنا سأعيش في منفاي.. فتوقفت من جديد عند محطة جديدة.. فتتعالى أصوات من داخلي مخنوقة لتقول ماذا فعلت ؟ فالمحطات تمر وهناك من يبتعد وآخر يقترب ولا أحد يسمع أنيني.. فأعيش أيامي وأنا سائرة نحو عالم مجهول لأعيش صراعاته.
هنا أبكي بصمت مميت...لأني فشلت أن أكون منهم ولهم.. فكل مافيهم لا يعود لي وكل مابي لا يعود لهم.. أختلي بنفسي لأبكي على وطن جريح الذي يحاول أن يضمد جراحه ومازال يضمدها لأتساءل كم من جرح ستضمد ياوطن والى متى؟ فخناجر الغدرالتي طعنتك كثيرة وعميقة.
وطني ماذا فعلت بي لاعشقك كل هذا العشق.. هل لأن أرضك أرضعتني الطيبة؟ أم لأن ماءك اسقاني من عذوبته؟ أم هواءك بعث بي نقاءه؟ أم سماءك غطتني بصفاءها؟ أم تاريخك خلد بي عظمته؟ أم كل هذا هو بي أنا ؟
لذلك لم أعد أستطيع أن أخفي حبي لك لأنه يفضحني.. في غربتي أتغزل بك أمامهم.. أحدثهم عنك.. عن جمالك.. عن عذوبتك ..عن طيبتك.. عن تاريخك ..وعن خيراتك.. وعن تضحياتك.. وأحدثهم عن شعبك.. الشجاع.. الصبور.. الطيب.. المعطاء.. المضياف والذي يفزع عند الشدائد.. كيف لا وكل مافيك رائع.. قل لي كيف سأعيش وأنا أحمل لك كل تلك الأصوات التي صدحت بأسمك وتغنت بك.. نعم أنها تصرخ من الأعماق لتقول لك... أعذرني ياوطني على فراقك فان اختيار المنفى لم يكن هو اختياري ولكني أعدك بأني حتما سأعود...
0 تعليقات:
إرسال تعليق