دكتور عادل عامر
معركة الدستور بين الإسلاميين وخصومهم مؤهّلة لتكون واحدة من أشد المواجهات ضراوة، تلك التي يحلو للبعض بأن يسميها "معركة الدستور بين الإسلاميين وبين مجموعات من الليبراليين والشيوعيين والاشتراكين وكافة التيارات السياسية المدنية الاخري . لكن وبهدوء.. ألم تخرج أغلب دساتير العالم من برلماناتها المنتخبة؛ فحسب دراسة لجامعة Princeton الأمريكية (أورد بعض نتائجها د.معتز عبدالفتاح في مقال نشرته "الشروق")، أن من بين 200 حالة لكتابة الدساتير في العالم، فى الفترة من 1975 وحتى 2003، قام البرلمان بكتابة 42 % منها، أو عبر هيئة تأسيسية معينة من قبل البرلمان (بنسبة 9% من الحالات). وهذا طبعًا ليس له علاقة برؤية البعض في أنَّ هذه الملايين ليست من المصريين، أو حتى بما يتحدثون بشأنه من أن الديمقراطية لا تختصر في صناديق الاقتراع. وهو حديث لم نكن لنسمعه لولا الفشل الذي صاحبهم على طول المسيرة الانتحابية حتى تأكّد لهم أنهم لا يمثلون إلا أنفسهم، وليس أمامهم إلا الصراخ عند أي خطوة يخطوها الشعب. معارضة الأقلية للأغلبية من الأمور المتعارف عليها في مجتمعات العالم الحديث، إلا أنَّ الطرق التي ينتهجها المعارضون في بلادنا، وحدة الخطاب، ولهجته تختلف كثيرًا، حتى ليبدو الأمر أشبه بانقلاب. بل هي بالفعل رغبة دفينة في الانقلاب لو أُتِيحت لهم وسائله، مهما كلف البلاد والعباد في هذا المنعطف الفاصل برز الدور الأساسي والحاسم للإخوان المسلمين، فهم يمثلون التنظيم الأكبر والأكثر إحكاماً، وقد تمكنوا من شق الصف الثوري وفرض، أو على الأقل محاولة فرض، درجةٍ ما من البطء على مجرى الأحداث مكنت النظام من التقاط أنفاسه وترتيب ما أمكنه من الأوراق، لكن ذلك لا ينفي اشتراكهم مع بقية القوى في انعدام توقعهم أو استعدادهم لتغييرٍ ثوري من هذا النوع... وبوصولهم إلى السلطة في ظروفٍ ليست بعيدةً تماماً عن الشبهات أكدوا ورسخوا استعصاء الثورة وأثبتوا وجهاتٍ نظرٍ سلبية فيهم كانت تطوف بأذهان الكثيرين إما رأياً وقناعةً وإما حدساً. لقد اثبت د مرسي والإخوان من ورائه أنهم استثمروا طويلاً في التنظيم المحكم على حساب التنظير وأن جعبتهم المتينة الفخمة خالية، فهم لا يختلفون إطلاقاً عن نظام مبارك من حيث انحيازاته الطبقية ولا يملكون رؤيةً مغايرة، ليس أدل على ذلك من لجوئهم إلى نفس الطرق والأساليب التي كان ينتهجها مبارك مثل قرض صندوق النقد الدولي، وباستثناء مشروعهم الخاص الذي يهدف إلى تمكين كوادرهم وإحلالهم في مناصب الدولة الحساسة فليس لديهم مشروعٌ وطني، بالإضافــــة إلى ذلك فقد اثبتوا للأسف انعدام درايتهم وقـــــدراتهم الإدارية وافتقارهم للتصورات عن طريق سلسلةٍ من الــقــرارت المتسرعة التي تصب في خانة 'التمكين' سرعان ما يجبرون على التراجع عنها لانعدام قانونيتها من قبيل قراري عودة مجلس الشعب المنحل وإقالة النائب العام، ناهيك عن تصريحات أعضاء الجماعة بلسان الرئاسة دون أن تكون لأيٍ منهم أية صفةٍ رسمية، وليس من عجب في كون ذلك التخبط والارتباك البين أديا إلى تآكل شعبيتهم وإلى كفران قطاعاتٍ وشرائح متزايدة من الشعب بالثورة. مثقلون بهذا الهبوط في الشعبية وذلك الارتباك، وإزاء ما يلوح من أزمةٍ في فرض حضور الدولة وبسط سيطرتها كما برهن على ذلك التعامل مع الملف الأمني في سيناء في تقديري الشخصي انزلقت الجماعة إلى أكبر اختبارٍ أو أزمةٍ في تاريخهم... أزمة احترام الجمهور الأوسع لهم وتعاملهم معهم بجدية، وهي أزمةٌ لم يفرضها عليهم نظامٌ ما بما يتيح لهم استغلالها في تثبيت أسطورة الاضطهاد التي طالما كسبوا من ورائها وإنما هي نتاجٌ مباشر لما سبق وذكرته آنفاً من خللٍ لصالح التنظيم على المضمون والتنظير... أنا على يقين من أن كل تلك المتغيرات وغيرها لا تخفى على قواعد الجماعة وقياداتها، كما أن سخرية الصحافة ورجل الشارع منهم ليست سراً، ومن هنا نفهم تشبثهم اليائس بتمرير هذا الدستور فنصوصه كفيلة ليس فقط بإعطاء د. مرسي صلاحيات خاصة وإنما من تكبيل مجتمع المستقبل بشبكة من التشريعات ترسخ لوجودهم من خلال مجموعة من التصورات تحد من الحريات والحقوق وتفرض نمطاً محدداً من العلاقات والواجبات على مختلف مكونات ذلك المجتمع بما يسمح دائماً بحضور الجماعة ومن هم على شاكلتها في صدارة المشهد السياسي بامتياز. هناك معركةٌ تلوح في الأفق، وهي قادمةٌ لا محالة، ففي حال حل الجمعية (كما هو مرجح) سيكون ذلك بمثابة ضربةٍ قانونيةٍ قاصمة للجماعة ولمساعيهم للتمكين والتغلغل في نسيج الدولة ونصوص الشرعية التي تصيغ العقد الاجتماعي، وإذا ما أضيف إلى تراجعاتهم المستمرة فذلك كفيلٌ بإشعارهم بالعجز المتزايد وبالحصار الذي يلتف حولهم ليعزلهم، كما أنه سيشكل انتصاراً معنوياً للقوى المدنية... ولا نعلم كيف سيكون رد الجماعة في تلك الحال وهل تخبئ شيئاً ام أننا رأينا آخر ما عندها؛ أما إذا حدث العكس فستحشد كل القوى المدنية طاقاتها لإسقاطه في الاستفتاء. من المستحيل التنبؤ بما سيسفر عنه هذا الصراع، فالبلد يعيش حالة سيولة يصبح معها كل شيء ممكناً تقريباً...الأكيد أن الايام المقبلة ستكون عاصفة وستشهد استقطاباً متزايداً بين القوى السياسية... وربما عنفاً. تشهد الساحة السياسية المصرية كماً كبيراً من المعارك بين أنصار التيار المدني وأنصار التيار الإسلامي المتشدد، حيث نجح التيار الإسلامي في فتح جبهات عديدة بل في اليوم الواحد تفتح أكثر من جبهة، فمرة هجوم علي الفنانين ومرة ثانية علي المثقفين وثالثة محاولة عودة البرلمان المنحل ورابعة إقالة النائب العام، ومرة خامسة ضرب المتظاهرين في التحرير، إلي غيرها من سلسلة لا تنتهي من المعارك، وللأسف في كل مرة ينساق التيار المدني خلفهم ويدخل في تلك المعارك وفي رأيي أن التيار الإسلامي يختلق تلك المشاكل لمحاولة إشغال القوي السياسية المصرية والتيار المدني بصفة خاصة عن المعركة الأساسية وهي معركة الدستور. معركة الدستور هي الأهم فلا يهمني فوز مرسي برئاسة الجمهورية أو حتي أخونة المؤسسات، فالمؤسسات التي تأخونت في ستة أشهر نستطيع أن "نمدنها" في ست أشهر أيضا ولم لا ألم تكن هذه المؤسسات كلها وبدون إستثناء تتبع نظام مبارك وكما نجح الإخوان في أخونتها في هذه المدة نستطيع نحن أيضا أن "نمدنها" ربما في أقل من هذه المدة. ولكن لماذا يبقي الدستور هو المعركة الأساسية، لأن الدستور كما يعرفه رجال القانون هو القاعدة الأعلي ويسميه البعض هو الأب الشرعي لكل القوانين، كما أن الدستور هو الذي يحدد نظام الدولة وأختصاصات السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية، كما أن الدستور يمكن أن يحتوي علي عبارات مطاطة قد تبدوا من الوهلة الأولي انها مقبولة ولكن عند تمريرها والموافقة عليها ستجد تفسيرات لها علي هوي من قام بوضعها وهو التيار الإسلامي بالطبع ولا يجوز لك الأعتراض علي هذه القوانين لأنها لا تخالف "الدستور"!!والدستور ايضا هو المعركة الأساسية لانه قاعدة محصنة فالدول قد يتغير فيها نظام الحكم كل اربع سنوات او خمسة حسب نظام الدولة ولكن الدستور دائما ما يحوي مواد تحصنه ليصبح فوق الأنظمة وفوق الاغلبية الحاكمة، فكل الدساتير في العالم تحتوي علي مواد مثل لا يمكن تغيير الدستور إلا بموافقة ثمانين في المائة من اعضاء البرلمان او خمسة وسبعون بالمائة وأحيان يكون ثلثي اعضاء البرلمان ومن هنا تاتي الخطورة وهو ثبات القاعدة الدستورية وعدم قابليتها للتغيير، وفي مصر وفي ظل قراءة للواقع السياسي المصري نستطيع ان نقول انه لو تم تمرير الدستور علي هوي الإسلاميين سيظل هذا الدستور قائماً لمدة طويلة نظرا لأن التيار المدني لن يكون قادراً علي الحصول علي نسبة ثمانين في المائة من مقاعد البرلمان إلا بعد مدة طويله قد تصل إلي عشرين عاما، أو من خلال ثورة والثورة تحتاج ليس فقط لإرادة شعبية بل إرادة دولية وهو الشئ الغير متوفر الآن حيث أن مزاج الإرادة الدولية اصبح يميل للتيار الإسلامي المتشدد وهذا موضوع يطول شرحة قد نتناوله في مقالات قادمه. الآن ليس امامنا غير اسقاط اللجنة التأسيسية للدستور وخصوصا أن "مرسي" كان قد وعد اثناء حملته الانتخابية بإعادة تكوينها ولكن هذا الوعد ذهب مع الريح مع غيره من الوعود التي وعد بها، وقد يقول قائل ما فائدة حل اللجنة التأسيسية للدستور الآن وعند تكوينها سيقوم مرسي بتشكيلها وسيعطي الغلبة للتيار الإسلامي فما الجديد، والرد أن الجديد هو التغيير الذي شهدته الساحة السياسية المصرية فاللجنة شكلت في ظروف سيطرة التيار الإسلامي علي صندوق الانتخابات بنسبة 73% حسب مقاعدهم في مجلس الشعب ولكن الآن وفي انتخابات الرئاسة حصل التيار الإسلامي علي 51% من الأصوات فقط وهي بالإضافة إلي انها نسبة مشكوك في صحتها فهي شملت أيضا نسبة كبيرة من التيار المدني الذي صوت لصالح "مرسي" كرها في "شفيق".والأهم من ذلك أن القوي المدنية ومنذ ثورة 24 أغسطس أمتلكت الجرأة علي الحشد والتظاهر ضد الإخوان وأخرها جمعة "الحساب" في 12 اكتوبر بل تغلبت القوي المدنية علي الإخوان وقامت بطردهم من ميدان التحرير ولأول مرة. وهذا يعني قدرة القوي المدنية علي الاعتراض علي تشكيل اللجنة التأسيسة القادمة في حالة عدم حصولهم علي نسبة مناسبة. الدستور يا سادة هو معركتنا الاساسية فلا تسمحوا لأحد أن يشتت انظاركم وجهودكم في معارك جانبية، فدستور مصر لا بد ان يشمل ويرضي جميع المصريين بمختلف توجهاتهم واختلافاتهم الدينية والعرقية والسياسية، فدعونا نركز في هذه المعركة فهي الأهم فهي معركة مصيرية.
--
كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
عضو والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية
0 تعليقات:
إرسال تعليق