Ads

ظاهرة القبطان البطريق

كاظم فنجان الحمامي
أحيانا تتضخم الحقائق المرة وتتراكم فوق رؤوسنا حتى تصل إلى المدى المزعج الذي تتحول فيه حياتنا إلى نكتة مؤلمة من نكات المهازل اليومية، التي صرنا نتعامل معها على مضض في ظل الهياكل الإدارية المفككة، وأحيانا تصل المفارقات الوظيفية التي نعيشها إلى أقصى حالات التردي المهني، فتتأرجح خطوطنا البيانية بين ذروة الإبداع والتفوق وبين منزلقات الهبوط نحو أدنى درجات اليأس والتخلف.
عندنا في مؤسساتنا البحرية أعداد هائلة من القباطنة البطاريق الذين لم يبحروا في حياتهم، ولم يركبوا زورقاً، ولم يعبروا جسراً، ومنهم من لا يجيد السباحة، ولم يجرب الصعود على ظهر سفينة بحرية أو نهرية، لكنك تجدهم يقفون دائما في طليعة المتحدثين عن أهوال البحار وتقلباتها العنيفة، وتجدهم يتربعون في المراتب العليا. 
لقد أسهمت معاهدنا البحرية في خلق هذه الظاهرة الأكاديمية المرفوضة، فمنحتهم الشهادات البحرية العليا، وارتقت بهم إلى قمة الهرم الزجاجي الهش، من دون أن يخدموا يوماً واحداً في عرض البحر، ومن دون أن يكون لهم أي موطأ قدم في المضمار المينائي أو في الملاحة الداخلية.
أذكر أن أحد هؤلاء البطاريق طلبوا منه ذات يوم أن يرسم لهم مساراً ملاحياً على الخارطة من غرب القارة الهندية إلى شرقها، فوقف منتفخاً متبجحاً ليرسم خطاً مستقيماً فوق اليابسة، ثم رمى القلم فوق الطاولة متفاخراً باختزاله الطريق عبر جبال الهملايا.
كتبت قبل بضعة أيام مقالة مختصرة عن المرشد البحري (يوسف حامد بندر)، وهو من طلاب الدفعة الأولى للكلية البحرية، الذين تخرجوا في الثمانينات، لكنه لم يفارق العمل الميداني حتى يومنا هذا، بينما نجد المئات من البطاريق الورقية، الذين اختاروا التراجع إلى الوراء بمحض إرادتهم. 
قباطنة من ورق ومهندسون بحريون من ورق، يعملون في بحار اليابسة، ويحلقون عالياً في فضاءات المراكز المرموقة. أحياناً تحاصرني الأحزان والآلام، وتستفزني وخزات الحقائق المرة. أرى من بعيد الكابتن (خالد الأسدي) يهيم على وجهه في مقاهي لندن من دون أن يحصل على التقاعد، وأرى الكابتن (علي صالح العامر) يقبع في بغداد بلا تقاعد، وأرى الكابتن (سمير سليم سمعان) يعتكف في بيته من دون حقوقه التقاعدية المعادلة لسنوات خدمته الطويلة. بينما يتمتع قباطنة الورق بالمزايا المالية والمعنوية.
قبل بضعة أيام شاهدت صورة فوتوغرافية مضحكة لقبطان من قباطنة آخر الزمان. لا يدري كيف يضع رتبته البحرية، هل يضعها إلى الأعلى أم إلى الأسفل ؟، فقلبها رأسا على عقب في إشارة واضحة لتفشي الجهل.
أما أشد المواقف غرابة في عالم الورق، فهو ضياع الربان (ضياء جعفر موسى صالح حمّاد)، الذي تخرج في أكاديمية الخليج العربي بدفعتها الأولى، لكنه تحول من ملاح في شركة ناقلات النفط إلى فلاح في شركة نفط الجنوب. في خطوة مفروضة عليه. لم تخطر على بال حيتان التهميش، ولا على بال آفات التحشيش، فمن غير المعقول أن يتحول الملاح إلى فلاح ؟، وهل يحدث مثل هذا الانقلاب الوظيفي في موزمبيق أو كوالامبور أو الصومال أو جزر الواق واق ؟. لكنها حصلت معنا، وكانت سابقة عجيبة تدعو إلى السخرية والتندر، وربما تدعو إلى الصراخ والبكاء. في حين أصيبت مؤسساتنا بشلل الترهل الوظيفي بعدما تضخمت سجلاتها بأكثر من ألف بطريق وبطريق من بطارقة الملاحة على السفن الورقية الجانحة في القنوات العقيمة.

0 تعليقات:

إرسال تعليق