الذى عاصر الكاتبة والمناضلة والفنانة فتحية العسال عبر العقود العديدة التى شاركت فيها الحياة السياسية والفنية، سيدرك أن طاقة هذه السيدة تفوق طاقات كثير من رفاقها والذين شاركتهم وشاركوها العمل السياسى على مدى هذا التاريخ،ولأن زمانى أسعدنى بمعرفة السيدة فتحية العسال منذ منتصف السبعينيات فى القرن الماضى،وهى تشتعل نشاطا وحيوية وطرح أفكار ومناقشة وحوارا،لم أكن مندهشا وهى تشاركنا فى الاعتصام الذى بدأه المثقفون المصريون فى وزارة الثقافة،ضد الوزير الأخوانى والنظام الأخوانى والسياسة الأخوانية،ولم أندهش من هذا الحماس الذى كانت تتفجر به فتحية طوال الوقت فى الحوارات والمناقشات والهتافات التى كانت تعلوبين جدرات وزارة الثقافة،التى تقع فى ضاحية الأرستقراطية المصرية،هذه الشعارات التى جذبت سكّان الزمالك،الذين كانوا يلقون بالبمبونى والشيكولاته على المعتصمين،وكانت فتحية تكون أول الحاضرين فى الصباح،وتجلس إلى طاولة الاجتماعات،حاضرة البديهة،ومبدعة للأفكار،وعندما تهاجمها أوجاع الثمانين،ويخلو المكان نسبيا من المعتصمين،يتمدد الجسد المنهك على إحدى الكنبات لترتاح قليلا،وتستيقظ حتى تواصل التمرد والاحتجاج والمشاركة،وليس هذا غريبا على سيدة قضت معظم حياتها فى التمرد والاحتجاج والثورة،وحضرت كافة أشكال هذه الاحتجاجات منذ الأربعينيات،عندما خرجت فى مظاهرة ضد الاحتلال الانجليزى،مرورا بالتمرد على سلطة ثورة يوليو،وحبس الشيوعيين،وعلى رأسهم زوجها عبدالله الطوخى القاص والروائى وكاتب الرحلات والصحفى،وقد سجّل بداية تعلقه وحبه وعلاقته بها منذ خطواتها الأولى،والذهاب إليه وخلفه فى المعتقلات الناصرية،وقصة عبدالله الطوخى وفتحية العسال،قصة مفعمة بكافة أنواع الحكايات العاطفية،وكانت فتحية فى بدايات زواجهما معروفة باسم فتحية الطوخى،ولكنها تمردت على الإسم فأصبحت فتحية العسال،وتاريخها كله هو تاريخ من التمرد على كل أشكال السلطة والتسلط،بداية من سلطة الأخ الشديد العصبى المتعسف،إلى سلطة التقاليد والقيود الاجتماعية الخشنة،إلى التمرد على السلطة السياسية،وهذا ماجعلها تنخرط بقوة فى الحركة الشيوعية المصرية منذ طورها فى حلقتها الثانية فى الخمسينيات،حتى الحلقة الثالثة فى السبعينيات،وكانت تنتمى إلى الحزب الشيوعى المصرى(8 يناير)،ثم تمردت على الحركة الشيوعية نفسها،لتصنع صيغة خاصة بها،صيغة فتحاوية عسّالية كما كان يحلو لى أن أقول لها،وفى ظل كل هذه الأشكال التمردية التى كانت تروق لفتحية،لا نلاحظ أنها تشكو بشكل شخصى،أو تصدّر شعورا بالضعف لكونها امرأة ومكسورة الجناح ومهضومة الحقوق،فدوما وعبر كل الكيانات التى كانت تشارك فيها،تمنح الآخرين جميعا الحماس والقوة والقدرة على المقاومة،وهذا كان ماثلا أمامنا بشكل واضح حتى أيام الاعتصام المجيدة،عندما كانت تأتى فى الصباح،وتضع سيارتها بعيدا عن مكان الاعتصام قليلا،ثم تنادى على أى شخص تعرفه من أصدقائها وتقول له:"تعال ياواد ان"،ثم تتوكأعليه حتى تصل إلى مقر الوزارة،مانحة الاعتصام حيوية وروحا مختلفة بشكل يومى،وكان يشاركها الكاتب الكبير بهاء طاهر،وفى يوم 30 يونيو،عندما تجمع المثقفون والفنانون فى بهو وزارة الثقافة للتحرك صوب ميدان التحرير فى المسيرة الحاشدة،شاركتنا هى والأستاذ بها المسيرة خطوة بخطوة،ولكن من داخل سيارتها،وكنا مشفقين عليها من المشقة والجهد،ولكنها كانت تداعب من يقول لها :"خليكى هنا فى الوزارة ياست فتحية"،فترد على ناصحها قائلة:"هوانت فاكرنى ياواد مش هقدر آجى معاكم،د أنا أصغر منكم كلكم!
ولو تأملنا مسيرة فتحية الطوخى التى أصبحت فتحية العسال،من خلال كتابها حضن العمر،ومن خلال ماكتبه عنها عبدالله الطوخى، سنتعرف على شخصية صلبة قاومت وتمردت واحتجت وثارت من خلال تنظيمات ومظاهرات وانتفاضات،ودوما كانت تحطم قيود سجن لتخرج إلى سجن آخر،فتحطم قيوده،وهكذا وهكذا،وكان تمردها هذا المبكر سببا فى حرمانها من التعليم،ولأن والدها كان معجبانيا،وغارقا فى علاقاته النسائية،لذلك كان يخاف عليهامن الاختلاط والخروج،حتى النوقوف فى النافذة كان ممنوعا عليها،واللعب مع الأطفال كان أيضا ممنوعا،فعندما كانت تلعب مع طفل صغير مثلها فى السابعة من عمره،وهو الطفل جورج،قال لها والدها :"لعب مع عيال تانى ممنوع، خروج للشارع ممنوع،وقوف فى النافذة ممنوع"،وكان يقول لزوجته سليلة عائلة السنهورى:"يازينب بنتك كبرت،ومفيش داعى تخرج،عشان خروجها ده هيجيب لنا الفضايح"،ولم يكن الوالد فقط هو الذى يمارس سلطته الأبوية فقط،ولكن شقيقها حسنى كذلك كان يمارس سلطته الأخوية والذكورية بشكل بشع،ولكن البنت المتمردة والمتفجرة بالأنوثة والحيوية،كانت تكسر هذه السلطة بكل ماتملك، وعندما منعوها من التعليم،وأخرجوها من المدرسة الألمانية،علّمت نفسها بنفسها الكتابة والقراءة،وكانت هذه الكعرفة الجديدة نافذة لها على العالم الآخر،عالم القصة والحكى والحواديت والخيال،وتعلمت كتابة القصة،وكانت أولى كتاباتها عن شقيقتها نجيبة،التى تعرضت لقهر الأسرة كذلك،وتزوجت من شخص فظ لا تحبه،وأرادت أن تنفصل عنه بالطلاق،ولكن هذا الزوج كان يملك حقه فى جرجرجرة زوجته إلى بيت الطاعة،وكانت فتحية،أو فاطمة وهذا اسمها الأصلى،كانت تراقب كل ذلك،وترصده،وتخرجه فيما بعد فى قصصها ومسرحياتها ومسلسلاتها التى أبدعتها فيما بعد،وكانت هذه الطفولة المتعثرة التى عاشتها فتحية،تطرح عليها كمية أسئلة بلا حل فى ذلك الوقت،مثل ماهو بيت الطاعة؟وماهو الشرف؟،وعندما تتعرف على بعض الإجابات،كانت تندهش،وتبحث عن صحة هذه الإجابات،وهناك قصص عديدة تسردها فتحية فى سيرتها الذاتية "حضن العمر"،والتى صدرت فى أربعة أجزاء منذ سنوات،وبالطبع لا نستطيع أن نسرد عشرات الحالات والمواقف والحكايات التى طرحتها فتحية بقلم رشيق،وفى لغة شعبية صافية،فمثلا صديقتها التى فقدت غشاء البكارة مع حبيبها وزميلها فى المصنع،وكانا متفقين على الزواج،ولكن بعد إضراب قاده هذا الحبيب من أجل حقوق العمال،فقبض عليه،وتم الحكم عليه لمدة ثلاث سنوات يقضيها هذا الحبيب فى السجن،وتحطم حلم الحبيبة،بعد أن أجبرها أهلها لكى تتزوج من آخر،وكانت الصديقة تخشى أن تنكشف فى ليلة الدخلة أنهافقدت شرفها،فماكان من عمّة فتحية إلا البحث عن حلّ شعبى،كان دارجا وبسيطا،ففى يوم الدخلة ذبحت كتكوتا،واصطحبته العروس إلى غرفتها،وتضع المنديل فى هذا الدم،ليخرج الأهل فرحين بهذا الشرف الوهمى والمزيف، وكذلك كان والدها العاشق والمزواج على علاقة بجارتهم فى السكن،وقد رأت فتحية فى إحدى الأمسيات،وفى غفلة من والدتها،أن أباها كان يمارس الجنس مع هذه الجارة،وبعد ذلك يحدث حمل،وتريد هذه الجارة فيما بعد أن تسقط الجنين بعد أن تكون وهو فى الشهر الرابع، وبالفعل تذهب لإسقاط الجنين،وتصاب بالحمى،وتموت بعدها،وعندما كان الناس يشيعون جثمان الجارة،رأت والدها وهو يبكىب حرارة فى الشباك، ويقول لها:سامحينى سامحينى،أنا ظلمتك،وهكذا تتواتر الحكايات الفظيعة والمؤثرة التى تتوالى أمام هذه الطفلة العنيدة،والتى تكتسب يوما بعد يوم طاقات جديدة لشحن هذا العند،للدرجة التى ترفض عريسين كانا"لقطة"بالمقاييس الاجتماعية التقليدية،وكانت فى الخطوبة الثانية قد تعرفت على حبيبها عبدالله الطوخى،الذى كان يجلس بالساعات عند المكوجى الذى يقع دكانه فى مواجهة منزلهم بالسيدة زينب،وكان عبدالله مازال طالبا فى كلية الحقوق،وكانت هى "تبص"عليه من النافذة الملعونة،هذه النافذة التى جعلت أحد جنود الانجليز يصعد إلى المنزل،محاولا النيل منها،وكان سكرانا،ولكن عندما وقع هذا الانجليزى فى يد والدها،لقنه علقة موت،واشترك معه الجيران فى تكسير هذا الانجليزى الكريه،وقال الوالد آنذاك:"آدى اللى بيجيلنا من الاستعمار وزبالته"،وكانت كالعادة تسأل مامعنى الاستعمار؟،وعندما تعرفت على الإجابة،أعجبتها كافة أشكال المقاومة لهذا الاستعمار،والذى اشتركت فى إحدى المظاهرات ضده فيما بعد، وهذا هو عبدالله الطوخى الشاب الحليوة والجميل،يشنف آذانها بكلام رائع عن مقاومة الاستعمار،ولكن عبدالله كاد يطير منها،لأن والدها وشقيقها صمما على أن تحضر قراءة الفاتحة السيدة والدته،لأن والده كان قد مات وهو مازال جنينا،ولأن هذا الطلب كان متعذرا وشبه مستحيل،لأن والدته لن توافق بأى حال من الأحوال على قراءة الفاتحة قبل أن يتخرج عبدالله من الجامعة،وعاد عبدالله من لقاء الوالد منكسرا وحزينا،ولكنه يذهب إلى بلدته ويعود بوالدته وشقيقه،ويقرأالجميع الفاتحة،وفى 16نوفمبر 1950،يتزوج الحبيبان،ويعيشان أجمل قصص الحب والغرام،وبعد أكثرمن ثلاثين عاما،وثلاثة أولاد هم إيهاب وصلاح وشريف،وابنة واحدة هى الفنانة صفاء الطوخى، تطلب فتحية الانفصال،وتتمرد فتحية العنيدة على سلطة الزوج والزواج،وبعد شدوجذب عنيف،يحدث هذا الطلاق،لتعيش عذابات أخرى عديدة،وتكتب سيرتها الذاتية،التى أعتبرها بمثابة تفسيرات وتأويلات واعتذارات لهذا الرجل الذى أحبها بجنون،وعاش رجلا حقيقيا، لا يحمل أى تخلف من النوع الذكورى السلطوى،وفتحية كانت تتنفس بكل قوة فى ظل هذا المناخ الزوجى،رغم أنها تعرف بأن الزواج قد لحقته خلافات كثيرة،وتراها هى خلافات جذرية،وربما لا أفهم أن أى خلافات سياسية من الممكن أن تؤدى إلى انفصال زوجين كما حاولت فتحية أن تفسر،بأن خلافها مع زوجها عبدالله الطوخى كان حول اتفاقية كامب ديفيد،فهو كان يؤيدها بقوة،وهى كانت ترفضها كذلك بقوة،ولا تكشف المذكرات حقيقة الخلافات،وفتحية التى كانت تدوس على جروحها بقسوة،لم تستطع الجهر بالخلافات الحقيقية وراء هذا النفصال،ولكن العلاقة الانسانية ظلت قائمة بينها وبين عبدالله حتى رحيله فى أوائل الألفية الثالثة،لتلحق به هذه السيدة العظيمة التى خاضت كل أشكال النضال المصرى فى سبيل وطن عظيم يخلو من العبودية والتخلف والتعصب والكراهية.
شعبان يوسف
0 تعليقات:
إرسال تعليق