الدكتور عادل عامر
فلم تكن القيود إلا وجها واحدا في أزمة التطور الديمقراطي في مصر كما في غيرها من البلاد العربية التي تبعتها في هذا التطور بدءا بتونس اعتبارا من 1978 أما الوجه الآخر فهو ضعف تكوين وسوء أداء النخبة السياسية سواء التي عملت في إطار الأحزاب أو انضمت إليها ثم خرجت منها أو بقيت مستقلة من البداية . لقد مرت مصر من يوم 25 يناير 2011 حتى 30 يونيو 2013 بمراحل عديدة، حيث أسقط المصريون نظام مبارك وصعد الإسلاميون (جماعات الإسلام السياسي) إلى السلطة وحدث ارتباك سياسي وخلط متعمد للدين بالعملية السياسية أدى إلى ثورة شعبية تطالب بنظام سياسي يحترمه الدين لكن لا يخلطه بالسياسة، هذا النظام يضع علاقة جديدة بين ما هو سياسي ومدني كما انه ينظر نظرة إيجابية للدين. هذه الثورة التي تفجرت في 30 يونيو وأكدت ذاتها في 26 يوليو تمثل الأمل الجديد للمصريين، الامل في دولة مدنية يوجد فيها مكان للجميع وتعطي فرص متساوية للجميع، فلكل مواطن الحق في فرص متساوية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي. هذا الحلم، حلم الدولة التي تمارس الديمقراطية وتحقق وفرة اقتصادية وتربط الحرية والكرامة بالعدالة الاجتماعية هي حلم كل المصريين.
وإذا كان خطاب هذه النخبة يقول إن القيود هي أساس مشكلة التطور الديمقراطي ففي أمكن غيرهم أن يذهب إلى أن القيود لم تفعل فعلها المؤثر عن هذا النحو إلا بسبب ضعف تكوين وسوء أداء هذه النخبة و عجزها عن إدراك مقتضيات دعم ذلك التطور ودفعه إلى الأمام . وفي غياب دراسة تسعي إلى تحديد وزن كل من العاملين (القيود وسوء الأداء) وهي مهمة بالغة الصعوبة نطمع في القيام بها مستقبلا يظل كل من الاتجاهين في تفسير أزمة التطور الديمقراطي نوعا من الاجتهاد ..
والأكيد ن ضعف هذا التطور نتج عن العاملين معا وعن تفاعلهما فما كان لأي قيد أن يؤدي إلى ما آل إليه التطور الديمقراطي لو كانت النخبة المعارضة والمستقلة أفضل أداء وأكثر تماسكا وما كان لضعف تكوين وسوء أداء هذه النخبة أن يحدث كل هذا التأثير لو أن القيود كانت أقل . إن نخبة أفضل حالا كان في إمكانها أن تطور منهجا أكثر فاعلية في التعامل مع القيود عبر التركيز على نشر ثقافة سياسية ديمقراطية في المجتمع خلال المرحلة الأولي للتطور الديمقراطي أكثر من الاهتمام بالتصعيد الذي لم تمتلك مقوماته لإرغام نظام الحكم على إزالة هذه القيود أو تخفيضها .
وقد عدت مؤخرا إلى بدايات الصحف الحزبية (الأحرار والأهالي ثم الوفد) لمعرفة مدي وجود اهتمام بنشر ثقافة ديمقراطية ولم يفاجئني غياب هذا الاهتمام بشكل كامل والتركيز , في المقابل على انتقاد نظام الحكم ومهاجمة سياساته والميل إلى تصعيد لا تقدم عليه أحزاب ما زالت في المهد صغيرة .. وهكذا وضع التطور الديمقراطي بين مطرقة القيود المفروضة عليه ونفاذ صبر الرئيس الراحل أنور السادات بسرعة شديدة وسندان افتقاد النخبة السياسية والثقافية والمعارضة إلى فهم مقتضيات دورها في هذا التطور فساهمت في تعويقه عبر التصعيد الذي يصعب إدراك منطقة والانصراف عن نشر ثقافة الحرية والتسامح والتعدد واحترام الآخر والحوار والحل السلمي للخلافات .
وإذا رجعنا بسرعة إلى النظرية الديمقراطية نجد عدة اقترابات في مجال التطور الديمقراطي وتحديد مقومات تقدمه أو تخلفه وأهم هذه الاقترابات اثنان ينطلق أحدهما من منظور ثقافي ويقوم الآخر على نظرة نخبوية دون أن يغفل الأول حيوية دور النخبة أو يتجاهل الثاني أهمية تأثير الثقافة . الاقتراب الأول لا يري إمكانية لتطور ديمقراطي مطرد ومستقر ما لم تنتشر الثقافة الديمقراطية وقيمها الأساسية مثل التعدد وقبول الآخر والتسامح والحوار والتنافس السلمي وهذا الاقتراب يري الثقافة السياسية أهم من المؤسسات والهياكل والأبنية , بل يجعلها القاعدة أو البنية الأساسية التي يقوم عليها أى بناء ديمقراطي وتعمل في ظلالها الأحزاب والمجتمع المدني وتجري في رحابها الانتخابات دون حاجة إلى إجراءات أو قواعد إضافية لضمان حريتها ونزاهتها .
أما الاقتراب الثاني فهو يقوم على أن التطور الديمقراطي يتوقف على طبيعة الجماعة أو النخبة السياسة أى قيادات الاتجاهات والقوي السياسية المختلفة في الحكم والمعارضة ومدي قدرتها على الوصول إلى تفاهم أو تراضي عام حول هذا التطور والأسس التي يقوم عليها ونجاحها في تجنب الانقسامات الحادة التي تنجم عن الخلافات بينها وهي الانقسامات التي تهدد إذا تجاوزت مستوي معينا استقرار النظام الديمقراطي وتخلق مخاوف من إمكان استئثار حزب أو آخر بالسلطة إذا وصل إليها عبر الانتخابات فلا يغادرها
فالأساس الذي ينطلق منه هذا الاقتراب هو أن النخبة السياسية التي تستحق الديمقراطية وتستطيع تلمس الطريق إليها والمضي فيه قدما هي التي تتمكن من إيجاد تفاهم عام على معالم هذا الطريق بما يحقق ثقة متبادلة بين أطرافها ويرسي تقاليد التكيف والتعاون والمساومة وصولا إلى وضع تزيد فيه مساحة التوافق على مساحة الصراع وتتحول النزاعات الأيدلوجية والعقائدية الجامدة بطبيعتها إلى خلافات على برامج وسياسات محددة في إطار قواعد اللعبة مقبولة من الجميع وموضع احترامهم. وعلى هذا النحو تبدو الثقافة الديمقراطية قاسما مشتركا جزئيا بين الاقترابين مع اختلاف في نطاق هذه الثقافة أو المقدار اللازم توفه منها فالاقتراب الأول يتطلب شيوعها في المجتمع بينما يشترط الثاني توفرها لدي النخبة السياسية .
وفي حالة مصر ونظيراتها في بلاد عربية أخري يوجد اتفاق واسع على ضعف الثقافة الديمقراطية في المجتمع الخارج لتوه من تجربة حادية , ويجد القارئ في مختلف فصول هذا الكتاب إشارات إلى الأثر السلبي لضعف الثقافة الديمقراطية على التطور الديمقراطي . ولا غرو في ذلك إذ عرف المجتمع على مدي تاريخه المديد أنظمة قيم لا ديمقراطية تنالت عليه حتى منتصف القرن التاسع عشر حين بدأت إرهاصات أول تجربة نيابية ذات طابع ديمقراطي ولكن الاحتلال البريطاني حال دون استمرار هذه التجربة وقبل أن تكمل التجربة التالية التي بدأت بإصدار دستور 1923 عقدها الثالث أنهتها ثورة 1952 التي جاءت بمفاهيم أخي للحياة السياسية . وحال انقطاع التجربتين على هذا النحو دون انتشار الثقافة الديمقراطية في المجتمع كما أدي إلى ضعف تكوين النخبة السياسية التي كانت موجودة حين بدأت التجربة الثالثة التي ما برحت مستمرة بمعدلات بطيئة نجد سببها الأول في ضعف الثقافة الديمقراطية وهشاشة تكوين النخبة السياسية بما فيها بالطبع النخبة الحزبية المعارضة ونخبة المجتمع المدني فقد ظلت الثقافة السائدة مزيجا من القيم التقليدية والأبوية والتقاليد التسلطية والنزعات الشمولية بدءا من الأسرة وحتى النظام السياسي كما بقت النخبة السياسية هشة ومشوهة في بعض الأحيان وهذا أمر مفهوم تاريخيا فلم تكد نخبة منتصف القرن التاسع عشر تعرف طريقها للضغط من أجل محاصرة الحكم المطلق وتنتزع أول مجلس نيابي حقيقي وأول وثيقة دستورية ديمقراطية حتي جاء الاستعمار البريطاني ليقوض هذه النهضة في مهدها وأدي وجود الاستعمار إلى تصاعد أهمية المسألة الوطنية على حساب الديمقراطية .
فأصبح الموقف من الاستعمار , ثم من الغرب الآن يتصدر جدول أعمال النخبة السياسية وتراجع الاهتمام بمواجهة الاستبداد الذي بات مقبولا بل موضع تأييد ما دام يواجه الغرب أو حتى يرفع شعارات زائفة ضده .
فما أن تحدث أزمة مع الغرب حتى تتواري المسألة الديمقراطية بل تختفي عن الأنظار وازداد هذا الميل إلى تعظيم المسألة الوطنية وإهدار قضية الديمقراطية بدلا من أن يقل مع الوقت ولأن هذا يحدث بفعل ممارسات قوي واتجاهات معارضة بالأساس فهو دليل آخر على أن المسئولية الأولي عن ضعف التطور الديمقراطي في بلادنا لا تعود إلى القيود المفروضة عليه .. ولنأخذ في مقارنة سريعة ما حد إبان أزمة وحرب الخليج الثانية 90 – 1991 وأزمة وحرب الخليج الثالثة 2002 -2003 فقد ازداد الجموح إلى حد رفض الاتجاه الغالب في النخبة السياسية المعارضة أى إشارة إلى تغيير داخل في العراق حتى في حدود مصالحة ديمقراطية بين نظم الحكم – الذي حظي بتأييد من غالبية هذه النخبة والقوي الوطنية العراقية المعارضة ..
وهكذا يبدو التطور الديمقراطي في مصر وفي بلاد عربية أخري أسير ضعف الثقافة الديمقراطية وهشاشة النخبة السياسية خصوصا المعارضة أكثر مما هو ضحية القيود على هذا التطور وليس استمرار التركيز على هذه القيود التي لا نغفل أثرها إلا نتاج خطاب شعاراتي يدعي أصحابه الكمال والنقاء اللذين هم أبعد ما يكونون عنهما فهو خطاب يؤدي وظيفة التغطية على الاختلالات البنائية العميقة في مختلف الأحزاب والقوي السياسية ومنظمات المجتمع المدني من نقابات وجمعيات
وليس أدل على الميل إلى هذه التغطية من تحول دعوة الإصلاح الحزبي التي ظهرت عقب الانتخابات النيابية الأخيرة عام 2000 إلى صرخة في واد فلم تجد طريقها إلا إلى الحزب الوطني الديمقراطي نتيجة وجود جناح إصلاحي في داخله تعامل بجدية بدرجة أو بآخري مع المشكلات العميقة التي أظهرتها تلك الانتخابات في أدائه . إن حال القطاع الأكبر من النخبة السياسية والثقافية في أحزاب المعارضة والنقابات والجمعيات والاتحادات لا يدفع إلى التفاؤل بمستقبل التطور الديمقراطي وإذا أريد لهذا التطور أن يمضي قدما إلى الأمام فلابد من مراجعة جادة ومسئولة ومثل ذلك صريحة وأمينة تنطوي على نقد ذاتي صار نادرا في حياتنا التي يسودها اليوم الميل إلى توجيه الاتهامات والتشهير والتجريح وصولا إلى السب والقذف. ان باستثناء حزب الوفد الذي انبثق كقوة طبيعية خارقة "مارد"من صميم أحشاء الأمة كانت معظم الأحزاب مصطنعة ملفقة وذات هدف واحد وهو تفويض الوفد بل ومحوه من الوجود إن أمكن ... ويضف انه من المستحيل وصف الحقبة السابقة على ثورة يوليو ليبرالية " أو أن تسمى الأحزاب التي تكونت وتصارعت وحكمت خلالها تعددية وقد شهدت الساحة السياسية في مصر قيام مجموعة من الأحزاب وهي :
- الأحرار الدستوريون يعتبر امتداد الحزب الأمة ونشأ بوحي من المندوب السامي البريطاني اللورد اللمبي ) بهدف مواجهة الحركة الوطنية .
- حزب الاتحاد الملك فؤاد 1925 وهو حزب لم يكن له أي دور في الحياة السياسية المصرية وكان يتكون من مجموعة من الضباط المتقاعدين وعدد من السياسيين المغمورين .
- حزب الشعب أسسه اسماعيل صدقي عام 1930 وكان حزبياً معادياً للوفد وعمل على القضاء عليه وكان مؤسسه من أشد المعجبين بالنظام الناشتي وألغى دستور 1923 وكما يذكر أ. محمد عودة ... كان الحزب صفحة سوداء ووصمة عار في تاريخ مصر الحديث .
- حزب مصر الفتاه ... تأسيس عام 1932 ويرى المؤرخون أنه بدأ يفكر ماشتي وعلى أساس الولاء للملك وكان ذو طابع عسكري .. وبعد هزيمة إيطاليا وألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية تحول الحزب إلى اسم الحزب الاشتراكي .
- الحزب السعدي وهو حزب انشق عن الوفد عام 1937 بقيادة علي ماهر باشا بعد توقيع معاهدة 1936 وكان حزبا موالياً للملك ... وكان من المؤيدين إلى الوقوف إلى صف بريطانيا في الحرب الثانية .
- الكتلة الوفدية / نشأ الحزب بانشقاق مكرم عبيد عن الوفد وكان ذلك الانشقاق بمثابة الصدمة التي أصابت القوى الوطنية حيث انحاز الحزب مع الملك ضد الوفد الحركة الشيوعية / ويتمثل في الحزب الشيوعي المصري الذي تأسس عام 1921 على أساس فلسفة معبرة عن قوى اجتماعية قوامها الفلسفة الماركسية وكان انتصار الثورة البلشقية عام 1917 دافعاً لقيام الحزب إلا أن هذا الحزب لم يتمكن من فرض نفسه على الساحة السياسية وذلك لأسباب تاريخية ... منها أن عدداً من اليهود كانوا ضمن تشكيلات الحزب وكان للتنافر والتصارع بين هذه سببا في ضعفه .
- جماعة الأخوان المسلمون ، تكونت الحركة عامة 1928 كجمعية للإصلاح والتحديد الديني وكان أول انخراط لهم في العمل السياسي عام 1938 وقد شهد تاريخها عنفاً شديدا أدى إلى تصادمها مع الحكومات المتوالية حتى صدامها المسلح مع ثورة 23 يوليو وتتسم هذه الجماعة بالتنظيم الجيد وتشكيلاتها العسكرية وكان لديها ما يسمى بالجهاز السري وشعارهم المصحف والسيف ... وهي جماعة يعتمدها النظام في مصر جماعة محظورة (لمزيد من المعرفة يمكن الرجوع إلى كتاب د. يونان لبيب رزق الأحزاب السياسية في مصر (1907-1984) . إلى جانب ذلك فكان هناك أحزاباً وجماعات دينية كان دورها في الحياة السياسية المصرية هامشياً كحزب الله وحزب الإصلاح الإسلامي وحزبي الأخاء فضلاً عن بعض الأحزاب النسائية كحزب بنت النيل السياسي والحزب النسائي الوطني والحزب النسائي السياسي .
ثورة 1952 والحزبية :-
في عام 1953 وتحديداً في شهر يناير الغيت الأحزاب القائمة ويشير د.يونان لبيب رزق في كتابة السابق الاشارة إليه أن الدلائل تؤكد أن من أهم الأسباب التي مكنت الثورة من إلغاء الحزبية هو ما وصلت إليه الأحزاب التقليدية من وهن وفشل في حل القضية الوطنية وعجزها عن تكوين رؤية اجتماعية واقتصادية متكاملة وانحسار وجودها في الشارع السياسي ... كما كان لدى قادة الثورة كعادة الثورات الحرص على تشكيل تنظيم سياسي بمثلهم وكان بدوره تنظيماً أوحداً ... وكانت ظروف مصر القائمة على المركزية والمتجانسة شعبياً مؤهلة لقبول التنظيم السياسي الواحد ... وتم تجميد كافة القوى السياسية في مصر حتى ان الثورة حلت عام 1954 مجلسى إدارة نقابتي الصحفيين والمحامين واختزلت المشاركة السياسية في التنظيمات التي أنشأتها بدءاً من هيئة التحرير مروراً بالاتحاد القومي عام 1957 انتهاء بالاتحاد الاشتراكي العربي 1962 و كانت تنظيمات ذات طابع شمولي ولا تحمل في داخلها أي شكل من أشكال المعارضة السياسية للنظام وتم تجريد كل القوى الفاعلة في الحياة السياسية في مصر من أي نوازع حزبية واحتوى النظام العمل النقابي وهكذا لم يواجه النظام بأي معارضة والواقع أن الثورة نجحت فعلا في تحقيق العدالة الاجتماعية وأحدثت تغبيراً جذرياً على الحياة الاجتماعية في مصر لصالح الفقراء ومن خلال تشريعات اقتصادية تتسم بالعدالة وأقامت الكثير من المشروعات التي غيرت من البنية الاجتماعية للمواطنين ولكنها لم تنجح في إقامة حياة ديموقراطية سليمة كما جاء بمبادئها الست .
يقول د. مصطفى الفقي في مقال تحت عنوان "عبد الناصر والسياسة والحكم" إن من أكبر المآخذ على عهد عبد الناصر هي غياب الديموقراطية والأخذ بالتنظيم السياسي الواحد وانعدام الرأي الآخر ... ويرى د. الفقي تبريراً لهذا الوضع أن التحرر الوطني ووجود شخصية عبد الناصر ذات الكاريزما القوية كانت بمثابة استفتاء يومي على حكمه ومن ثم فإن الغاية من الديموقراطية قد تحقق ولكن دون وسائلها المعروفة ويذكر أن الثورة أصدرت في عام 1956 دستوراً ويعد مجلس الأمة أول مجلس نيابي في عهدها وفي ظل أحكام هذا الدستور وفي عام 1958 صدر الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة وشكل بمقتضاه مجلس الأمة للإقليميين الجنوبي والشمالي ثم بعد الانفصال صدرفى عام 1964 الدستور المؤقت وفي إطاره شكل مجلس الامة منتخب مكون من 350 عضوا بخلاف 10 اعضاء يعينهم رئيس الجمهورية وعقب نكسة 1967 فكر عبد الناصر في إعادة النظر في إسلوب وإدارة الحكم ومما يقال أنه أدرك ضرورة فتح البابا أمام قوى المجتمع للتعبير عن آرائها وذلك في إطار إصلاح النظام ومثلت مظاهرات الطلبه عام 1968 منعطفاً خطيراً عندما خرجوا مطالبين بمحاكمة المسئولين عن الهزيمة حينما أدرك عبد الناصر أن الثورة في حاجة إلى التجديد والشعب في حاجة إلى التغيير ولكن ظروف بناء القوات المسلحة والاستعداد للحرب حالا والتنفيذ الفوري لهذا التوجه ... ومات عبد الناصر في سبتمبر 1970 .
وجاء السادات إلى الحكم .. وفي عام 71 صدر الدستور الدائم وأجريت في ظله انتخابات مجلس الشعب وكان عام 1976 تاريخ عودة التعدد الحزبي بشروط اخترعها السادات رافضاً بمقتضاها تماماً لفكره التعدد بدعوى أن ذلك يفتت الوحدة الوطنية ويرى د. يونان لبيب رزق أن عودة السادات إلى التعدد الحزبي استوجبتها الظروف التاريخية ولم تكن وليدة قناعة أو إرادة شخصية من الرئيس .
... كانت أولى خطى التعدد السماح بنشوء منابر (أجنحة) متعددة داخل التنظيم الواحد (الاتحاد الاشتراكي) عام 1974 ثم في مارس 76 تحولت المنابر إلى تنظيمات (اليمين / الوسط / اليسار ) وفي نفس العام أصبحت هذه المنابر أحزاباً تحت مسميات حزب اليمن / الوسط / اليسار) وكانت أول محاولة للخروج من عباءة التنظيم الأوحد ـوصدر بعدها القانون رقم 40 لسنة 1977 في شأن الأحزاب السياسية وقد كانت هذه الأحزاب
بمثابة تعبير عن قوى اجتماعية جديدة اصطدمت مصالحها مع العديد من السياسات القائمة وكان أشدها اختلافاً حزب اليسار الذي تبنى عدداً من التوجهات التي تختلف جذرياً مع النظام توجت بأحداث يناير 1977 والتي اتهم فيها السادات اليساريين بأنهم وراء المظاهرات والاحتجاجات التي عمت البلاد بأسرها وكادت تطيح بالنظام من رأسه واستمر الحال بين السادات والقوميين والناصريين وغيرهم من القوى السياسية الرافضة لسياساته الداخلية والخارجية انتهت بأن وقف السادات موقفاً معادياً مع كل الاتجاهات السياسية والفكرية في البلاد باستثناء بعض المنتفعين الجدد من سياسة الإنفتاح الاقتصادي والاقطاعيين الذين أعاد السادات أملاكهم إليهم .
هناك من يرى في تجربة السادات التعددية تجميلاً في وجه النظام أمام الغرب وكي يظهر بالتفرد والاختلاف عن عبد الناصر واستجابة لرغبة جامحة لدى طبقة الرأسماليين الجدد ورجال الأعمال الذين استفادوا من الإنفتاح الاقتصادي والذي بدأ أولى مراحله عام 1974 وقد أسفرت سياسات السادات الاقتصادية الخاطئة عن انتفاضة يناير 1977 حيث اشتعل غضب الجماهير الساخطة على النظام بعد رفع أسعار جميع السلع الضرورية وعاشت مصر يومي 18،19 يناير لحظة تاريخية كشف وجه النظام المنحاز للأغنياء وسطر المصريون تاريخياً نضالياً جديراً بهم ولم تهدأ الأحوال إلا بتراجع الحكومة عن كل القرارات التي أدت لاشتعال الموقف كل هذا يدفع بنا إلى التسليم بأن التعددية السياسية لم تكن مطلقاً ناتجة عن رغبة السادات في إلغاء الحكم الشمولي بدليل قيامه عام 1981 بالقبض على ما يزيد عن 3500 من مفكري وسياسي مصر باختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية والزج بهم إلى غياهب السجون والمعتقلات وكانت أحد أسباب اغتياله في السادس من أكتوبر من نفس العام .
كانت التعديلات المشار إليها كلها من داخل الاتحاد الاشتراكي الوحيد .. وفي مايو 1980 عدلت المادة الخامسة من الدستور والتي أصبح بمقتضاها مسموحاً بتعدد الأحزاب السياسية في البلاد ... ومن المعروف أن القانون رقم 40 لسنة 77 وتعديلاته بنظام الأحزاب السياسية في مصر فقد أعطى للمصريين الحق في تكوين الأحزاب السياسية كما اجاز لكل مصري الحق في الانتماء لأي حزب سياسي وفقاً لأحكام القانون .
الأحزاب السياسية : في إطار القانون 40 لسنة 77 ... كان أول هذه الأحزاب حزب مصر العربي الاشتراكي تأسس عام 1967 وأصبح الوريث للنظام الشمولي على الرغم من التعدد الحزبي فقد استولى هذا الحزب على غالبية مقار الاتحاد الاشتراكي ... ولم يستمر هذا الحزب طويلاً فسرعان ما قرر السادات تأليف الحزب الوطني الديموقراطي (تيمناً بمصطفى كامل ) وتداعي حزب مصر وانتقل أعضاءه إلى الحزب الوطني وهم أنفسهم الذين كانوا أعضاء بالاتحاد الاشتراكي العربي وكانوا من أهم كوادره (عندما أعلن السادات قيام الحزب الوطني كان هناك من أعضائه من وقف يرقص ويغني أنا مع حزب الرئيس) وكانت المبررات التي سيقت أن حزب مصر لم ينجح في معالجة أحداث عام 1977 وانه لم يستحب لنبض الشارع المصري ... وتكون الحزب الوطنى الديمقراطى وقد ورث كل مقومات النظام الشمولي من احتكار للسلطة وتضييق على المعارضة زد على ذلك تبينه سياسات ليست في مصلحة السواد الأعظم من الشعب وفتح الباب واسعاً أمام طبقة من رجال الأعمال كي ينفذ حزمة من السياسات الاقتصادية التي تصب في صالحهم تماماً وتمكنوا من الحصول على عضوية مجلس الشعب والمجالس المحلية ويمثلون سنداً للحكومة والنظام ويقفون لأي محاولة تقوم بها المعارضة سواء من خلال ما تقدمه من مشروعات قوانين أو استجوابات أو طلبات إحاطة .. وهكذا تبقى المعارضة مكبلة غير قادرة على تعديل السياسات الحكومية ... وبعد اغتيال السادات عام 1981 تولى الرئيس مبارك رئاسة الجمهورية وأدخل عدة تعديلات بقوانين على نظام انتخاب مجلس الشعب وفي عام 1983 تم إقرار نظام الانتخاب بالقائمة الحزبية والتمثيل النسبي وشاركت فيها مختلف الأحزاب السياسية وفي عام 1986 صد قانون بتعديل نظام الانتخاب على أساس الجمع بين نظام القوائم الحزبية والنظام الفردي غير ان التجربة أسفرت عن العودة إلى نظام الانتخاب الفردي ففي عام 1990 صدر قرار بقانون العودة إلى ذلك النظام وقسمت الجمهورية إلى 222 دائرة انتخابية ، انتخب عن كل منها عضوان يكون أحدهما على الأقل من العمال والفلاحين وأصبح عدد أعضاء مجلس الشعب 454 عضواً منهم عشرة أعضاء يعينهم رئيس الجمهورية ، وقد أكمل هذا المجلس مدته الدستورية في 12 من ديسمبر 1995 حيث أجريت الانتخابية التشريعية وتم انتخاب المجلس الجديد الذي بدأ دور انعقاده الأول في 13 من ديسمبر 1995 .
وفي عام 2000 جرت أول انتخابات تشريعية لمجلس الشعب المصري تحت الإشراف الكامل للقضاء مما جعل هذه الانتخابات تعد الأولى من نوعها في التاريخ النيابي المصري حيث أسفرت عن فوز عدد غير قليل من القوى السياسية الفاعلة في المجتمع المصري سواء كانت هذه القوى حزبية أو من المستقلين كما أجرى في 19 إبريل 1970 استفتاء كان من بين الأمور التي وافق عليها الشعب في هذا الاستفتاء إنشاء مجلس الشورى يختص .
بدراسة واقتراح ما يراه كفيلاً بالحفاظ على مبادىء ثورتي 23 يوليو سنة 1952 و 15 مايو سنة 1971 وهذه التسمية من عند السادات فى اطار رغبته الجامحة فى أن يكون كعبد الناصر زعيما لثورة ولكن كل المؤرخين اعتبرها حركة نكوص على الثورة وعلى مبادئها في دعم الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي وحماية تحالف قوى الشعب العاملة والمكاسب الاشتراكية والمقومات الأساسية للمجتمع وقيمة العليا والحقوق والحريات العامة والواجبات وتعميق النظام الاشتراكي الديموقراطي وتوسيع مجالاته .
ويشكل هذا المجلس من عدد من الأعضاء يحدده القانون على الآ يقل عن 132 عضواً وينتخب ثلثا أعضاء المجلس بالاقتراع المباشر السري العام على أن يكون نصفهم على الأقل من العمال والفلاحين ويعين رئيس الجمهورية الثلث الباقي ( تطور الحياه البرلمانية والحزبية فى مصر – الهيئة العامة للاستعلامات )
... واقع الأحزاب المعارضة خلال هذه المرحلة /
يبلغ عدد الأحزاب المسموح لها بالعمل السياسي في مصر 24 حزباً يأتي على رأسها أحزاب الوفد والأحرار والتجمع الناصري والغد والجهة الديموقراطية والعمل .. وكل هذه الأحزاب مجتمعة لا تملك أي قدرة على تكوين جبهة معارضة للحكومة بحكم تمثيلها الضعيف بالبرلمان (عدم تمكن هذه الأحزاب من الحصول على مقاعد تتناسب مع وضعها في الشارع المصري راجع إلى الطريقة التي تدار بها الانتخابات في مصر) .
... أن رصد الواقع السياسي الآن في مصر يشير إلى أن هناك حالة انسداد ديموقراطي تشهدها وتعود إلى احتكار الحزب الوطني للعمل السياسي بشكل شبه كامل كما يحتكر وسائل الاتصال الجماهيرية لإقرار سياساته وأفكاره ويستخدم القوى الأمنية لقمع وترهيب المعارضين استخدام إمكانيات الدولة في توفير الامتيازات والمنح لمن يؤمن بسياساته وممارسته بمعنى الاستحواذ على كل شيء دون مراعاة للعدالة في توزيع الفرص على المواطنين سواسية .
والحزب كغيره من الأحزاب الشمولية (حتى مع وجود أحزاب أخرى) لا يؤمن بفكره التغيير والتداول السلمي للسلطة ويرفض وجود معارضة وهذه سمة الأحزاب الشمولية فهي لا تعترف بالمطلق بمجال سياسي يتوسط بينها وبين المجتمع (المعارضة ) إلى جانب /
- امتلاك الحزب وسائل الإعلام (المقرؤة / المسموعة / المرئية) وهي تتصل باحتكار الحزب وسائل الاتصال الجماهيرية (مؤتمرات / وورش عمل / ندوات ) وتستخدم هذه الوسائل في الترويج لسياسات الحزب وتظل قصراً عليه حتى أن هذه الوسائل بالرغم من ملكيتها العامة فإنها تتولى تغطيه المؤتمرات التي ينظمها الحزب الوطني سنوياً أو حتى على مستوى الاجتماعات التي تعقدها بعض لجانه وهذا لا توفره الحكومة لباقي الأحزاب .
- هيمنة الحزب كنتيجة للتداخل مع الحكومة بتعيين رؤساء الهيئات القضائية ورؤساء الجامعات ويتولى مجلس الشورى الذي يمثل الحزب الوطني أغلبية أعضائه تعيين رؤساء مجالس إدارات ورؤساء تحرير الصحف القومية وهذا كفيل لضمان ولائهم للحزب وعدم الخروج عن توجيهاته فضلاً عن إشراف قيادات الحزب على تشكيل لجنة شئون الأحزاب السياسية التى فهي تتكون من (رئيس مجلس الشورى وهو في ذات أمين عام الحزب ووزير الداخلية عضو الحزب ووزير شئون مجلس الشعب وهو من كبار رجال الحزب (ثم ثلاثة من الرؤساء السابقين للهيئات القضائية أو نوابهم من غير المنتخبين إلى أي حزب سياسي أعضاء ثلاثة من الشخصيات العامة غير المنتمين لأي حزب سياسي ويصدر لاختيارهم قرار جمهوري لمدة 3 سنوات قابلة للتجديد ... والمعلوم أن رئيس الجمهورية هو نفسه رئيس الحزب الحاكم ).
- الارتباط برجال الأعمال الذي يعملون لصالحهم بغض النظر عن المطالب والحقوق ومصالح الوطن العليا وهم في ذلك يعملون على إصدار القوانين والتشريعات التي تعمل لمصلحتهم خاصة ممن هم أعضاء في المجلس النيابي ومعروف أن مجلس الشعب قام بتعديل بعض احكام قانون منع الاحتكار تلبيه لمطلب احد قادة الحزب الوطنى المهيمنين على صناعة الحديد
- اعتماد الحزب سياسيات اقتصادية لا تحقق مطالب الشعب فقط هذه السياسات تلبى وتحقق مصالح رجال الاعمال .... فضلا عن توقف دور الحكومة عن التدخل فى تعديل السياسات الاقتصادية وحل الازمات التى تحدث نتيجة سوء التوزيع وعدم العدالة فى توزيع الدخول كأزمة السولار والبوتجاز واللحوم تحت دعوى أن مبدأ الحرية الاقنصادية يرفع يد الدولة عن التدخل وهو فى رأينا زعم باطل .
- تفريغ النقابات العمالية من القيادات المعارضة وإسناد رياسة النقابات الفرعية والنقابة العامة إلى أعضاء في الحزب أو لجنة السياسات المنيثقة عنه ومن ثم فقدت الحركة العمالية استقلالها وها نحن نراها تقف موقفاً سلبياً من قضايا العمال بل والشواهد تشير إلى انحيازها إلى رجال الأعمال في مواجهة المطالب المشروعة للعمال كتحسين ظروف العمل ورفع الأجور .... وقد وقفت نقابات العمال موقفاً مستغرباً من خصخصة الشركات التابعة لقطاع الأعمال العام ولم تكن لها موقف إزاء التداعيات التي نجمت عن الخصخصة والتي أدت إلى تزايد أعداد العاطلين عن العمل وإهدار المال العام وضياع حقوق العمال ... وهو الأمر الذي تشهده الحركة الطلابية حيث يمنع النشاط الحزبي بالجامعات إلا على المنتمين للحزب الوطني وبعد هذا التوجه من أهم العوامل التي ساهمت في انصراف الشباب عن المشاركة السياسية والاهتمام بقضايا المجتمع .
- السيطرة على الاتحادات النوعية كالغرف التجارية واتحاد الصناعات وجمعيات رجال الأعمال وتطويع قياداتها على الالتزام الحزبي مقابل مساندتهم في الوصول إلى عضوية أو رئاسة هذه الاتحادات .
- عدم تنفيذ أحكام القضاء فيما يتعلق ببعض القضايا الخاصة بالممارسة الديموقراطية وفي هذا السياق ترفض حكومة الحزب إعادة النشاط لحزب العمل بالرغم من صدور أحكام قضائية تقضي بعودة نشاطه .
- الوقيعة بين قادة الأحزاب من الداخل كما حدث مع حزب الوفد وحزب الغد وتقوم الحكومة (حكومة الحزب) بشراء سكوت بعض زعماء الأحزاب وعقد صفقات سرية لتفتيت قوى المعارضة .
- تهميش وعي المواطنين وصرفهم عن المشكلات التي تواجههم ولعل مباراة الكرة مع الجزائر والتي شهدت حالة من التعصب الذي زكته أجهزة الإعلام دليل واقع على دور الحزب وحكومته في إلهاء المواطنين ودفعهم إلى تفريغ شحنات الغضب بعيداً عن السياسة التي ينقذها الحزب وفي هذا السياق نلاحظ أن الحكومة لعبت بمشاعر المواطنين ونجحت في استخدام مباريات كرة القدم كوسيلة لصرف الناس عن المطالبة بحقوقهم فضلاً عن إنشاء القنوات الرياضية المهتمة لكرة القدم على قنوات تليفزيون الدولة بخلاف القنوات الخاصة على حساب البرامج الثقافية والحوارية كما تسمح بإصدار الصحف والمحلات الرياضية بدون ضوابط وذلك في إطار سعيها تغييب فكر المواطن المصري .
- ارتباط بعض أعضاء الحزب بحالات فساد مثل تورط بعض أعضائه بإنتاج وتسويق أكياس دم ملوثة أو الاقتراض من البنوك ثم الهرب إلى الخارج أو استيراد منتجات غير صالحة للاستهلاك الآدمي (شحنات القمح الوسي ) فضلا عن قيام أحد نواب الحزب بالتهريب الجمركي ومتاجرة بعض النواب في قرارات العلاج على نفقة الدولة ... ثم أخيراً ما أثير عن تلقي مسئول كبير لعدد من سيارات المرسيدس على سبيل تيسير دخول سيارات المرسيدس إلى البلاد على حساب الماركات الأخرى .
- توجيه الخطاب الديني لصالح الحزب والترويج لسياساته من خلال أجهزة الإعلام والمطبوعات التي تطنطن ليل نهار بإنجازات الحزب ودورة في الدفاع عن القيم الدينية
- تورط عدد من نواب الحزب في تهديد الحركات الاجتماعية المعارضة حتى بالضرب بالرصاص وقد حدث ذلك تعقيبا علي مطالبة شباب 6 ابريل تعديل بعض مواد الدستور كبداية للإصلاح السياسي .
في مقابل ذلك المعارضة منقسمه على نفسها ولا يوجد حد أدنى للتنسيق بينها فهناك الخلافات التاريخية بين الأحزاب اليسارية والجماعات لسياسية ذات التوجه الديني ثم هناك الانقسامات داخل الأحزاب.. ولم يكن أمام الراغبين في التغيير غير التوجه بعيدا عن الأحزاب من خلال ما يسمى بقوى الحراك وبذكر الأستاذ / خالد فياض في مدونته المدونون الأحرار صوت الليبرالية الجديدة تحت عنوان حركات المعارضة الجديدة في مصر بين الكم والكيف ما يلي /
أن أحداً ممن يتابعون الشأن المصري لا يستطيع أن يغص الطرف عن الحيوية السياسية التي ظهرت في المجتمع المصري بكل طبقاته وفئاته الاجتماعية والسياسية حيث نشأت خلال فترة وجيزة الكثير من التنظيمات والحركات والجهات سواء داخل مصر أو خارجها معارضة للنظام بعضها يعبر عن مطالب عامة والآخر يعبر عن مطالب فئوية إلا أن القاسم المشترك فيها هو أن معظمها يدعو الي الإصلاح ... كما أصبح الحديث عن ظهوره حركات سياسية جديدة هو من الأمور العادية .
... ويعرف الحركة باعتبارها القيام بعدد من الأنشطة للدفاع عن مبدأ ما أو للوصول إلى هدف ما وتتضمن الحركة الاجتماعية وجود اتجاه عام للتغيير وهي تشمل مجموعة من البشر يحملون عقيدة أو أفكار مشتركة ويحاولون تحقيق بعض الأهداف العامة ... ويمكن للحركات تحدي سلطة النظام السياسي القائم . أن الحركات التي تقوم حالياً في مصر بالمطالبة بالتغيير هي عبارة عن منظمات محدودة وأن أطلقت على نفسها حركة ويرى أن عدم وجود حركات بالمعنى العلمي للكلمة في مصر يعود لعدد من الأسباب أهمها القمع الذي تتعرض له منظمات ونشطاء حقوق الإنسان وأحجام هذه المنظمات عند الالتحام بالقواعد الشعبية مما يؤدي إلى فقدان ثقة الجماهير وعدم اقتناعها القضايا التي تثيرها وقد حدد الكاتب عدداً من الحركات قسمها إلى حركات سياسية وأخرى حركات فئوية (ستشير إليها باقتصاب ويمكن للقارىء الاطلاع على تفصيلاً على أهداف وطبيعة هذه الحركات من الدراسة المشار إليها ) .
- تختلف الحركات الاجتماعية عن الحركات السياسية فى كون أن الحركات السياسية عادة ما تبدأ من منظور كلي وبرنامج شامل ، تحاول الاقتراب منه إلى القضايا النوعية والفئوية بينما تبدأ الحركات الاجتماعية من قضايا نوعية خاصة وعامة .
- الحركات السياسة عادة ما تكون أكثر اتصالا بالأحزاب بينما الحركات الاجتماعية عادة ما تكون أقرب إلى المنظمات القاعدية والمرتكزة إلى العمل المحلي مهما يتسع نطاقها وتمتد افقياً فهي في الأصل حركات سكان ، وقد في بدايتها أي شكل تنظيمي كما قد تبدأ وتنتهي دون أن تخلف ورائها هذا الشكل .
- إن الحركات الاجتاعية أكثر مرونة وتنوعاً داخل جمهورها النوعي ، وأقل انضباطاً لرؤية كلية أو لقرارات هياكل تنظيمية تقوم على مبدأ المركزية أو قيم الولاء وهي لا تشترط حتى أي هيكل تنظيمي لتعلن عن وجودها .
وتولد من الحركات الاجتماعية للفقراء والمحرومين بالذات قيادات طبيعية من صفوف السكان تتميز بوعيها التلقائي وجسارتها وارتباطها العضوي بمصالح الناس دون أن تتلقى تدريباً في مدارس السياسة أو منظمات المجتمع المدني الأخرى أما الحركات الاجتماعية النوعية المرتبطة بقضايا الصحة أو البيئة أو معارضة الحروب فمن المرجح أن تتقدم لقيادتها عناصر تمتلك خبرة ووعي ودراية أوسع .
رغم هذه الاختلافات لا يوجد حاجز بين الحركات الاجتماعية والحركات السياسية والنقابية وكل مظاهر نشاط المجتمع المدني وروابطه مع الحركات الاجتماعية حيث يصعب القول أن الحركات السياسية ليس لها طابع اجتماعي فبدون الكتلة الاجتماعية يتحول أي حزب إلى حلقة أو صالون سياسي أو أن الحركات الاجتماعية ليس لها أي طابع سياسي فمظاهر حرمانها ترتبط بسياسات معينة وطابعها المطلبي يجد نفسه في مواجهة مباشرة مع بعض جوانب السياسة كما في قضية الأجور أو الغلاء او الاحتكار او الحق في السكن أو التعليم والصحة والبيئة النظيفة .
وترى الدراسة أن القضية هنا لا تتعلق بأفضلية شكل من أشكال الحركة على الآخر فكلما تنوعت أشكال التعبير عن المجتمع المدني كان ذلك مظهراً لتطوره.
وعلى العكس فإن الحركات الاجتماعية توفر فرصة لحل الإشكالية الكبري التي اعترضت حركة التغيير على المستوى السياسي فالأحزاب الشرعية تكيفت مع محظورات القانون وتشمل حظر النشاط في صفوف الطلاب والعمال والموظفين والجنود وحظر ممارسة أشكال التعبير الحر في الشارع (المؤتمرات والمسيرات والمظاهرات ) إلا بإذن الآمن وهو ما عرف ببساطة بمعادلة المقر والجريدة ... والذي حول الأحزاب إلى نواد سياسية محدودة الفاعلية ... رغم مبادرات مهمة لبعض قياداتها وأعضائها ظلت هذه الأحزاب أسيرة للصفقة التاريخية التي خلقت تعددية مقيدة تحت الحراسة .
خارج هذه المظلة صعدت حركات التغيير ، وتفجرت حركات اجتماعية في مصر عبر مسار متعرج شهد في بداياته انفضالاً بين حركة نخبة تركز على المطالب السياسية وتحركات جماهيرية تركز على مطالب اقتصادية .
كما أن تطور المجتمعات وقدرة المجتمع المدني بكل مكوناته ، على أداء رسالته يستدعي كل هذه الحركات ،كما يطرح ضرورة تضافر وتكامل وظائفها وتجسير الفجوة بينها فالسياسي المقيد يفقد الحركة ثرائها وتنوعها والاجتماعي الفضفاض يفتقد المجتمع الرؤية الكلية لقضايا التنمية والتغيير لتبقى الحركة الاجتماعية أسيرة مواقف مطلبية تراوح عندها وما قد تظفر به من تغيير إيجابي في فترة يتراجع مع استمرار السياسات التي تعيد إنتاج نفس الظواهروتؤكد الدراسة على ان الحركات الاجتماعية والشعبية لم تنقطع في كل تاريخ مصر الحديث وأن تنوعت مظاهرها وشهدت مراحل من المد والجزر تبعاً لظروف تنوعة غير انها في السنوات الأخيرة عادت تتصدر المشهد وترسم ملامح أخرى في خريطة المجتمع المدني في مواجهة التمييز (الحركات الاجتماعية في مصر ـ وبدائل التميز المنشودة ـموقع جسور الانترنت .
ان جزءاً مما يحدث الآن فى عدد من المجتعات العربية ومصر والمغرب والجزائر في مقدمها التي تبرز بها صورة تكاد تكون يومية حركات وفعاليات احتجاجية جديدة إنما هو شديد الشبه بالحالة الأوروبية الاحتجاجية في أخريات القرن الماضي على الرغم من الاختلافات الجوهرية بين أنماط نظم الحكم ومستويات النمو المجتمعي هنا وهناك . فتأسيس حركات كحركة شباب 6 ابريل المصرية وتنسيقات مناهضة غلاء الأسعار والدفاع عن الخدمات العمومية بالمغرب وأقرانها في مجتمعات أخرى معارضة همشها غياب حرية الحركة واستسلامها التدريجي لوضعية الكيانات الورقية المبتعدة عن القواعد الشعبية ومع أن الشق الأكبر من خطاب الحركات الاحتجاجية العربية يقتصر على المطالب الاقتصادية والاجتماعية لأغلبيات أرهقها تردي الأوضاع المعيشية ولا يتجاوز بعده السياسي رفض ممارسات النظم الحاكمة والدعوة العامة إلى التحول الديموقراطي ومكافة الفساد دون صياغة رؤى محددة لكيفية إنجازها إلا أنها أبدعت خلال الأعوام القليلة الأخيرة في ابتكار أساليب مستحدثة للوصل للمواطن العازف عن المشاركة والاهتمام بالشأن العام وفي توظيف حالة الاستياء الشعبي لبلورة روح معارضة تعيد اكتشاف السياسة وتذكر نخب الحكم يومياً بأن هناك من يتابع ممارساتها في الداخل ويطمح للتغيير (د. عمرو الحمزاوي ـ حركات الاحتجاج في العالم العربي) . الى اين ؟
وأعود وأقول ربما يتساءل البعض عن الأسباب التي أدت إلى تصاعد عدد الحركات الاحتجاجية في مصر وما هي أسباب الاحتقان الذي تزداد وتيرته شدة يوماً بعد يوم ؟ ... لا شك أن الإحساس بالقهر والرغبة في التغيير تأتي على رأس الأسباب الدافعة للانخراط في الحركات الاجتماعية وقد سبق طرح السمات المحددة لسلوك الحزب الحاكم وطبيعة النظام وهي كلها أسباب دعمت المحتجين المطالبين بالتغيير واستحداثهم التظاهرات والاحتجاحات كوسيلة للضغط بعدما استنفد المحتجون كل أبواب التعبيير عن المطالب وهكذا خرج المحتجون إلى فضاء الوطن العمومي للإعلان عن مطالبهم ولا شك ان ما يحدث في مصر من حركات احتجاج يعد انعكاسات طبيعية لحالة الصراع السياسي الدائر بين قوى اجتماعية ترى ان التغيير اصبح ضرورة حتمية و حزب يحكم منفردا بغير معارضة فاعلة لأسباب هو طرف فيها وعكس ما يرده البعض من أن حركة الاحتجاج مجرد تفريغ للكبت السياسي الحادث في البلاد نتيجة القمع والاقصاء والتهمشس وفي هذا يرى الدكتور نادر فرجاني ان تصاعد الحركات الاجتماعية في العالم العربية مؤشر على قرب نهاية الأنظمة الاستبدادية المتسلطة التي تقوم على فكرة حرمان الأغلبية الصامتة من السلطة السياسية والثروة الاقتصادية .
ولا شك أن مصر تعيش مرحلة فارقة في تاريخها تتمثل في حالة النضج الذي أصبحت عليه حركات الاحتجاج والتغيير حيث تتصاعد وتتفاعل الحركات الاجتماعية سياسية أو فئوية ولم تعد للخلافات المذهبية دوراً مؤثراً في تشردم الحركات بعد أن أدركت الدور الذي يقوم به النظام لدق أسافين بينها وأصبحت هذه الحركات تضم في صفها رجال سياسة ورجال ثقافة وفكر من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ومن الحركات الإسلامية والمسيحيين ... فالكل يجمعهم الإيمان بأهمية وضرورة التغيير وجميعهم على قناعة بضرورة تخطي الاختلافات والنزعات الفكرية والعقائدية كشرط أساسي لتوحيد مسعاهم نحو التغيير ولا شك أن هذا التطور في ثقافة الاحتجاج والمقاومة انهى حالة الشتات الذي عانى منه المصريون طويلاً تحت وهم الاعتقاد بإمكانية ان يستخلص كل فرد حقوقه بعيداً عن الآخر . ظاهرة نزع السياسة من المجتمع وترتب على ذلك أن أصبح الحزب الوطنى حزب السلطة والنظام هو اللاعب الوحيد فى الفضاء السياسى المصرى، وأصبحت حكومة الحزب تدير الحزب وتوجهه سواء داخل أو خارج البرلمان، وأدت هذه الأوضاع إلى انصراف الجماهير العريضة عن الاهتمام بالشئون العامة (40.7%) كما جاء فى استطلاع الأهرام المذكور أعلاه، وضعف التصويت فى الانتخابات الدورية (40%) على الاكثر ومن هنا نشأت اللامبالاة السياسية لدى الشعب المصرى لإدراك كل منهم أنه لن يمكنه إحداث أى تغيير حتى بصوته! ذلك لأنه من خلال تصدى النظام الحاكم للمعارضة تصدى معها للسياسة ذاتها بما تعنيه من اهتمام المواطن بقضايا وطنه ومشاركته فى تقرير السياسات، وأساليب العمل واختيار القيادات. وبما أسهم فى إضعاف المشاركة السياسية ذاتها وهى أولى ركائز التحول الديمقراطى، وحين تغيب السياسة يمكن للمجتمع أن يرتد إلى ما قبلها، فينشغل بانتماءات أولية تسهم السياسة فى الحد من تأثيرها عبر ما تخلقه من إعادة اصطفاف فى صورة اتجاهات يجمع كل منها أشتاتا من انتماءات أولية مختلفة.
وفى حالة مصر، ساهم الركود السياسى وإحباطاته فى تهميش القضايا الحقيقية المتعلقة بالديمقراطية والتنمية والتقدم فى جدول أعمال الجماعة السياسية لصالح الارتداد إلى الانتماءات الدينية والعائلية والعشائرية تعويضا عن انتماءات سياسية محظورة، وحين تنزوى القضايا الكبرى لابد أن تخلى الطريق للاهتمامات الأولية والقضايا الصغيرة، وانعكس ذلك بوضوح على سبيل المثال المبالغة فى الجدل حول مشاكل الأقباط في مصر بصفتهم الدينية وليس باعتبارهم جزءا لا يتجرأ من مجتمع مأزوم ولم تصحح التعددية المقيدة ذلك الإختلال الناجم عن نزع السياسة من المجتمع بل ربما فاقمته لأنها أعطت انطباعا سلبيا عن الأحزاب والتربية عموما ترسخ فى الثقافة السياسية، وتزداد مشكلة نزع السياسة من المجتمع فى مرحلة تغيير اجتماعى عميق تفرض على معظم الشباب المزيد من السعى وراء الرزق، ومن ثم العزوف عن العمل العام، كما ساهم ذلك أيضا وهذا هو الأخطر فى تقييد عملية تطوير الثقافة السياسية للمجتمع نحو قبول مفاهيم الديمقراطية وما يرتبط بها من سلوكيات، حيث توارت كثيرا قيمة التسامح التى كانت أهم سمات المجتمع المصرى لتحل محلها روح التعصب فى التعامل مع الآخر.
وحتى الحوار الفكرى والسياسى داخل هيئات الحزب الحاكم لا يجرى سوى فى أضيق الحدود، أما الدفاع عن سياسات الحزب واختياراته بين الجماهير، فإنه لا يحدث أصلا. وتولت الحكومة بخبرائها مهمة رسم السياسات وتنفيذها وإقناع الناس باختياراتها، وانعكس ذلك على الطريقة التى يختار بها الحزب الوطنى رجاله وممثليه فى المجالس المنتخبة، إذ لم يصبح المعيار لاختيار ممثلى الحزب فى مثل هذه الهيئات هو القدرة على بلورة سياسات الحزب والدفاع عنها ولكن معايير أخرى أهمها ألا ينشغل العضو نفسه بالسياسة، وألا يزعج القائمين عليها بالمناقشة، وكل ما عليه هو الموافقة على مقترحاتهم وتشريعاتهم واستكمال الوجاهة النيابية والدستورية والقانونية اللازمة.
والمشكلة أن هذه الأسلوب فى إدارة الحياة السياسية، إضافة إلى السلبيات التى أفرزها أعلاه لا تشجع العناصر الجادة المطلوب ظهورها فى مؤسساتنا التشريعية والرقابية والتنفيذية على أخذ مغامرة المشاركة ومن ثم تعانى مصر حاليا من ظواهر غياب الوزير السياسى، والنائب الشعبى ورجل الدولة بالمعانى المعروفة فى تجارب دولية أخرى.
أما الوجه الآخر لهذه الظاهرة فيتمثل فى أن مجلس الشعب الذى يتقاتل على عضويته المرشحون، لا يلعب سوى دورا محدودا فى صنع السياسة والتشريعات بحيث أصبحنا إزاء حالة يتنافس فيها المرشحون على شىء آخر غير معلن، والمطلوب من النائب الحضور للتصويت على ما تراه الحكومة، والثمن هو مكافأة النائب بأساليب أخرى مشروعة أو غير مشروعة، ويؤكد ذلك الأزمة الشهيرة بين أعضاء المجلس من الحزب الوطنى والحكومة والتى وصفت بأنها أزمة داخل الحكم نفسه.
ويتحمل النظام السياسى قدرا كبيرا من المسئولية عن الاختلال فى أداء مجلس الشعب منذ الخمسينيات لأنه يعود فى أصله إلى مدرسة الحزب الواحد التى ما زالت سائدة حتى الآن من الناحية العملية والتى تحبذ فكرة الولاء على الكفاءة، وتكون المحصلة نواب يساهمون فى مزيد من الركود السياسى، فقد درجت الحكومة على أن تحتكر عملية التقدم بمشروعات القوانين، وأعضاء الحزب الوطنى بالمجلس، التزاما منهم بتأييد سياسة الحكومة درجوا على ألا يقوموا بواجبهم الدستورى فى الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، ويبدو ذلك فى قلة طلبات الإحاطة والاستجوابات التى يتقدمون بها والتى تترك عادة لمبادرات أعضاء أحزاب المعارضة قليلى العدد، ومن ثم حدث اختلال جوهرى فى أداء مجلس الشعب لوظائفه وسلطاته.
اختلاط الأدوار ومن الظواهر السلبية التى تعانى منها أيضا الحياة السياسية فى مصر حاليا، اختلاط وتبدل الأدوار فيما بين النقابات المهنية والعمالية "20 نقابة " والجمعيات الأهلية "أكثر من 15 ألف جمعية " وأدوار الأحزاب السياسية " 14 حزبا ".حيث انصرفت هذه وتلك عن طبيعة عملها المهنى أو التطوعى أو السياسى، ذلك لأن قسما منها لم يفلح فى المجال الذى وجد من أجله، فاختلطت الأدوار، وحدث نوع من تبدل المواقع والمهام خاصة وأن الأحزاب اتجهت للعب دور النقابات والجمعيات الأهلية بسبب ظاهرة نزع السياسة من المجتمع والركود السياسى، فانعدم النشاط الحركى والخطاب السياسى للأحزاب، كذلك تاه النشاط الحركى والخطاب التطوعى أو المهنى للنقابات والجمعيات الأهلية.
وانطلقت لعبة الغزل السياسى النقابى التطوعى كسمة أساسية للنظام الحالى، ذلك يعود لأن مبدأ التعددية السياسية الذى تم إقراره منذ 1976 أقر بشكل كمى وليس كيفيا، وانعكس ذلك على تركيبة ودور الأحزاب الحالية، ومن ثم أصبحت التنظيمات الأخرى كالنقابات والجمعيات الأهلية ساحة لممارسة السياسة بين مختلف التيارات السياسية فى المجتمع. مثل العلاقة بين الدين والسياسة أحد المعضلات الأساسية التي تواجه عملية التطور الديمقراطي في مصر. والواقع أن عدم وجود قواعد واضحة ومتفق عليها لتنظيم العلاقة بين ما هو ديني وما هو سياسي قد أثر على تطور النظام السياسي وتطور العملية الديمقراطية في مصر منذ فترة طويلة من الزمن.
فهذه القضية ليست وليدة اليوم، بل تعود جذورها إلى بداية محاولات وضع أسس لنظام سياسي حديث في مصر، وما أثاره ذلك من جدل حول العلاقة بين الدين والسياسة. وقد وَثَقَ الباحث الأمريكي ذو الأصول المصرية "ناداف سافران" هذا الجدل في كتابه الشهير "مصر والبحث عن جماعة سياسية: تحليل للتطور الثقافي والسياسي في مصر في الفترة من 1804 إلى 1952"، والذي اعتبر فيه أن غياب الإجماع حول العلاقة بين الدين والدولة كان أحد الأسباب الرئيسية التي أثرت بالسلب على تطور النظام السياسي المصري وتبلور جماعة سياسية بالمعنى الحديث للكلمة.
ويمكن القول إن الجدل الذي تشهده البلاد حول هذا الموضوع هو جدل صحي ومطلوب، ويجب أن يستمر حتى نصل إلى شكل من أشكال التوافق الوطني حول القواعد المنظمة للعلاقة بين الدين والسياسة. وفي هذا الإطار يمكن إبداء الملاحظات التالية:
أولاً: أن كافة الدول التي ترسخت فيها الديمقراطية قد وضعت قواعد واضحة لتنظيم العلاقة بين الدين والسياسة، سواء في دستورها أو قوانينها. ومن ثم فإن تطور العملية الديمقراطية في مصر يرتبط بشكل كبير بوجود قواعد واضحة لهذه العلاقة، قواعد تتوافق عليها القوى السياسية المختلفة وتلتزم بها في ممارستها.
ثانياً: تنظيم العلاقة بين الدين والسياسة لا يعني التقليل من دور الدين في المجتمع. فالدين يمثل مكانة أساسية، ويلعب دوراً رئيسياً في حياة المصريين، مسلميهم وأقباطهم، بل أن الدستور نفسه يؤكد على مكانة الدين في أكثر من مادة، منها المادة التي تؤكد على أن "تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية"، والمادة التي تنص على أن "الإسلام دين الدولة.. .. ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع". فكل هذه المواد تؤكد على أهمية دور الدين واعتراف الدستور بذلك.
ثالثاً: يجب التفرقة بين ما يمكن أن نطلق عليه "الوظيفة الدينية للدولة" وقيام أحد القوى السياسية باستغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية. فنصوص الدستور السابق الإشارة إليها، وطبيعة المجتمع المصري تحتم على الدولة القيام بوظيفة دينية، كما تقوم بوظائف اقتصادية واجتماعية. وتشمل هذه الوظيفة ضمان الحق في ممارسة الشعائر الدينية، والحفاظ على دور العبادة، والاحتفاء بالمناسبات الدينية، وتحقيق التوازن بين حرية الرأي والتعبير واحترام القيم والمقدسات الدينية.. .. وغير ذلك من الأدوار.
رابعاً: الهدف من تنظيم العلاقة بين الدين والسياسة هو صياغة قواعد تضع حدوداً فاصلة للعمل في مجال الدعوة الدينية والعمل في المجال السياسي، قواعد تمنع قيام أي من القوى السياسية باحتكار الحديث باسم الدين واستغلاله لتحقيق أهداف سياسية، وتحويل الجدل السياسي إلى جدل ديني يقوم على المطلق الديني وليس النسبي السياسي، وينظر فيه إلى الخصم السياسي على أنه خارج على الدين، وهو منطق يؤدي إلى إخلال كبير بتكافؤ الفرص بين المتنافسين السياسيين وتخسر فيه كافة القوى السياسية المدنية ويكون الرابح الوحيد من يرفع الشعارات الدينية.
خامساً: توضح التجارب الدولية أن العديد من دول العالم تضع قواعد تتعلق بموضوع الدين بالنسبة لإنشاء الأحزاب، أو ممارسة أنشطتها سواء في دساتيرها أو قوانينها المُنظمة للأحزاب. وتستهدف هذه القواعد الحفاظ على الطبيعة المدنية والديمقراطية للنظام السياسى. وتبرز تركيا كأحد النماذج الجديرة بالدراسة في العالم الإسلامي لتنظيم العلاقة بين الدين والسياسية، ومع اختلافنا مع المفهوم والتطبيق التركي للعلمانية واستحالة تبنيه في مصر، إلا أن تركيا استطاعت أن تضع إطاراً لدمج كافة القوى السياسية في إطار النظام السياسي وفقاً لقواعد واضحة، يتم استبعاد من يخرج عليها.
فقد نص الدستور التركي في المادة (2) على الطبيعة المدنية والديمقراطية للدولة، وحَظرَ في المادة (68) إنشاء أحزاب أو ممارسة أنشطتها على أساس ديني أو على أساس مبادئ تتعارض مع مدنية الدولة أو التمييز بين المواطنين، وأعطى الدستور في المادة (69) الحق للمحكمة الدستورية بالحل الدائم لأي حزب سياسي يخالف هذه المبادئ، بل ومنع أعضاء ومؤسسي الحزب الذي تم حله من تأسيس حزب آخر لمدة خمس سنوات. وقد وضعت هذه النصوص الدستورية إطاراً لتطور النظام الحزبي التركي، إطاراً سمح للدولة بالتدخل بحسم وقوة لمنع أي تجاوز أو مخالفة للقواعد المنظمة لإنشاء ونشاط الأحزاب خاصة ما يتعلق بالدين والسياسة، وتمثل ذلك في قيام المحكمة الدستورية التركية بإصدار أحكام بحل الأحزاب التي خالفت تلك القواعد ومنها القيام بحل حزب الرفاة عام 2001، وحزب الفضيلة عام 1998. إلا أن الأهم هو أن هذا الإطار فرض على القوى التى تصنف على أنها تنتمي إلى تيار الإسلام السياسي بأن تطور من فكرها وممارستها كشرط أساسي لاندماجها في النظام السياسي. وأخيرا يمكن القول إن هناك ضرورة لوضع قواعد واضحة ومفصلة تنظم العلاقة بين الدين والسياسة، وضرورة تدخل الدولة الحازم لتطبيق هذه القواعد. وقبل كل ذلك ضرورة قيام قوى الإسلام السياسي بتطوير أفكارها وممارستها وقبول قواعد العملية السياسية التي ارتضتها الأغلبية، فلا يمكن إدماج قوى في نظام سياسي ترفض القواعد التي تقوم عليه وتسعى للإطاحة به.
كاتب المقالدكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
عضو والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية
0 تعليقات:
إرسال تعليق