Ads

القطرب ( قصة من عالم الرعب والغموض ) ج8


.....................................................................
في شكل حلقة ألتفت النسوة الشابات .. كن مجموعة من النساء المتفاوتات في أشكالهن وملامح وجوههن وثيابهن وتسريحات شعورهن وفخامة أو رثاثة ملابسهن وألوانها ونوعية أقمشتها .. لكن كلهن .. كلهن كن في شرخ الشباب ، بجمال أخاذ ، وجلود مشدودة ناعمة تبدو كقطعة الزبد .. لا عجوز بينهن ، ولا وسط ، فكلهن يسلن شبابا وملاحة ومجونا .. ووسطهن وقفت واسطة عقدهن وأكثرهن جمالا ودلالا .. " سليمين " ذات الشعر الأشقر الكثيف الذي يغطي ظهرها وينسدل حتى أعلي ساقيها .. حول النار ألتفت حلقة النسوة الجميلات وبجوارها وقفت الشقراء الفاتنة تؤدي رقصتها .. رقصة السبت الخالدة المتميزة !
تلك المرأة .. إنها لا ترقص يا ربي .. إنها تداعب الكون بحركاتها الرشيقة الخفيفة اللعوب فيكاد يئن من الوجد تحت قدميها .. بالقرب من النار المشتعلة وحول مجال نفوذها أخذت " سليمين " ترقص مرفرفة فوق الكون وتقيم الدنيا وتقعدها تحت وقع حركاتها الرشيقة .. حتى النساء المتجمعات حولها سحرتهن " سيليمن " برقصتها الأورفية الحالمة فتخلين عن طبيعة المرأة المتأصلة في الغيرة من بنات جنسها وأخذن يكلن المديح للراقصة ، التي أخذ شعرها المفرط الطول يلتف ويدور ويتموج حولها متناغما مع حركاتها الطائرة وكأنها يشاركها الرقص والحلم والسعادة ، ويطالبنها بالمزيد من الرقص والتموج مع الكون ومجراته .. كانت " سيليمن " سعيدة تلك الليلة بحق .. سعيدة حتى الصراخ والرقص والموت .. لقد حققت أعظم انتصارات حققتها في حياتها وجعلت كل ساحرات ( شيفلدان ) يبدون فتيات غرات جاهلات أمامها .. منذ متى لم تتمكن أية ساحرة في أوربا بأسرها من تحقيق ما حققته " سيليمن " بمفردها ؟!
إن تلك المرأة الرقيقة الجميلة قد أرعبت المقاطعة بأسرها ونشرت الرعب بين سكانها السخفاء وعلمتهم كيف يبتعدون عن طريق الساحرات ويخشون سطوتهن ويتركوهن يسبتن في الظل الرطيب دونما تطفل أو حشر أنوفهم فيما لا يعنيهم !
كم هي سعيدة بالرعب الذي سيطر علي أولئك الملاعين المتجبرين .. هتفت إحداهن في سعادة ظاهرة :
" منذ متى لم نستمتع بسبت هادئ كهذا يا فتيات ؟! "
ضحكت بعضهن وهمست " إيفينال " بدلال :
" ومنذ متى ونحن نحب السبوت الهادئة يا فتيات ؟! لكنني لا أشكو وسأكون شاكرة لو حظينا بسبت كهذا كل قرن ! "
تجاوبت الضحكات المائعة من النساء من كل جانب بينما رفعت " سيليمن " ذيل ثوبها كاشفة عن قدميها لتؤدي طقس الغمس .. في النار !
تنبهت النسوة جيدا ولاحظن بإعجاب ، وبعضهن بحسد ، كيف تقوم ذات الشعر الأشقر بذلك الطقس ببراعة .. لقد اقتربت " سيليمن " بهدوء من النار المتوهجة ثم تمتمت ببضع كلمات غامضة فتوهجت النار أكثر وألقت بالشرر في كل صوب بينما تقدمت هي وغمست قدميها حتى أختفي كاحليها في غمرة النار .. خطت " سيليمن " فوق النار واجتازت قلبها بجسارة متخطية سبع من رفيقاتها إلي الناحية الأخرى وهي لا تزال ترقص بثبات وهدوء .. تنهدت " إيفينال " عميقا وهتفت مخفية غيظها الداخلي :
" لقد أتقتنها يا فتاة ! أنت تتقدمين يوما عن يوم يا " سيليمن " ولن يطول الزمن حتى تدانيني في مهاراتي يا صغيرة ! "
فور انتهاء " إيفينال " من جملتها انطلقت الساحرات يضحكن بأصوات عالية ماجنة ، بينما لم تبدي " سيليمن " أي اهتمام أو اكتراث بما قالته منافستها الغيورة .. كانت النسوة يسخرن بضحكهن المكشوف من " إيفينال " المسكينة التي تظن نفسها تتفوق علي " سيليمن " التي تمكنت من تركيع ( شيفلدان ) وسكانها وسلطاتها الخائرة كلهم بضربة واحدة !
قالت " بييل " وهي تواصل ضحكها الماجن الساخر :
" نعم حقا صدقتي يا " إيفينال " كم مستذئبا أطلقت يا ذات المهارات ذلك القرن ؟! "
زادت جملة " بييل " من حمية الضحك والسخرية من " إيفينال " وثقتها الزائدة الزائفة بنفسها .. لكن " سيليمن " أوقفت تلك الموجة من المرح عندما توقفت فجأة عن الرقص والتفتت إلي الفتيات الرابضات حولها وسألتهن بقلق :
" من قال إنني أنا التي أطلقت المستذئبين علي سكان شيفلدان ؟! "
ران الصمت فجأة علي النسوة كلهن .. ونظرن لبعضهن متعجبات أو مستفهمات .. بينما هتفت " إيفينال " أطولهن لسانا عادة بإصرار:
" دعك من الإنكار يا فتاتي فهو لن يفيدك هنا ! نحن نعلم جيدا أنك أنت من أطلق هذين المستذئبين علي سكان تلك المقاطعة اللعينة وإننا لنحييك علي ذلك من قلوبنا .. لكنك لم تخبريننا كيف تمكنت من مسخ " أنسيل " ذلك المسخ العملاق ؟! "
بدأت القليل من النسوة يضحكن ثانية بينما تصلبت ملامح " سيليمن "وهي تسمع رفيقتها " دابني " تحييها بنشوة قائلة :
" نعم نعم عمل جيد يا فتاتي ! لكن تراك لما لم تطلقي المزيد من تلك المسوخ المتعطشة للدماء عليهم .. فهم يستحقون أكثر من مجرد مستذئبين أثنين ! "
بملامحها التي لا تزال متصلبة سألت " سيليمن " وقد ظهرت بوادر الانزعاج علي وجهها :
" من قال إنها مستذئبين ؟! ليس هناك في غابات شيفلدان علي حد علمي سوي مستذئب واحد فقط ! "
بهتت النسوة لكلامها ، في موقف آخر كن سيكذبنها وسيسخرن منها .. لكن ملامحها حملت إليهن رسالة صدق لا يمكن إغفالها أو الشك فيها .. طفت ملامح القلق علي وجوه بعض النسوة وقالت إحداهن بغير ثقة :
" ربما كان المستذئب الثاني من عمل إحداكن يا بنات ولا تود إخبارنا .. هل قمتن بتحويل مستذئبين قريبا دون علمنا ؟! "
تبادلت الساحرات النظرات القلقة وبدأت الهمسات الخائفة تتبادل بينهن .. قالت إحداهن بذعر :
"أليس من المعقول أن ساحرة خارج جماعتنا هي التي حولته ؟! "
كانت تقصد المستذئب الثاني الذي لا تعرف إحداهن من يكون بالضبط ..
لكن " سيليمن " ردت عليها بحدة مخرسة إياها :
" لا ساحرات خارج جماعتنا يا بلهاء .. نحن جماعة الساحرات الوحيدة في البلاد كلها ! ولا واحدة منهن فعلت ذلك .. أنا حولت واحدا فقط وأنا أعرف هذا جيدا كما تعرفنه فمن حول الثاني ؟! "
لم تتلق الساحرة العتيدة جوابا علي سؤالها الملح فتولت هي الإجابة بنفسها :
" لم تحول الثاني إحدانا ولا أحد غيرنا بقادر علي فعل ذلك ! أتفهمن ما الذي يعنيه هذا أيتها الشمطاوات .. إن المستذئب الثاني متحول طبيعيا وليس بأيدي ساحرة ! "
هبت النسوة واقفات بفزع وبدأن يجمعن حاجياتهن بلهفة ولهوجة فزعة .. رمقتهن " سيليمن " بنظرة ضيق وانزعاج من جبنهن وخوفهن المبالغ فيه .. لكنها التمست لهن العذر .. فقد كن علي حق تماما في الإصابة بكل ذلك القدر المستفحل ، الذي هو في الحقيقة أقل مما يجب ، من الذعر والفزع .. فلقد فهمن كلهن جلية الأمر !
إن المستذئب الثاني لم يكن عمل يد ساحرة .. بل هو من أعمال الطبيعة الأم .. لقد حولت الأم الكبرى أحد أطفالها لمستذئب وهذا يعني أنه ليس تحت سيطرة إحداهن وتحكمها .. إنه خارج السيطرة .. وخطر .. خطر جدا .. حسنا إذن .. لا مزيد من ليالي السبت هنا في تلك الغابة المخيفة .. فهناك مستذئب حقيقي ، وليس ذلك الأخر الذي تملك " سيليمن " قياده ، يجول حرا طليقا في الغابة .. لكن من عساه يكون ذلك المستذئب الآخر .. من عساه يكون ؟!
..............................

جري بأقصى سرعته مبتعدا .. رغم ضخامته ومنظره المروع إلا أن شكله وهو يعدو بجنون ببقايا ثيابه الممزقة المتدلية حوله وعيناه المنبلقتان خوفا وفزعا كان كفيلا بإثارة شفقة أي إنسان علي هذا المسخ البائس المعدوم الحيلة .. حتى ضحاياه أنفسهم كانوا جديرين بالإحساس بالشفقة نحوه لو أن أتيحت لهم الفرصة لرؤيته في هذا المنظر الغريب !
لقد أطلق الآخر سراحه .. لم يصدق أن هذا الشيء المخيف بالغ الضخامة يمكن أن يتركه يرحل ويخلي سبيله هكذا بسهولة .. ولكنه فعلها وإن لم يفهم الأول بعد كيف ولماذا تمكن من الإفلات !
لقد قرر " أنسيل " أن يخلي سبيل منافسه الخائر المصدوم من مطاردة الصيادون له بل ودله علي طريق الهرب .. تركه يذهب لكنه بقي هناك في الغابة وحده .. وحده وسط أولئك الأشرار الذين يتحرقون شوقا لاصطياده وتمزيقه والانتقام منه لمقتل قائدهم " دولين " !
ما الذي يمكن أن يقوله الصيادون الأشاوس لو عرفوا أن الغابة ليس فيها مستذئب واحد .. بل اثنين .. وأن أحدهما أبعد الآخر عن طريقهم لينفرد بهم لوحده ودونما مشاركة !
لقد قرر ابن الطبيعة الأم أن ذلك المتحول بشريا ، وصنيعة الساحرات وعشب البلادونا ودم الخفاش ، أجبن من أن يكون عونا له في مواجهة البشر الأكثر وحشية من كليهما .. لذلك روعه وأمره بمغادرة الغابة من فوره والابتعاد عن مجال صيده الخاص وإلا مزقه !
حتى وإن كان الآخر في طور التحول فهو قادر علي شم رائحته الخاصة وقادر علي استخراجه ، مثلما يستخرج أحدهم جثة من كومة روث وبنفس السهولة ، من وسط زمرة الذئاب كلها .. وساعتها سيكون عقابه مروعا أكثر مما يتصور أو يحلم !
من ناحيته أنتهز " ايزيا " الفرصة السانحة ولاذ بالفرار ناحية التلال القريبة تاركا الغابة خلفه تتلظي في نيران الحريق .. كانت الأشجار تشتعل وتهدي شعلات النار الصغيرة لبعضها والأخشاب المتفحمة تطقطق والأفرع المشتعلة تتهاوي محدثة صوتا مدويا أختلط بأصوات الرجال المهددة المخيفة وصرخاتهم الوحشية وهم يهرعون وسط الأشجار الكثيفة منقبين باحثين عن عدوهم الأول والأخير في تلك الحياة اليوم .. المستذئب المتوحش العملاق الجسور الذي كسر كافة قواعد عيش تلك المسوخ الجبانة وهاجم قائدهم ومزقه علي أعينهم وأمام أبصارهم المرتعبة .. لكن الأصوات زادت حدتها وقوتها ووحشيتها أكثر وأكثر .. فالمستذئب لم يكتفي بما حققه من نصر الليلة .. بل ، وعلي غرة أكثر مفاجأة لفرقة الصيادين ، برز لهم بغتة وهاجمهم هجوما ضاريا كاسحا غير مبال بطلقاتهم ورصاصاتهم التي انطلقت كالسيل عليه من كل ناحية !
الحلقة الأخيرة الخميس القادم بإذن الله


منال عبد الحميد

0 تعليقات:

إرسال تعليق