دكتور عادل عامر
يحتل الأمن مكاناً بارزاً بين أ لمهتمين والمسئولين والمواطنين في المجتمع المعاصر، لاتصاله بالحياة اليومية بما يوفره من طمأنينة النفوس وسلامة التصرف والتعامل. كما يعتبر الأمن نعمة من نعم الله عز وجل التي منَّ بها على عباده المؤمنين، فقد قال تعالى: (فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع واءمنهم من خوف) وقال × “ من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا “.ولقد رددت كلمة الأمن كثيراً خلال الفترة الماضية في جميع أنحاء العالم منذ أن انتشر الإرهاب وأعمال العنف عند الدول. والأمن بمعناه المباشرة هو أحد أنواع الأمن وليس كلها، فقد بدأنا نسمع كثيراً عن أنوع الأمن مثل: الأمن النفسي (ارتباط وثيق بالشعور والإحساس)، والأمن الغذائي (توافر الغذاء وعلاقته بقضية تحقق الأمن)، الأمن الاجتماعي (توفر الطمأنينة والرفاهية والتغلب على المرض والجهل والاعتداء على النفس)، الأمن الثقافي والفكري (عدم وجود أي عوامل خارجية وغزو فكري)، الأمن الاقتصادي (ثبات في الدخل واستقرار مادي)، الأمن المائي (توفر المياه) .. وهكذا. والأمن مسئولية الجميع، لقوله تعالى: ( من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) وهو ما يعني توحيد الأمة في مقاومة العدوان على فرد واحد، فضلاً عن العدوان على الجماعة. كانت هذه أسباب المراجعة القوية لمفهوم الأمن، وانصب اهتمام دارسي العلاقات الدولية على توسيع المفاهيم وتطوير النظريات حتى يتسنى لنا تفسير الواقع المتغير. وكان أحد المتطلبات هو أن تكون الدراسات في مجال العلوم الاجتماعية أكثر اقترابًا من احتياجات المواطنين -فيما يعرف بأنسنة العلوم الاجتماعية أو أنسنة قضايا الأمن.
ويرتكز مفهوم الأمن الإنساني بالأساس على صون الكرامة البشرية وكرامة الإنسان، وكذلك تلبية احتياجاته المعنوية بجانب احتياجاته المادية، والاقتراب الرئيسي هنا هو أن الأمن يمكن تحقيقه من خلال اتباع سياسات تنموية رشيدة، وأن التهديد العسكري ليس الخطر الوحيد، لكن يمكن أن يأخذ التهديد شكل الحرمان الاقتصادي، وانتقاص المساواة المقبولة في الحياة، وعدم وجود ضمانات كافية لحقوق الإنسان الأساسية. فتحقيق الأمن الإنساني يتطلب تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، وصون حقوق الإنسان وحرياته، والحكم الرشيد، والمساواة الاجتماعية، وسيادة القانون.
وعلى الرغم من أن الأفكار التي تشكل أساس أو دعامة مفهوم الأمن الإنساني تركز على الفرد كوحدة تحليل فإنها أيضًا تدخل في اعتبارها ما وراء الدولة وتتفق مع الاقترابات الحديثة في دراسات الأمن والسلم الدوليين التي تقوم على أن أمن وسلم أي دولة يعتمد على أمن وسلامة الدول الأخرى؛ فأمن الدولة رغم أهميته لا يعدو إلا آن يكون جزءًا من أجزاء البناء الأمني المتكامل. بمعنى أن أي نظام عالمي آمن ومستقر يبنى أمنيًا من أسفل (الأفراد) إلى أعلى (العالم). ومن ثم، فان أمن الدولة مجرد مساحة وسيطة. ويمكن تتبع جذور مفهوم الأمن الإنساني في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1945 الذي كان تركيزه منصب على إرساء بعض القواعد الكفيلة بحماية حقوق الإنسان، وبالتالي تحقيق الأمن الإنساني. تلي ذلك بعض المبادرات المحدودة لطرح مفهوم الأمن الإنساني، إلا أنه لم يكن لها صدى كبير ودور مؤثر في طرح المفهوم على أجندة العلاقات الدولية. ففي عام 1966 ظهرت نظرية سيكولوجية كندية باسم "الأمن الفردي Individual Security"، ومع بداية السبعينيات بدأت تظهر مجموعة من التقارير لبعض اللجان ومنها جماعة نادي روما، واللجنة المستقلة للتنمية الدولية، واللجنة المستقلة لنزع السلاح والقضايا الأمنية. وقد أكدت تلك اللجان في تقاريرها على أهمية تحقيق أمن الفرد. وركزت على ما يعانيه الأفراد في كافة أنحاء العالم من فقر وتلوث، وغياب للأمن الوظيفي في سوق العمل، ومن ثم ضرورة دفع الاهتمام نحو مشاكل الأفراد. إلا أن المساهمة الحقيقية لدفع المفهوم جاءت من خلال تقرير التنمية البشرية لعام 1994 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي؛ إذ تناول التقرير في الفصل الثاني "الأبعاد الجديدة للأمن الإنساني"، وتنبأ التقرير بأن تؤدي فكرة الأمن الإنساني رغم بساطتها لثورة في إدارة المجتمعات في القرن الحادي والعشرين.
أدت نهاية الحرب الباردة، وبشكل ملحوظ، إلى نشوء نظام عالمي جديد، فخلال الحرب الباردة برزت القوتان العظميان، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وأثرتا في مسار العلاقات الدولية لأزيد عن أربعين عاما. وقد كان الهدف الاستراتيجي لكليهما حماية أقاليمها من أي تهديد نووي، إلا أن نهاية الحرب الباردة أجبرتهما على إدخال تغييرات في تصوراتهما الأمنية والاستراتيجية.نهاية الحرب الباردة، بالنسبة لـ “فرانسيس فوكوياما“، كانت بمثابة انتصار للديمقراطية والرأسمالية، وهي بذلك تعبر عن نهاية التاريخ. بمعنى أن التاريخ دخل مرحلته النهائية كنتيجة لانتصار الولايات المتحدة وحلفائها وسقوط الاتحاد السوفييتي والدول الشيوعية الأخرى. وطالما أن الأمن العالمي على المحك، فإنه كان على العالم أن يتعامل مع وضع شبيه ببداية التاريخ. وباختصار، فقد تتوجب على باحثي العلاقات الدولية أن يعيدوا النظر في تصوراتهم النظرية حول الأمن. ما حدى بـ “ستيفن وولت” إلى وسم هذه المرحلة بمرحلة “النهضة للدراسات الأمنية”، في إشارة منه إلى ما تمثله من تطور في حقل العلاقات الدولية. ومن خلال النقاشات التي أثيرت حول مفهوم الأمن، يمكن الخلوص إلى أن المقاربة النقدية يمكنها التعامل مع أي تهديد في العلاقات الدولية.وسوف يتم عرض بعض محاور التصور النقدي للأمن، ولكن سيتم في المقام الأول استعراض التصور الواقعي الذي هيمن على هذا الحقل المعرفي، ليتبع بتصور الأمن الجماعي ونظرية السلام الديمقراطي، وأخيرا سيتم تحديد مقتضيات الأمن النقدي في الوقت الحالي. الواقعية في العلاقات الدوليةسيتم استعراض التصور الواقعي وفحص نظرته للأمن في العلاقات الدولية. الواقعية هي الطريقة التي يتم وفقها النظر إلى العلاقات الدولية كعلاقات قوة. ويتعين علينا الرجوع إلى اليونان القديمة والصين إذا أردنا تتبع جذور هذه النظرية. إذ أسسّ” توسيديدس” للواقعية ولعلاقات القوة التي تقوم عليها عبر تأريخه للحرب التي دارت رحاها بين أثينا وإسبرطا، والتي عرفت بـ”الحرب البيلونيزية”، وقد قال في هذا الصدد أن: “إرساء معايير العدالة يعتمد على نوع القوة التي تسندها، وفي الواقع، فإن القوي يفعل ما تمكنه قوته من فعله، أما الضعيف فليس عليه سوى تقبل ما لا يستطيع رفضه”. وبدوره أسدى “سان تسو”، الاستراتيجي الصيني الذي عاش في زمن “مو تي“، النصح للحاكم وكيفية صيانة بقائه، واستعمال القوة لتعزيز مصالحه خلال زمن الحرب، وهذا لأول مرة في التاريخ. وبعدها بقرون، في إيطاليا عصر النهضة، كتب الفيلسوف الإيطالي “نيكولا ميكيافيلي” حول القوة وصيانة الدول لوجودها وهذا في معرض استشاراته للأمير الذي كان يعيش وضعا مماثلا لوضع الصين القديمة زمن سان تسو، وفي كتابه “الأمير” نصح ميكيافيلي الحاكم بجعل القوة والحالة الأمنية فوق كل اعتبار، ونحن اليوم نستعمل مصطلح الميكيافيلية لوسم استخدامات القوة بشكل مفرط بهدف التحكم في الأمور. وفي عام 1700، أوجد الفيلسوف السياسي الإنجليزي “توماس هوبز” تصور “حالة الفطرة” و”الليفياتان” وأظهر أن الحروب والنزاعات بين الدول شيء لا يمكن تجنبه. ويعني “الليفياتان” ما نحتاجه لـ “إقرار النظام وإنهاء الفوضى المميزة لحالة الفطرة”، ويمكن أن يلعب هذا الدور “حاكم أعلى” أو “سلطة الدولة”، ويرتئي هوبز أن الإنسان الذي يعيش “حالة الفطرة”، إنما يعيش وضعا يقاتل فيه الكل بعضهم بعضا.هذه الرؤية أثرت في التصور الواقعي للعلاقات الدولية، وهذه الصورة حول الفرد تنطبق على العلاقات بين الدول، لأنه لا وجود لـ “الليفياتان” أو القوة الفوقية. وبهذا فإن النظام العالمي الذي تتفاعل فيه الدولة دون سلطة فوقية يمكن أن يصبح فوضويا تتصارع فيه الدول من أجل القوة وفق منطق “الكل ضد بعضهم البعض”. إذن، وبحسب هوبز، فإن الدول، كفاعلين في العلاقات الدولية، تبدوا في حالة صراع دائم فيما بينها من أجل القوة. وهذا ما يجعل من الفاعلين من غير الدول كالأمم المتحدة، والاتحاد الأوربي، والمنظمات غير الحكومية وغيرها لا تعتبر فاعلين من المنظور الواقعي. ونسمي هذه الحالة بالافتراض دولاتي–التمركز (أي متمحور حول الدولة). إن دور الدولة في هذه الوضعية يتمثل في حماية نفسها من الدول الأخرى، وذلك مرادف للأمن “القومي”، الذي يتمحور حول امتلاك القوة الكفيلة بحماية مصالح دولة معينة من أعدائها. وهذا ما جعل من الواقعية صراعا حول القوة في العلاقات الدولية. إذ أن النزاعات الدولية، من وجهة النظر هذه، رافقت التاريخ البشري، فعندما تحاول الدول الصراع من أجل القوة لحماية نفسها ومصالحها المحددة بزيادة مستويات القوة لديها، فهي بحاجة في ذلك إلى قرارات عقلانية حول الأمن، والهدف من ذلك هو سعيها الدائم لتعزيز مصالحها، فالدول كفاعل في العلاقات الدول يجب أن تكون عقلانية
كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العامورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
عضو والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية
0 تعليقات:
إرسال تعليق