Ads

حرب المروحيات والمراوح


عبد الرازق أحمد الشاعر

عام 1960، رفع جين بول سارتر لواء التمرد على العربدة الفرنسية في القارة السوداء، وطالب الجنود الفرنسيين بالانسحاب من الجزائر والعودة إلى أحضان ذويهم. وحين تنامى إلى مسامع الرئيس الفرنسي شارل ديجول ما قاله سارتر، لم يحرك ساكنا، وظل مطبقا شفتيه على أنفاسه الحارة. يومها، لم يرق صمت ديجول للكثيرين من القادة العسكريين لأنهم كانوا يخشون من تمادي سارتر في تأليب ذوي الضمائر الحية عليهم. وحين أعرب أحدهم جهرة عن استنكاره لموقف الرئيس الفرنسي من الوجودي الثائر، قال ديجول: "إنه سارتر! من يستطيع أن يهزم سارتر؟"
كان ديجول يعلم تماما أن أطنان البارود التي قلبت الجزائر ظهرا على بطن ولونت الأسمنت بالأحمر القاني وغيرت ملامح الخارطة ولون المستقبل لن تفلح في قمع الأقلام الحرة، وأن أقدام جنوده التي تخوض في برك الدماء هناك لا تستطيع التقدم شبرا واحدا نحو محبرة كاتب جريء لا يعرف في الحق لومة قائد. سكت ديجول عن تحريض سارتر مرغما لأنه كان يعلم يقينا أن نقطة حبر واحدة من قلم فيلسوف العصر قادرة على إلقاء بزته العسكرية بكل ما عليها من نياشين في وحل التاريخ.
يوما ما احتل الفرنسيون الجزائر بحجة استعادة هيبة فرنسا بعد أن لوح الداي حسين بمروحته في وجه القنصل الفرنسي ذات إهانة، واليوم تحتل مالي بحجة حماية الشرعية والمستضعفين من شرور الإسلاميين الذين تحولوا إلى مشجب تاريخي لكل محتل وطامع. وبعد اعتذار جاء متأخرا جدا لشعب ذاق الأمرين وفقد مئات الآلاف من الأرواح التي لم تدر فيم قُتِلت، تتقدم الأحذية الفرنسية الثقيلة لتطأ رقاب شعب إفريقي آخر بحجة أخرى أكثر تقبلا في أروقة النفاق العالمي.
ذات استغفال، أعلن الفرنسيون توجه أربعين ألف حذاء ثقيل نحو سواحل الجزائر لاستعادة هيبة فرنسا، لكنهم لم يعلنوا عن نيتهم إسقاط ديون تقدر بعشرين مليون فرنك فرنسي استدانتها فرنسا من خزائن حبوب الجزائر إبان ثورتها المباغتة بعد أن حاصرتها الدول الأوروبية قاطبة. واليوم تتقدم نفس الوجوه الكالحة بحجة مشابهة لسحل شعب لا يدري أطفاله لماذا يُقتلون. 
باسم حماية الأطفال، تُسقط فرنسا اليوم مئتين وخمسين كيلوجراما من المتفجرات فوق رؤوس الآمنين، وتعربد طائراتها في سماواتنا البليدة التي لا تستطيع رصد محركاتها ولا متابعة دوائر دخانها الملفوفة المشتبكة. وباسم محاربة الإرهاب والتطرف، تزداد القوات الغازية تطرفا كل يوم وتتوغل في فيافيفنا وتمعن في إذلالنا وقهرنا واستباحة أراضينا لأنها لا تخشي آلياتنا الصدئة ومجنزراتنا البالية. 
تتقدم الخطى الثقيلة نحو الشمال في مالي مدعومة بصمت دولي مريب ومباركة غير مشروطة ودعم مخابراتي ولوجستي من قوى الاستبداد الإنجليزية والأمريكية لتكسب كل لحظة أرضا جديدة من فيافينا الثرية. ها هي القوات الفرنسية مصحوبة بدعوات الطيبين في أرجاء المعمورة، تقتل في يوم واحد عشرة من المدنيين منهم ثلاثة أطفال أرادوا أن ينجوا من الحريق فكان مصيرهم الغرق في نهر ظنوا أنهم عابروه بسواعدهم المرهقة وعضلاتهم الصغيرة. 
في كل يوم، باسم تحرير الشعوب تتغول الدول الكبرى وتعربد في سماواتنا كيفما تشاء لأنها تضمن أن مفكرا بحجم سارتر لم يعد له وجود بعد أن تحولت الرؤوس في أوروبا الغازية إلى دانات مدافع، وتحولت الأقلام إلى ثعابين رقطاء تكره كل ما هو إسلامي وتقتل بذنب أو دون جريرة من يرفضون الدوران في فلك المحتلين والطواف حول غاياتهم المقيتة التي لم تعد خافية على أحد. اليوم يحتل الفرنسيون النيجر كما احتلوا الجزائر بالأمس، لكنهم لا يجدون رؤوسا سارترية تقف في وجه أطماعهم الاستعمارية. وإن كانت فرنسا قد احتلت الجزائر قرنا ردا على تطاول مروحة إفريقية على مندوب فرنسي سام، فكم يا ترى تحتاج لتعيد الأمن لأبناء النيجر المستغيثين بصدرها الرؤوم؟ لكم الله أيها النيجريون!

-->

0 تعليقات:

إرسال تعليق