Ads

السهاد





لم أعد أستطع النوم .. فلم يعد لأي دواء منوم أو حتى مخدر أي تأثير علي !
منذ أن رحل رضيعي تاركاً إياي وحيدة في عالم لا أحب فيه ولا يحبني فيه أحد وأنا لا أنام !
لم يكن الأمر فقد وليدي  فحسب  .. بل حرماني من الأمل في الأمومة إلى الأبد .. فلم يتبقى لي إلا الجنون أو الموت !
***********
تركني زوجي أبيت بمفردي وكانت هذه منة عظيمة منه.. فما أحلى الساعات التي أقضيها بمفردي بعيداً عنه !
اخترت غرفة الأطفال التي كنت قد أعددتها لولدي لأبيت فيها .. حسرتي على الأثاثات اللطيفة والمفروشات البهيجة التي انتقيتها له بعين قلبي ثم لم يُكتب له أن ينام  عليها  ليلة واحدة !
قضيت الليلة على فراشه المزين بصور الشخصيات الكرتونية المحببة أحدق فيما أعددته لطفل لن يكون له وجود في حياتي أبداً .. غلبتني دموعي فأجهشت بالبكاء نحو نصف الساعة .. تركت دموعي تكوي أحزاني وتقفل جروحي المفتوحة .. البكاء هدأني ؛ وإن زاد حزني ولوعتي ؛ وسلب اليقظة من عيني فمضيت أحس بتثاقل جفني شيئاً فشيئاً حتى كدت أغيب في النوم !
***********
استيقظت على صوت غريب خارج نافذتي .. في البداية اعتقدت أنه غصن من أغصان  شجرتنا العتيقة يضرب الزجاج .. تجاهلته وأغمضت عيني محاولة الاستغراق في النوم !
مرة أخري عاد الصوت فطار كل نوم من عيني .. انتفضت من على الفراش وأسرعت نحو النافذة وأغلقتها بالمزلاج بعنف .. عدت للفراش وتناولت ست حبات منومة دفعة واحدة بدون ماء .. وألقيت نفسي في الفراش لأجبر نفسي على النوم ولو رغما عنها !
بالفعل تسلل إلى هدوء غريب وأحسست باطمئنان لم أعرفه طوال عمري وأغمضت عيني ..
بعد ثانية شعرت بشيء لطيف يلمس وجهي فانتبهت .. في الظلام شاهدت ظلاً خافتاً بجوار فراشي .. ظلاً لا آخر ولا أول له بل أندمج في الظلام المحيط به فلم يعد من الممكن تمييزه عنه !
كان من المفروض أن أصرخ .. أركض .. أنادي زوجي .. أصيح طالبة النجدة .. ولكن شيء من ذلك لم يحدث !
لم أصرخ ؛ لم أركض ؛ لم أنادي زوجي ؛ لم أصيح .. بل لم يخطر لي أن أسمي باسم الرحمن الرحيم حتى !
فقط ظللت أحدق في هذا  الظل  العجيب  الذي أقترب من دائرة ضوء النافذة أكثر فوضحت معالمه وملامحه العجيبة .. كان مخلوقاً فريدا  لا سبيل لوصفه ولا ضرورة لذلك لأنك لن تجد له شبيهاً في رؤاك البشرية .. أقترب هذا المخلوق مني أكثر ومد يداً قصيرة فيها زوجين من الأصابع النحيلة وربت على جانب وجهي وشعري بحنان .. ثم مد لي  يده كأنه يدعوني  للذهاب معه .. ترددت قليلاً .. ثم لم ألبث أن شعرت بقوة غامضة تنتزعني بلطف من فراشي وتعلقني بذراع هذا المخلوق الفريد ..
وذهبت معه دون خوف !
***********
في الصباح لم أنتبه لصوت زوجي وهو يوقظني إلا بعد أن ظل يناديني ربع ساعة أو أكثر ؛ كما قال لي ؛ استيقظت شاعرة بأني كنت أحلق في سماء زرقاء شديدة الصفاء وأطفو في سحاب لامع يغمره ضوء هادئ  يبعث الاطمئنان في النفس .. انتزعني صوت زوجي الجهوري المزعج من هذه الدنيا الرائعة التي كنت أمرح فيها فصحوت ساخطة عليه لانتزاعي من أحلامي البديعة .. ولكن سخطي عليه لم يمنع أحاسيس السعادة والصفاء التي كنت أشعر بها .. وغادرت الفراش مسرعة وكان أول شيء فعلته هو أن ذهبت إلى زوجي مسرعة وعانقته بلا مقدمات !
***********
بعد أشهر ثلاثة اكتشفت أنني حامل .. وقف الطبيب مذهولاً وهو يحدق في نتيجة التحليل غير مصدق ما يراه .. قال لي وهو يخلع ويلبس نظارته مراراً في حركات عصبية غاضبة :
" مستحيل .. هذا مستحيل .. لابد أن طبيب التحاليل هذا مجرد حمار ! "
ولم يهدأ الطبيب إلا بعد أن وعدته بإجراء أشعة تليفزيونية فوراً .. لكن نتيجة الأشعة لم تريح الطبيب المسكين الذي كاد  أن  يفقد عقله .. لأنها جاءت معضدة لنتيجة التحليل !
***********
بعد خمسة أشهر وضعت غلاماً لطيفاً أسعدني وأضاء الدنيا من حولي .. أصبح طفلي شغلي الشاغل وأهم شيء في حياتي .. بعد مولده مباشرة تم الطلاق بيني وبين زوجي بناءً على رغبتي .. لا أستطيع أن أخدعه ولا أن أحمله مسئولية طفل أشك في كونه طفله !
استقلت من عملي وتفرغت لرعاية طفلي الذي يكبر بصورة عجيبة .. ومن أجله كنت أظل طوال اليوم بجواره لألبي كل احتياجاته .. من أجله تركت عالمي كله وعشت مع والدتي في بيت منعزل بعيداً عن وجوه الناس وتعليقاتهم ونظراتهم الغريبة لطفلي الذي لا يماثل أطفال  بقية  الناس .. ومن أجله أظل ساهرة  معه  طوال الليل بجوار النافذة لعل الطيف المراوغ يظهر ؛ كما يظهر كل ليلة ؛ ليعبر كالبرق أمام النافذة ملقياً نظرة سريعة على الطفل الراقد في حجري .. والذي ينتظر هذا الطيف كل 
ليلة ولا ينام إلا عند رؤيته !


 منال عبد الحميد

0 تعليقات:

إرسال تعليق