Ads

ميدان التحرير من رمز للثورة إلى وجع في قلب الثورة


دكتور عادل عامر

الثورة التي أقامت قلعة صمودها في قلب قاهرة المعز ، ميدان التحرير ، هذه المدينة الكبرى التي يسيطر عليها اكبر الأنظمة البوليسية القمعية في العالم العربي ، نظام حسني مبارك ، نظام الرجل الأوحد أصبح هذا الميدان الكبير رمزاً للصمود والثورة منذ يومها الأول في 25 يناير ، بعد أن اجتهد الأمن المركزي للنظام على منع المتظاهرين من الوصول إلى الميدان حتى انهار هذا الجهاز في جمعة الغضب لطالما افتخر بهذه الآلة القمعية النظام ، واليوم يستعين بمافيا الشوارع بدلاً منها لتصبح جمعة 28 يناير حداً فاصلاً في تاريخ مصر وحادثة فارقة في عموم ثورات الجماهير عبر التاريخ الإنساني ، إذ اثبت شباب مصر إنهم اقوي من كل آلات القمع البوليسية .. فلم يصل الثوار إلى ميدان التحرير فحسب في جمعة الغضب، وإنما سقطت القاهرة كلها بين أيديهم بعفوية وتلقائية غير مخططة اعتمدت على الزخم الشعبي المهول الذي لم يتوقعه النظام..ولا المخابرات الأمريكية كما تحاول الإدعاء اليوم ! سقط الميدان بيد الثوار، وأقاموا به قلعة الحرية والصمود، البقعة المباركة التي شدت أنظار البشر في كل العالم، متاريس.. خطوط دفاعية.. مستشفيات ميدانية.. تفتيش دقيق ومنظم، ومع إن المدافعين عن الميدان لم يكونوا مسلحين، لكنهم خاضوا المعارك التي كلفتهم ما يقارب الألف إصابةٍ في يومين.. وسطروا أروع ملاحم الصمود في وجه نظام عميل حكم مصر لأكثر من ثلاثين سنة عجز عن اقتلاعهم من ميدان الصمود هذا أمام مرآي الإنسانية كلهــا..! نحن نتحدث عن ميدان عظيم يتسع لما يزيد على المليون، لم يكن في العالم من يصدق ثورة في عالمنا العربي بهذا الشكل ولا حتى المجانين، لكنها حدثت ولا تزال تحدث.. ملايين منظمين بلا سلاح.. ويعتصمون بميدانٍ محصن اختلق النظام المصري عديد الأكاذيب والحيل الدرامية لاختراقه بالأمن والشرطة والقتلة والخيول والجمال.. فلم يفلح .. لا يزال المعتصمون في الميدان ، وبعد ليلتين قاسيتين مجهدتين ( الثالث و الرابع من شباط الجاري ) هدد فيها النظام الثوار بالموت المتعدد الألوان على أيدي الأمن و" البلطجية " ، ها هي الملايين في هذه الليلة ( الخامس من شباط ) تحتفل بصمودها الكرنفالي فرحاً في قلب الميدان .. شهد ميدان التحرير منذ شهور قليلة واحدة من أهم الثورات بالتاريخ المصري حيث أسقط شباب واعي نظام سياسي فاسد أستمر لنحو ثلاثون عامًا يُخرب العقل المصري قبيل سائر أشكال التدمير الأخرى،إلا أن ذلك الميدان وبعد أن كان المدينة الفاضلة لجموع المصريين أصبح"مرتع" للبلطجية وغيرهم ممن يسيئون لمصر و لروح ثورة التحرير حيث اعتداءات جنسية بالجملة على نساء مصر في ظل تراجع مُخيف لدور الشرطة التي أُستبيح بعضًا من رجالها- سرقة السلاح الميري للملازم الذي دافع عن الصحفية ماريانا عبده وبالأمس القريب سرقة سلاح ميري أخر لأمين شرطة من قبل بلطجية- الذين يقومون بدورهم على نحو مُغاير لما كان عليه بالماضي. غير أن ميدان التحرير لم يعد الآن إلا مكاناً لذكرى كبيرة لثورة تاريخية حملت بالإخوان المسلمين إلى الحكم لأول مرة في تاريخ مصر. ويبدو أن السياح الأجانب أكثر حماسة من المصريين أنفسهم للذهاب إلى ميدان التحرير، وغالبية القوى السياسية المصرية أصبحت تبدي فتوراً لأية دعوات للتظاهر في الميدان، فهي أقنعت أكثر من أي وقت مضى بضرورة منح التجربة السياسية الجديدة لم أكن أتخيل أن ميدان التحرير بعظمته وجلاله سيمتهن امتهانا أسوأ بكثير من امتهان سلم نقابة الصحفيين قبل الثورة. لقد أهين الميدان سياسيا بالاستقطاب، وها هو يهان أخلاقيا بتركه فريسة لتجار المخدرات والدعارة والمتحرشين. حوادث التحرش التي سجلت في الذكرى الثانية للثورة تدعونا جميعا إلى الخجل، «بلغت 23 حالة حسب تقرير مركز النديم إن القول بأن الديمقراطية هي الأخذ برأي الأغلبية وعدم الالتفات لرأي الأقلية هو قول قاصر إذ لابد من أن تكون هناك آلية تحول دون طغيان الأغلبية واستبدادها وتضمن لها المشروعية، آلية ترتكز علي سلطان العقل. هذه الآلية قد تأخذ شكلا مؤسسيا قضائيا كأن توكل لهيئة قضائية أولا مهمة التيقن من خلو العملية الانتخابية من حيل الاستقطاب ووسائل الخداع والتلاعب بالعقول وثانيا مهمة التأكد من استناد رأي الأغلبية علي قوة الحجة والعقل حتي لا تكون عدوانا علي حرية الفرد أو حرية الأقلية. إن تشكل الثقافة الديمقراطية في المجتمعات الغربية علي مدي العصور كان له دور فعال في الحيلولة دون طغيان الأغلبية واحترام حرية الفرد وحقوقه الأساسية وهو المبدأ الأساسي لليبرالية. إن عقد اللواء لحرية الفكر والاعتقاد، وحماية حقوق الفرد من كل جور وطغيان هو من ثوابت الثقافة الديمقراطية. وحينما أقول الثقافة الديمقراطية فإنني لا أتحدث عن الدولة وإنما أتحدث عن الشعب والمجتمع، ذلك لأن الفكر الشائع هو حماية الأمة من طغيان الدولة ومن آثام استبدادها السياسي. ولئن كان التاريخ السياسي يعج بالفعل بأمثلة عديدة تؤبلس الدولة وتدلل علي سلطويتها واستبدادها بشعبها، إلا أن القوانين الوضعية استطاعت أن تضع آليات تحد من هذه السلطوية مثل مبدأ الفصل بين السلطات أو اللجوء إلي القضاء. الحق أننا ينبغي أن نفرق بين الدولة والحكومة، فالأولي بريئة من الآثام التي ترتكبها الحكومة، إن الدولة هي رمز العنف المعقلن المنظم للمجتمع ولا يظهر الطغيان في الأفق إلا حينما تغتصب الحكومة الدولة وتستغل أدواتها في تحقيق مآرب خاصة للقائمين عليها. وأما فيما يتعلق بسلطوية الشعب وطغيانه وهو أمر قد يدهش له السامع والقارئ فإن التاريخ نفسه يعج بأمثلة كثيرة له وليس أدل علي ذلك من الثورة الفرنسية التي تمخضت عن الإرهاب الشعبوي تحت زعامة روبسبير والثورة الإيرانية تحت زعامة الملالي. وهذا النوع من الإرهاب هو في رأيي أشد خطورة من إرهاب الدولة لكونه المنبع الأساسي للإرهاب الفكري الذي يتعارض جذريا مع الديمقراطية. ومعني ذلك أن الديمقراطية هي بالأساس ظاهرة مجتمعية ترتبط ارتباطا وثيقا بذهنيات المجتمع وعقلياته. ولست بحاجة لأن أدلل هنا علي أن مجتمعاتنا لا تتحمل رأيا حرا. إننا في مجتمعات تريد الديمقراطية في السياسة ولا تريدها في الفكر وبالأخص في الفكر، الديني والعقائدي. وهذا ما يفسر لنا لماذا كانت المجتمعات العربية تربة خصبة لتخليق الحاكم الطاغية وانتشار وسائل القمع البوليسية لكل رأي معارض له. وكان التعبير عن حزمة المشاعر هذه، ومعاً، وعلانية، وفى ميدان التحرير، شيئاً جديداً على آلاف المصريين، الذين عزلهم نظام مُبارك عن بعضهم البعض، فقد بثت مؤسساته الأمنية الخوف والشك وعدم الثقة في الآخرين وهى الحالة التي يصفها عُلماء الاجتماع بـ«الأنامالية».. فكل في جزيرته أو شرنقته المُنعزلة، لا يكترث بغيره أو من حوله، ولسان حاله يقول، «وأنا مالي»! والطريف هو أن اللفظ الفرنسي الإنجليزي لهذه الحالة، وهى Anomie، قريبة جداً من المصرية العامية «وأنا مالي»!وقد مثّل ميدان التحرير بالنسبة للآلاف، ثم للملايين، حالة مُضادة «للأنامالية»: فمن العزلة إلى التواصل، ومن عدم الاكتراث إلى الانخراط، ومن الخوف إلى الأمان، ومن الشك في الآخر إلى الثقة بمن يُجاوره في الميدان، ويقتسم معه رغيف خُبز، وزجاجة مياه. ولكن كما يذهب أحد الأقوال المأثورة: «إن زاد الشيء عن حده، انقلب إلى ضده»، وهكذا حالة ميدان التحرير.. فلأنه يقع مادياً في قلب العاصمة، وهو الصلة بين شرايينها الرئيسية. ولأن القاهرة هي بمثابة القلب لكل الديار المصرية، فإن تعطيل أو سد هذه الشرايين لمدة أطول من أيام أو أسابيع يمكن أن يؤدى إلى عواقب وخيمة. لذلك ينبغي مُقاومة «عادة التحرير»، قبل أن تتحول إلى حالة «إدمان التحرير».فكما أن السُلطة إفساد، فإن الإدمان إهلاك، فلنراقب ولنحاسب من هم في السُلطة، حتى لا يُفسدون، وليتحاشى المواطنون الإدمان حتى لا يهلكوا.

--
كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
 عضو  والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية
-->

0 تعليقات:

إرسال تعليق