د. هاني حجاج
Hany_haggag@hotmail.com
" إن أبي كان من أهل بلخ وانتقل منها إلى بخاري في أيام نوح بن منصور واشتغل بالتصرف وتولى العمل أثناء أيامه بقرية يقال لها خرميثن من ضياع بخاري وهي من أمهات القرى، وبقربها قرية يقال لها أفشنة تزوج أبي منها بوالدتي، وقطن بها وسكن، وولدت منها بها، ثم ولدت أخي، ثم انتقلنا إلى بخاري. وأحضرت معلم القرآن ومعلم الأدب، وأكملت العشر من العمر وقد أتيت على القرآن، وعلى كثير من الأدب، حتى كان يقضي مني العجب. وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين، ويعد من الإسماعيلية، وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم، وكذلك أخي. وكانوا ربما تذاكروا بينهم، وأنا أسمعهم وأدرك ما يقولونه، ولا تقبله نفسي، وابتدئوا يدعونني أيضاً إليه، ويجرون على ألسنتهم ذكر الفلسفة والهندسة وحساب الهند ".
هكذا يتحدث ( ابن سينا ) – الشيخ الرئيس – عن نفسه وعن أبيه الذي وجّهه إلى رجل بقّال يدرس الحساب حتى يتعلم منه ثم جاء إلى بخاري أبو عبد الله النائلي ( ويدعى الناتلي) وكان حكيماً مهذباً درس الإلهيات وله رسالة في الوجود ورسالة في علم الإكسير، وكان يُطلق عليه المتفلسف وأنزله والد ابن سينا دارهم رجاء تعلّمه منه. وقبل قدومه كان ابن سينا يشتغل بالفقه ويتردد على إسماعيل الزاهد وكان من أجود السالكين، وقد ألّف طرق المطالبة ووجوه الاعتراض على المجيب؛ على الوجه الذي جرت عادة القوم به.
ثم بدأ بكتاب ( إيساجوجى ) على النائلي ( وهو كتاب معروف في المنطق كتبه فرفريوس الصوري كمقدمة في علم المنطق الأرسطي ) ولما ذكر له حد الجنس أنه هو: المقول على كثيرين مختلفين بالنوع في جواب ما هو. فأخذ في تحقيق هذا الحد بما لم يسمع بمثله، وتعجّب منه كل العجب؛ وحذّر والده من شغله بغير العلم، وكانت أي مسألة قالها له، يتصورها خيراً منه، حتى قرأ ظواهر المنطق عليه؛ وأما دقائقه فلم يكن عنده منها خير.
بعدها أخذ يقرأ الكتب على نفسه، ويطالع الشروح، حتى أحكم على المنطق وكذلك كتاب ( إقليدس )، أصول الهندسة المسمى أسطروشيا والذي نقله الحجاج بن يوسف بن مطر، نقلين، مرة باسم الهاروني، نسبة إلى هارون الرشيد، ومرة باسم المأموني، نسبة إلى الخليفة المأمون، ونقله إسحق بن حنين، وأصلحه ثابت بن قرة الحراني، ونقله أبو عثمان الدمشقي منه مقالات، رأى ابن سينا منها العاشرة في الموصل، وقرأ من أصول الهندسة من أوله خمسة أشكال أو ستة على أستاذه النائلي، ثم تولّى بنفسه حلّ بقية الكتاب بأسره، ثم انتقل إلى كتاب بطليموس الشهير في الفلك ( المجسطي )، ويقع في ثلاثة عشرة مقالة وترجمه للعربية جماعة من النقلة أشهرهم إبراهيم بن الصلت وتصحيح حنين بن إسحاق، وهو عشر مقالات حسب فهرس ابن النديم، ولما فرغ من مقدماته وانتهى إلى الأشكال الهندسية قال له النائلي: " تولّ قراءتها وحلّها بنفسك، ثم اعرضها عليّ لأبيِّن لك صوابه من خطئه .. " وما كن الرجل يقوم من الكتاب! وأخذ ابن سينا يحل ذلك الكتاب، فكم من شكل ما عرفه، إلى وقت ما عرضه عليه وفهّمه إياه، ثم فارقه النائلي إلى كُركانج، عاصمة خوارزم آنذاك، واسمها بالعربية، جرجانية، واشتغل ابن سينا بتحصيل الكتب من النصوص والشروح، من الطبيعي والإلهي، وصارت أبواب العلم تنفتح عليه.
حتى رغب في علم الطب، وصار يقرأ الكتب المصنّفة فيه ولم يجده من العلوم لمسيرة الفهم، فلا عجب أن برز فيه في أقل مدّة، حتى بدأ فضلاء الطب يقرأون عليه علم الطب. وتعهّد المرضى، فانفتح عليه من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف، وكان مع ذلك يختلف إلى الفقه ويناظر فيه، وكان عمره آنذاك ست عشرة سنة !
توفّر على العلم والقراءة سنة ونصف، فأعاد قراءة المنطق، وجميع أجزاء الفلسفة، ما نام ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغل النهار بغيره، وجمعت بين يديه ظهوراً، فكل حجة كان ينظر فيها، يُثبت مقدمات قياسها ورُتبتها في ذلك الظهور، ثم نظر فيما عساها تنتج، وراعى شعور وشروط مقدماتها، حتى تحقق له حقيقة الحق في تلك المسألة. وكلما كان يتحير في مسألة، ولم يكن يظفر بالحد الأوسط ( وهو الحد المشترك في المقدمتين، ولا يظهر في النتيجة؛ مثل " الإنسان " في القياس التالي: كل إنسان فان / سقراط إنسان = سقراط فان، وأهمية الحد الأوسط تكمن في أنه أساس القياس الذي يربط بين المقدمتين، ويمكن به التوصل إلى نتيجة منها، ولذلك كان ابن سينا يهتم بأن يظفر بالحد الأوسط في أي قياس ) وإلا تردد إلى المسجد وصلّى وابتهل إلى مبدع الكل وبديع السماوات والأرض حتى يفتح له المنغلق وييسر له المتعسّر.
وكان يرجع بالليل إلى داره، ويضع السراج بين يديه، ويشتغل بالقراءة والكتابة، فمهما غلبه النوم أو شعر بضعف شرب قدح من الشراب ريثما تعود إليه قوته، ثم رجع إلى القراءة. ومهما أخذه أدنى نوم يحلم بتلك المسائل بأعينها، حتى إن كثير من المسائل، اتضح له وجوهها في المنام .. وكذلك حتى استحكم معه جميع العلوم، ووقف عليها بحسب الإمكان الإنساني.
وعلم كل شيء عن المنطق الطبيعي والرياضي حتى عدل إلى العلم الإلهي ( الميتافيزيقا )، وقرأ كتاب ( ما وراء الطبيعة ) وهو كتاب أرسطو في الإلهيات المعروف اليوم بالميتافيزيقا وكان في زمن ابن سينا مضطرباً، مختلط المباحث، به آثار من إحداث أفلاطون من ثم شكّك ابن سينا في نسبته إلى أرسطو وما كان يفهم منه حتى أعاد قراءته أربعين مرة وحفظه بالكامل دون فهم حتى يأس !
وإذا هو في يوم من الأيام في سوق الكتب القديمة وبين أحد الورّاقين مجلد ينادي عليه، فعرضه عليه، فرده متبرماً معتقداً أن لا فائدة من هذا العلم، لكن الدلّال عرض عليه أن يبيعه بثلاثة دراهم فصاحبه محتاج لثمنه، فاشتراه.
وكان الكتاب لأبي نصر الفارابي ( الفيلسوف الإسلامي المعروف المولود في فاراب ويعرف بالمعلم الثاني وأرسطو هو المعلم الأول ) والكتاب كان يتحدث في أمور ما وراء الطبيعة، عاد به إلى البيت وأسرع قراءته، فانفتحت عليه أغراض الكتاب الذي حفظه عن ظهر قلب، فشعر بسعادة بالغة، وتصدّق في ثاني يومه بشيء كثير على الفقراء شكراً لله تعالى.
كان سلطان بخاري في ذلك الوقت هو نوح بن منصور ومرض مرضاً حار فيه الأطباء. وكان اسم ابن سينا قد اشتهر بينهم بالتوفر على القراءة، فأجروا ذكره بين يديه بن منصور وسألوه إحضاره، فحضر وشارك في مداواته وخدمته وسأله يوماً الإذن في دخول دار كتبهم ومطالعتها وقراءة ما فيها من كتب الطب.
دخل داراً ذات بيوت كثيرة، في كل بيت كتب منضدة بعضها على بعض، مكتبة عملاقة بها من كتب العربية والشعر والفقه، وفي كل بيت كتب علم مفرد، فطالع فهرست الأوائل ورأى من الكتب ما لم يقع اسمه إلى كثير من الناس، وما كان رآها من قبل، ولا رآها أيضاً من بعد. فقرأ تلك الكتب، وظفر بفوائدها، وعرف مرتبة كل رجل في علمه .. فلما بلغ ثماني عشرة سنة من عمره، فرغ من هذه العلوم كلها !
كان إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه صار اليوم معه أنضج، وكان في جواره رجل يدعى أبو الحسين العروضي، فسأله أن يصنّف له كتاباً جامعاً في هذا العلم، فصنّف له المجموع وسمّاه به، وأتى فيه على سائر العلوم، عدا الرياضي، وكان في عمر إحدى وعشرون سنه، وكان معه أيضاً أبو بكر البرقي الخوارزمي الفقيه والمُفسّر والزاهد العالم، فسأله شرح الكتب، فصنّف له كتاب الحاصل والمحصول في ما يقرب من عشرين مجلدة، وصنّف له في الأخلاق، كتاباً سماه: كتاب البر والإثم، وهذان الكتابان لا يوجدان إلا عنده، فلم يُعر أحداً ينسخ منهما.
مات والد ابن سينا وتصرّفت به الأحوال، وتقلّد شيئاً من أعمال السلطان، ودعته الضرورة إلى الإخلال ببخاري والانتقال إلى جرجانية وكان ( أبو الحسن السهلي ) المحب للعلوم بها وزيراً؛ فقدمه إلى الأمير هناك ( علي بن مأمون ) ثم تنقّل من بلد إلى بلد حتى بلغ جرجان بجوار رجل اسمه أبو محمد الشيرازي هاوي للعلوم، وقد اختلف إليه في كل يوم، يقرأ المجسطي ويستملي المنطق ويصنف كتاب المبدأ والمعاد وكتاب الأرصاد الكلية وكتاب أول القانون ومختصر المجسطي والكثير من الرسائل.
من الكتب: المجموع ( مجلدة ) – الحاصل والمحصول ( عشرون مجلدة ) – الإنسان ( عشرون مجلدة ) [ ومن المدهش أن هذا الكتاب أضخم من الشفاء ومن القانون في الطب لكنه رغم ذلك كتاب مجهول ] – البر والإثم ( مجلدان ) – الشفاء ( ثماني عشرة مجلدات ) – القانون ( أربع عشرة مجلدة ) – النجاة ( ثلاث مجلدات ) – الهداية – القولنج ( مجلدة ) – لسان العرب( عشر مجلدات ) – الأدوية القلبية ( مجلدة ) – الموجز ( مجلدة ) – بعض الحكمة المشرقية ( مجلدة ) – بيان ذوات الجهة ( مجلدة ) – كتاب المعاد ( مجلدة ) – كتاب المبدأ والمعاد ( مجلدة ) – كتاب المباحث ( مجلدة ).
من الرسائل: القضاء والقدر – الآلة الرصدية – غرض كاتيجورياس – المنطق بالشعر- القصائد في العظة – الحكمة في الحروف – الإشارة إلى علم المنطق – مختصر إقليدس – مختصر في النبض، بالعجمية – الحدود – الأجرام السماوية – أقسام الحكمة في النهاية واللانهاية – حي بن يقظان – رسالة في أن أبعاد الجسم غير ذاتية له – خُطب – الكلام في الهندباء ( نبات مر نافع في العلاج ) – رسالة في أنه لا يجوز أن يكون شيء واحد جوهرياً وعرضياً – رسالة في أن علم زيد غير علم عمرو- رسائل إخوانية وسلطانية – مسائل بين الفضلاء – كتاب الحواشي على القانون – كتاب عيون الحكمة – كتاب الشبكة والطير.
انتقل إلى الري وهي مدينة مشهورة ينسب إليها أبو بكر زكريا الرازي، واتصل بخدمة السيدة وابنها مجد الدولة وعرفوه بسبب كتبه ومداواته لمجد الدولة من علل نفسية، ثم أقام عند شمس الدولة البويهي، ثم اتفق أن خرج إلى قزوين ومنها إلى همدان ( همذان ) محل الملوك ومعدن أهل الدين والفضل، واتصل بخدمة كذبا نويه ثم عاد إلى شمس الدولة يعالجه من القولنج حتى شفاه الله ( ونذكر هنا القولنج هو التهاب القولون وهو ذات المرضى الذي سيموت منه ) وأقام هناك أربعين يوماً بلياليها ثم صار من ندماء الأمير حتى عاد إلى همذان.
وللشيخ الرئيس من الكتب، كتاب اللواحق ( شرح الشفاء )، وكتاب الشفاء ( جمع جميع العلوم الأربعة )، وكتاب الحاصل والمحصول ( لا توجد فيه إلا نسخة الأصل )، وكتب الإنصاف والمجموع والمعاد ودانش نامه والإشارات والتنبيهات ورسالة حي بن يقظان.
قصة حي بن يقظان أحد أشهر وأعمق القصص العربي، حافلة بالرمز، رائعة البلاغة، يحكي فيها رحلة العقل البشري إلى الملكوت الأعلى، فحي هو الإنسان بوجه عام ( أما اسمي ونسبي فحي ابن يقظان، وأما بلدي فمدينة بيت المقدس، وأما حرفتي فسياحة أفكار العالم، حتى أحطت بها خبراً ) – حي هو الراوية وهو ابن سينا بفكره وحطمته – ( حولك هؤلاء الذين لا يبرحون عنك، إنهم لرفقة سوء، ولن تكاد تسلم منهم .. هذا الذي أمامك باهت مهذار يلفق الباطل تلفيقاً .. وهذا الذي عن يمينك أهوج إذا انزعج هائجه لم يقمعه النصح .. وهذا الذي عن يسارك قذر شره قرم شبق، لا يملأ بطنه إلا التراب .. ولقد أُلصقت يا مسكين لهؤلاء إلصاقاً ) يقصد برفاق السوء قوى البشر من وهم محير، ومن غضبية وعصبية ومن شهوات وبهيمية ( لا يبرئك عنهم، إلا غربة تأخذك إلى بلاد لم يطأها أمثالهم، وإذ لات حين الغربة. ولا محيص لك عنهم، فلتطلهم يدك .. وإياك أن تقبضهم زمامك، بل استظهر عليهم بحسن الإيالة، وسِمهم سوم الاعتدال ) فالإنسان ليس بمقدوره الخلاص من شهواته ونزواته إلا بالارتقاء إلى الطبقة الربانية في غمار النور الإلهي ( الغربة حسب تعبيره، وهو اللفظ الذي سوف يستخدمه السهر وردي في استكماله لقصة حي بن يقظان بعنوان قصة الغربة والغربية )، ( والله المستعان على حسن مجاورة هذه الرفقة، إلى حين الفرقة ) وفي قصة حي تمثل المعالم الجغرافية رموزاً للمعاني الفكرية المتباينة ( كما في رواية رحلة بن فطومة لنجيب محفوظ ) والإنسان معادل صغير لكون ذاته، حسب رأي فلاسفة الإغريق الرواقيون وإخوان الصفا وخلان الوفا وابن العربي ( وما استقاه ابن سينا نفسه من الفكر الفلسفي الشيعي الإسماعيلي الذي أنجب رسائل إخوان الصفا التي خطها فلاسفة الإسماعيلية: في تركيب الجسم، والبيان أنه عالم صغر، وأن بنية هيكله تشبه مدينة فاضلة، وأن نفسه تشبه ملكاً في تلك المدينة. والغرض منها هو معرفة الإنسان جسده وبنيته المهيأة له، وأن انتصاب القامة أجل أشكال الحيوانات، وأن بنية جسد الإنسان مختصر من العوالم، وإن معنى قول الحكماء العالم، إنما يعنون به السماوات السبع والأرضيين، وما بينهما من خلائق أجمعين، وسمّوه أيضاً إنساناً كبيراً، لأنهم يرون أنه جسم واحد بجميع أفلاكه وأطباق سماواته وأركان أمهاته ومولداتها، ويرون أيضاً أن له نفساً واحدة، سارية قواها في جميع أجزاء جسمه .. وإن أفعال الروحانيين، لا يتهيأ لأحدٍ من العالم الجسماني الوقوف عليها، والمعرفة بها إلا بعد معرفته بجوهر نفسه وكيفية فعلها في جسمه .. إذا اعتبرت بنية الإنسان، وتأملها، وجدتها جميع الموجودات، وفيها مثالات ما فيها بأسرها، فلذلك يسميها الحكماء عالماً صغيراً، إذ كانت مشاكلةً بجميع ما فيها، لجميع ما في العالم الكبير ) ويخرج حي من بلدته برزة ( التي ترمز إلى بروز الوعي الإنساني ) ليتعرف على العالم ويسبح مع العقل ويطير مع الطير ويقابل الملك الذي يطمع في ولد من صلبه دون الحاجة إلى أن يلمس امرأة ! ويقابل أبسال الشهوانية وعشيقها سلامان ( البسالة والسلامة ) فغرقت هي وسلم هو!
Hany_haggag@hotmail.com
" إن أبي كان من أهل بلخ وانتقل منها إلى بخاري في أيام نوح بن منصور واشتغل بالتصرف وتولى العمل أثناء أيامه بقرية يقال لها خرميثن من ضياع بخاري وهي من أمهات القرى، وبقربها قرية يقال لها أفشنة تزوج أبي منها بوالدتي، وقطن بها وسكن، وولدت منها بها، ثم ولدت أخي، ثم انتقلنا إلى بخاري. وأحضرت معلم القرآن ومعلم الأدب، وأكملت العشر من العمر وقد أتيت على القرآن، وعلى كثير من الأدب، حتى كان يقضي مني العجب. وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين، ويعد من الإسماعيلية، وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم، وكذلك أخي. وكانوا ربما تذاكروا بينهم، وأنا أسمعهم وأدرك ما يقولونه، ولا تقبله نفسي، وابتدئوا يدعونني أيضاً إليه، ويجرون على ألسنتهم ذكر الفلسفة والهندسة وحساب الهند ".
هكذا يتحدث ( ابن سينا ) – الشيخ الرئيس – عن نفسه وعن أبيه الذي وجّهه إلى رجل بقّال يدرس الحساب حتى يتعلم منه ثم جاء إلى بخاري أبو عبد الله النائلي ( ويدعى الناتلي) وكان حكيماً مهذباً درس الإلهيات وله رسالة في الوجود ورسالة في علم الإكسير، وكان يُطلق عليه المتفلسف وأنزله والد ابن سينا دارهم رجاء تعلّمه منه. وقبل قدومه كان ابن سينا يشتغل بالفقه ويتردد على إسماعيل الزاهد وكان من أجود السالكين، وقد ألّف طرق المطالبة ووجوه الاعتراض على المجيب؛ على الوجه الذي جرت عادة القوم به.
ثم بدأ بكتاب ( إيساجوجى ) على النائلي ( وهو كتاب معروف في المنطق كتبه فرفريوس الصوري كمقدمة في علم المنطق الأرسطي ) ولما ذكر له حد الجنس أنه هو: المقول على كثيرين مختلفين بالنوع في جواب ما هو. فأخذ في تحقيق هذا الحد بما لم يسمع بمثله، وتعجّب منه كل العجب؛ وحذّر والده من شغله بغير العلم، وكانت أي مسألة قالها له، يتصورها خيراً منه، حتى قرأ ظواهر المنطق عليه؛ وأما دقائقه فلم يكن عنده منها خير.
بعدها أخذ يقرأ الكتب على نفسه، ويطالع الشروح، حتى أحكم على المنطق وكذلك كتاب ( إقليدس )، أصول الهندسة المسمى أسطروشيا والذي نقله الحجاج بن يوسف بن مطر، نقلين، مرة باسم الهاروني، نسبة إلى هارون الرشيد، ومرة باسم المأموني، نسبة إلى الخليفة المأمون، ونقله إسحق بن حنين، وأصلحه ثابت بن قرة الحراني، ونقله أبو عثمان الدمشقي منه مقالات، رأى ابن سينا منها العاشرة في الموصل، وقرأ من أصول الهندسة من أوله خمسة أشكال أو ستة على أستاذه النائلي، ثم تولّى بنفسه حلّ بقية الكتاب بأسره، ثم انتقل إلى كتاب بطليموس الشهير في الفلك ( المجسطي )، ويقع في ثلاثة عشرة مقالة وترجمه للعربية جماعة من النقلة أشهرهم إبراهيم بن الصلت وتصحيح حنين بن إسحاق، وهو عشر مقالات حسب فهرس ابن النديم، ولما فرغ من مقدماته وانتهى إلى الأشكال الهندسية قال له النائلي: " تولّ قراءتها وحلّها بنفسك، ثم اعرضها عليّ لأبيِّن لك صوابه من خطئه .. " وما كن الرجل يقوم من الكتاب! وأخذ ابن سينا يحل ذلك الكتاب، فكم من شكل ما عرفه، إلى وقت ما عرضه عليه وفهّمه إياه، ثم فارقه النائلي إلى كُركانج، عاصمة خوارزم آنذاك، واسمها بالعربية، جرجانية، واشتغل ابن سينا بتحصيل الكتب من النصوص والشروح، من الطبيعي والإلهي، وصارت أبواب العلم تنفتح عليه.
حتى رغب في علم الطب، وصار يقرأ الكتب المصنّفة فيه ولم يجده من العلوم لمسيرة الفهم، فلا عجب أن برز فيه في أقل مدّة، حتى بدأ فضلاء الطب يقرأون عليه علم الطب. وتعهّد المرضى، فانفتح عليه من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف، وكان مع ذلك يختلف إلى الفقه ويناظر فيه، وكان عمره آنذاك ست عشرة سنة !
توفّر على العلم والقراءة سنة ونصف، فأعاد قراءة المنطق، وجميع أجزاء الفلسفة، ما نام ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغل النهار بغيره، وجمعت بين يديه ظهوراً، فكل حجة كان ينظر فيها، يُثبت مقدمات قياسها ورُتبتها في ذلك الظهور، ثم نظر فيما عساها تنتج، وراعى شعور وشروط مقدماتها، حتى تحقق له حقيقة الحق في تلك المسألة. وكلما كان يتحير في مسألة، ولم يكن يظفر بالحد الأوسط ( وهو الحد المشترك في المقدمتين، ولا يظهر في النتيجة؛ مثل " الإنسان " في القياس التالي: كل إنسان فان / سقراط إنسان = سقراط فان، وأهمية الحد الأوسط تكمن في أنه أساس القياس الذي يربط بين المقدمتين، ويمكن به التوصل إلى نتيجة منها، ولذلك كان ابن سينا يهتم بأن يظفر بالحد الأوسط في أي قياس ) وإلا تردد إلى المسجد وصلّى وابتهل إلى مبدع الكل وبديع السماوات والأرض حتى يفتح له المنغلق وييسر له المتعسّر.
وكان يرجع بالليل إلى داره، ويضع السراج بين يديه، ويشتغل بالقراءة والكتابة، فمهما غلبه النوم أو شعر بضعف شرب قدح من الشراب ريثما تعود إليه قوته، ثم رجع إلى القراءة. ومهما أخذه أدنى نوم يحلم بتلك المسائل بأعينها، حتى إن كثير من المسائل، اتضح له وجوهها في المنام .. وكذلك حتى استحكم معه جميع العلوم، ووقف عليها بحسب الإمكان الإنساني.
وعلم كل شيء عن المنطق الطبيعي والرياضي حتى عدل إلى العلم الإلهي ( الميتافيزيقا )، وقرأ كتاب ( ما وراء الطبيعة ) وهو كتاب أرسطو في الإلهيات المعروف اليوم بالميتافيزيقا وكان في زمن ابن سينا مضطرباً، مختلط المباحث، به آثار من إحداث أفلاطون من ثم شكّك ابن سينا في نسبته إلى أرسطو وما كان يفهم منه حتى أعاد قراءته أربعين مرة وحفظه بالكامل دون فهم حتى يأس !
وإذا هو في يوم من الأيام في سوق الكتب القديمة وبين أحد الورّاقين مجلد ينادي عليه، فعرضه عليه، فرده متبرماً معتقداً أن لا فائدة من هذا العلم، لكن الدلّال عرض عليه أن يبيعه بثلاثة دراهم فصاحبه محتاج لثمنه، فاشتراه.
وكان الكتاب لأبي نصر الفارابي ( الفيلسوف الإسلامي المعروف المولود في فاراب ويعرف بالمعلم الثاني وأرسطو هو المعلم الأول ) والكتاب كان يتحدث في أمور ما وراء الطبيعة، عاد به إلى البيت وأسرع قراءته، فانفتحت عليه أغراض الكتاب الذي حفظه عن ظهر قلب، فشعر بسعادة بالغة، وتصدّق في ثاني يومه بشيء كثير على الفقراء شكراً لله تعالى.
كان سلطان بخاري في ذلك الوقت هو نوح بن منصور ومرض مرضاً حار فيه الأطباء. وكان اسم ابن سينا قد اشتهر بينهم بالتوفر على القراءة، فأجروا ذكره بين يديه بن منصور وسألوه إحضاره، فحضر وشارك في مداواته وخدمته وسأله يوماً الإذن في دخول دار كتبهم ومطالعتها وقراءة ما فيها من كتب الطب.
دخل داراً ذات بيوت كثيرة، في كل بيت كتب منضدة بعضها على بعض، مكتبة عملاقة بها من كتب العربية والشعر والفقه، وفي كل بيت كتب علم مفرد، فطالع فهرست الأوائل ورأى من الكتب ما لم يقع اسمه إلى كثير من الناس، وما كان رآها من قبل، ولا رآها أيضاً من بعد. فقرأ تلك الكتب، وظفر بفوائدها، وعرف مرتبة كل رجل في علمه .. فلما بلغ ثماني عشرة سنة من عمره، فرغ من هذه العلوم كلها !
كان إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه صار اليوم معه أنضج، وكان في جواره رجل يدعى أبو الحسين العروضي، فسأله أن يصنّف له كتاباً جامعاً في هذا العلم، فصنّف له المجموع وسمّاه به، وأتى فيه على سائر العلوم، عدا الرياضي، وكان في عمر إحدى وعشرون سنه، وكان معه أيضاً أبو بكر البرقي الخوارزمي الفقيه والمُفسّر والزاهد العالم، فسأله شرح الكتب، فصنّف له كتاب الحاصل والمحصول في ما يقرب من عشرين مجلدة، وصنّف له في الأخلاق، كتاباً سماه: كتاب البر والإثم، وهذان الكتابان لا يوجدان إلا عنده، فلم يُعر أحداً ينسخ منهما.
مات والد ابن سينا وتصرّفت به الأحوال، وتقلّد شيئاً من أعمال السلطان، ودعته الضرورة إلى الإخلال ببخاري والانتقال إلى جرجانية وكان ( أبو الحسن السهلي ) المحب للعلوم بها وزيراً؛ فقدمه إلى الأمير هناك ( علي بن مأمون ) ثم تنقّل من بلد إلى بلد حتى بلغ جرجان بجوار رجل اسمه أبو محمد الشيرازي هاوي للعلوم، وقد اختلف إليه في كل يوم، يقرأ المجسطي ويستملي المنطق ويصنف كتاب المبدأ والمعاد وكتاب الأرصاد الكلية وكتاب أول القانون ومختصر المجسطي والكثير من الرسائل.
من الكتب: المجموع ( مجلدة ) – الحاصل والمحصول ( عشرون مجلدة ) – الإنسان ( عشرون مجلدة ) [ ومن المدهش أن هذا الكتاب أضخم من الشفاء ومن القانون في الطب لكنه رغم ذلك كتاب مجهول ] – البر والإثم ( مجلدان ) – الشفاء ( ثماني عشرة مجلدات ) – القانون ( أربع عشرة مجلدة ) – النجاة ( ثلاث مجلدات ) – الهداية – القولنج ( مجلدة ) – لسان العرب( عشر مجلدات ) – الأدوية القلبية ( مجلدة ) – الموجز ( مجلدة ) – بعض الحكمة المشرقية ( مجلدة ) – بيان ذوات الجهة ( مجلدة ) – كتاب المعاد ( مجلدة ) – كتاب المبدأ والمعاد ( مجلدة ) – كتاب المباحث ( مجلدة ).
من الرسائل: القضاء والقدر – الآلة الرصدية – غرض كاتيجورياس – المنطق بالشعر- القصائد في العظة – الحكمة في الحروف – الإشارة إلى علم المنطق – مختصر إقليدس – مختصر في النبض، بالعجمية – الحدود – الأجرام السماوية – أقسام الحكمة في النهاية واللانهاية – حي بن يقظان – رسالة في أن أبعاد الجسم غير ذاتية له – خُطب – الكلام في الهندباء ( نبات مر نافع في العلاج ) – رسالة في أنه لا يجوز أن يكون شيء واحد جوهرياً وعرضياً – رسالة في أن علم زيد غير علم عمرو- رسائل إخوانية وسلطانية – مسائل بين الفضلاء – كتاب الحواشي على القانون – كتاب عيون الحكمة – كتاب الشبكة والطير.
انتقل إلى الري وهي مدينة مشهورة ينسب إليها أبو بكر زكريا الرازي، واتصل بخدمة السيدة وابنها مجد الدولة وعرفوه بسبب كتبه ومداواته لمجد الدولة من علل نفسية، ثم أقام عند شمس الدولة البويهي، ثم اتفق أن خرج إلى قزوين ومنها إلى همدان ( همذان ) محل الملوك ومعدن أهل الدين والفضل، واتصل بخدمة كذبا نويه ثم عاد إلى شمس الدولة يعالجه من القولنج حتى شفاه الله ( ونذكر هنا القولنج هو التهاب القولون وهو ذات المرضى الذي سيموت منه ) وأقام هناك أربعين يوماً بلياليها ثم صار من ندماء الأمير حتى عاد إلى همذان.
وللشيخ الرئيس من الكتب، كتاب اللواحق ( شرح الشفاء )، وكتاب الشفاء ( جمع جميع العلوم الأربعة )، وكتاب الحاصل والمحصول ( لا توجد فيه إلا نسخة الأصل )، وكتب الإنصاف والمجموع والمعاد ودانش نامه والإشارات والتنبيهات ورسالة حي بن يقظان.
قصة حي بن يقظان أحد أشهر وأعمق القصص العربي، حافلة بالرمز، رائعة البلاغة، يحكي فيها رحلة العقل البشري إلى الملكوت الأعلى، فحي هو الإنسان بوجه عام ( أما اسمي ونسبي فحي ابن يقظان، وأما بلدي فمدينة بيت المقدس، وأما حرفتي فسياحة أفكار العالم، حتى أحطت بها خبراً ) – حي هو الراوية وهو ابن سينا بفكره وحطمته – ( حولك هؤلاء الذين لا يبرحون عنك، إنهم لرفقة سوء، ولن تكاد تسلم منهم .. هذا الذي أمامك باهت مهذار يلفق الباطل تلفيقاً .. وهذا الذي عن يمينك أهوج إذا انزعج هائجه لم يقمعه النصح .. وهذا الذي عن يسارك قذر شره قرم شبق، لا يملأ بطنه إلا التراب .. ولقد أُلصقت يا مسكين لهؤلاء إلصاقاً ) يقصد برفاق السوء قوى البشر من وهم محير، ومن غضبية وعصبية ومن شهوات وبهيمية ( لا يبرئك عنهم، إلا غربة تأخذك إلى بلاد لم يطأها أمثالهم، وإذ لات حين الغربة. ولا محيص لك عنهم، فلتطلهم يدك .. وإياك أن تقبضهم زمامك، بل استظهر عليهم بحسن الإيالة، وسِمهم سوم الاعتدال ) فالإنسان ليس بمقدوره الخلاص من شهواته ونزواته إلا بالارتقاء إلى الطبقة الربانية في غمار النور الإلهي ( الغربة حسب تعبيره، وهو اللفظ الذي سوف يستخدمه السهر وردي في استكماله لقصة حي بن يقظان بعنوان قصة الغربة والغربية )، ( والله المستعان على حسن مجاورة هذه الرفقة، إلى حين الفرقة ) وفي قصة حي تمثل المعالم الجغرافية رموزاً للمعاني الفكرية المتباينة ( كما في رواية رحلة بن فطومة لنجيب محفوظ ) والإنسان معادل صغير لكون ذاته، حسب رأي فلاسفة الإغريق الرواقيون وإخوان الصفا وخلان الوفا وابن العربي ( وما استقاه ابن سينا نفسه من الفكر الفلسفي الشيعي الإسماعيلي الذي أنجب رسائل إخوان الصفا التي خطها فلاسفة الإسماعيلية: في تركيب الجسم، والبيان أنه عالم صغر، وأن بنية هيكله تشبه مدينة فاضلة، وأن نفسه تشبه ملكاً في تلك المدينة. والغرض منها هو معرفة الإنسان جسده وبنيته المهيأة له، وأن انتصاب القامة أجل أشكال الحيوانات، وأن بنية جسد الإنسان مختصر من العوالم، وإن معنى قول الحكماء العالم، إنما يعنون به السماوات السبع والأرضيين، وما بينهما من خلائق أجمعين، وسمّوه أيضاً إنساناً كبيراً، لأنهم يرون أنه جسم واحد بجميع أفلاكه وأطباق سماواته وأركان أمهاته ومولداتها، ويرون أيضاً أن له نفساً واحدة، سارية قواها في جميع أجزاء جسمه .. وإن أفعال الروحانيين، لا يتهيأ لأحدٍ من العالم الجسماني الوقوف عليها، والمعرفة بها إلا بعد معرفته بجوهر نفسه وكيفية فعلها في جسمه .. إذا اعتبرت بنية الإنسان، وتأملها، وجدتها جميع الموجودات، وفيها مثالات ما فيها بأسرها، فلذلك يسميها الحكماء عالماً صغيراً، إذ كانت مشاكلةً بجميع ما فيها، لجميع ما في العالم الكبير ) ويخرج حي من بلدته برزة ( التي ترمز إلى بروز الوعي الإنساني ) ليتعرف على العالم ويسبح مع العقل ويطير مع الطير ويقابل الملك الذي يطمع في ولد من صلبه دون الحاجة إلى أن يلمس امرأة ! ويقابل أبسال الشهوانية وعشيقها سلامان ( البسالة والسلامة ) فغرقت هي وسلم هو!
0 تعليقات:
إرسال تعليق