حرية سليمان
فركَ عينيهِ، كان المصباحُ مطفئًا فلمْ تدركْ عيناهُ الزوايا بوضوحٍ، ولم يكنْ الفراشُ بذاتِ الدفءِ، لا أنفاسَ بالمقابلِ يصطدمُ بها صدرُهُ الصغيرُ فتعودُ مرتدةً تحملُ رائحةً حميمةً كتلك هناك فيتوقفُ اصطكاكُ أسنانِهِ ولو مؤقتًا، حتى وإن اختلطتْ أنفاسُهُ بأزيزِ وحشرجاتِ ضلوعِهِ الشائخةِ. كان لها مثلُ ذاك التأثيرِ الفوضويِّ العذبِ. يكرهُ أن يحدثَ ذلكَ، يكرَهُ أن يفترقَا، لكنَّهُ لم يكنْ إلى جانبِهِ بلْ كانَ بالفراشِ المقابلِ بآخرِ الحجرةِ المستطيلةِ ذاتِ النقوشِ البديعةِ كالأحجياتِ، ولم تقعْ عينَهُ حينَ أفاقَ إلَّا على أشباحٍ مكومةٍ لأجولَةِ القمحِ والذرةِ المنتفخةِ وطستِ البتَّاو. لاشكَ أنها حملتْهُ نائمًا ووضعتْهُ هناكَ لسببٍ ما، تلفَّتَ حولَهُ منزعجًا فرآه متوسدًا الفراشَ منهكَ القوى، ولمحَ الاهتزازةَ التي طالما اعتادَهَا. بادلَهُ نظرةً سريعةً ويدَهُ تفتِّشُ عنْ منديلٍ أسفلَ وسادتَهُ نظيفٍ من بقعِ الدمِ, التقطَهُ مسرعًا ووضعَهُ على فمِهِ فاختلفَ صوتُ السعالِ، أصبحَ مكتومًا غليظًا، كانَ الجسدُ العجوزُ يرتجُّ بشدةٍ وكانَ الفِرَاشُ أيضًا ينتفضُ كموجةٍ مصطنعةٍ تحملُهُ للوجعِ و تجعلُهُ منهكًا، لم تكنْ نوبةً غيرَ معتادةٍ بمثلِ هذا الوقتِ مِنَ العامِ، لكنَّ عينَا الصغيرِ تعلقتَا بصدرِهِ المرتجِّ بقلقٍ. نظرَ إليهِ مشيرًا أنْ تعالَ، قفزَ مندفعًا باتجاهِهِ، جلسَ القرفصاءَ على الحافَّةِ وظلَّ يحدِّقُ بِهِ، لمْ يطمئنَّ وظلَّتِ الحدقتانِ تتسعانِ.
- متخافش، لسه الأجل ما جاش
خطواتُها متعثرةٌ تقتربُ رويدًا، تجتازُ المسافةَ من حجرتِهَا مارةً بالصالةِ الكبيرةِ لتستديرَ نصفَ استدارةٍ صغيرةٍ بمحاذاةِ الطاولةِ، متشحةً تَلَعْثُمَهَا ونظرةً متوجسةً مركزُهَا بقعةُ دمٍ جديدةٍ تتوسَّطُ الوسادةَ تحتَ وجنتِهِ, تشكِّلُ نقشًا متكررًا بحوافٍّ تنتهي لرذاذٍ متباعدٍ باهتٍ. أوقدَتِ المصباحَ فعكسَ أشعَّةً صفراءَ أجَّجَتْ نداوةَ الغرفةِ.
تدخلُ مسرعةً تحملُ قربةَ الماءِ وزجاجةَ دواءٍ جديدةٍ غيرَ تلكَ التي فَرِغَتْ بالأمسِ. ابتعدَ الصغيرُ قليلًا عنِ الحافَّةِ ليسمحَ لها بالمرورِ. جلستْ قبالتَهُ، تحسَّسَتْ جبهتَهُ، وضعتْ القربةَ الدافئةَ على صدرِهِ وناولتْهُ ملعقةَ دواءٍ فابتلعَهَا متأفِّفًا.
أمَّا الصغيرُ فانتفضَ واقفًا بمنتصفِ الفراشِ، وظلَّ يقفزُ عاليًا, فعادتْ الاهتزازاتُ من جديدٍ. رمقتْهُ بحدةٍ وأمرتْهُ بالتوقفِ، قفزَ في محاولةٍ أخيرةٍ للمسِ السقفِ وفعلَ، ثم تربَّعَ جالسًا.
- عاوز اروح المراجيح...
قالها بتذمر ٍوأردف
- مين هايودينى ؟
ينشغلُ بحباتِ المسبحةِ الكهرمانِ وقدْ التفَّتْ وتكومتْ بعيدًا بالركنِ، يداعبُهَا بطرفِ أُصبُعِهِ, فيسارعُ للقبضِ على كفِّهِ الصغيرةِ بقبضةِ يدِهِ... خشنةً كانت وحنونًا.
- أنا... يقولها بخفوتٍ، ينظر إليهِ بطرفِ عينِهِ بتشكُكٍ، يودُّ لو يتسلَّلَ نصفُ الجملةِ الآخرُ فتتحقَّقُ المعجزةُ... "هو انا عمرى كدبت عليك" لكنَّهُ لم يأتِ. كانَ يشمُّ رائحةً غريبةً لمْ يدركْ لها مصدرًا، رائحةٌ مقترنةٌ بماءِ الزهرِ والريحانِ.
- أنت ؟!
يبادِلُهُ شكًا بشكٍ، يسعلُ العجوزُ ويشيرُ للنافذةِ ...
- عينى ما غفلتش امبارح، ديك بت نوح عاوز الدبح
تخيفه الكلمةُ "الذبحُ" تقترنُ عادةً بلونٍ أحمر قانٍ لسائلٍ لزجٍ كالذي يفترشُ الوسادةَ كلَّ ليلةٍ، كلَّمَا صاحَ ديكُ بنتِ نوح كلَّمَا قفزتْ الكلمةُ لعقلِهِ، واندفعتْ عيناهُ بشكلٍ لا إراديٍّ للمنديلِ والوسادَةِ ولأثرٍ بارزٍ لجرحٍ قديمٍ بمنتصف ركبته.
يناولُهَا القربةَ فتعيدُهَا إلى صدرِهِ. يتجِهُ الصغيرُ للنافذةِ, ويمسكُ بالقضيبِ الحديديِّ. يصيحُ كديكِ بنتِ نوح؛ فيجيبُهُ الديكُ. تلكزُهُ بذراعِهِ وتأمرُهُ ليصمتَ.
- سيبيه براحته
يعودُ الصغيرُ يناوشُ الديَكَةَ ممسكًا بقضيبٍ النافذةِ الوحيدِ، يطلُّ برأسِهِ متأملًا جموعَهُم بعدَ الصلاةِ، يتشابهونَ بالعماماتِ والجلابيبِ، صوفيةٍ زرقاءَ وبنيةٍ باهتةٍ، أثرٌ من البللِ الخفيفِ على بعضها بالحوافِّ. لم تكنِ الأرضُ بورًا وهمْ هناكَ. بدتْ أشجارُ الكافورِ الضخمةُ كظلالٍ ممتدةٍ تتمايلُ حروفُهَا، لاحَ سربُ اليماماتِ محلقًا، مجرَّدًا من تستُّرٍ مداعبًا مقلتيه الصغيرتين.
- عينى تغفل ساعة واقوم اخدك ونروح.
يعودُ يلتصقُ بِهِ، كانَ الجسدُ دافئًا، تتشابكُ التجاعيدُ بكفيهِ العرقاوينِ؛ فتصنعُ شبكةً تاريخيَّةً كما صنعتْ بوجهِهِ وعنقِهِ. ذكَّرَتْهُ بحباتِ الحلبةِ بثمالةِ الكوبِ الزجاجيِّ. لا يدري لماذا. كانتِ العينانُ أكثرَ زرقةً عن ذي قبل، أما شاربُهُ الأبيضُ لم يشذَّبْ لأسابيعٍ واختفتِ الشفتانِ الرقيقتانِ واستطالتِ اللحيةُ، لكنَّ النايَ يَبْرُزُ مِنْ غمدْهْ الكتَّانِ، لهُ شهورٌ لمْ يداعِبْ ثغورَهُ المتدرجَةَ, ولمْ يتداعى اللحنُ الصوفيُّ، لكن...
- البيت الكبير ما بقاش كبير
ليلُ الشتاءِ طويلٌ وباردٌ، صخبُ الجدرانِ الصماءِ بنقوشِهَا القديمةِ يباعدُ ما بين الضلوعِ والأنسجَةِ؛ فلا هو ألمٌ مستمرٌّ ولا هي راحةٌ مؤقتةٌ. انغماسُ وتدِ الروائحِ المألوفةِ يحرِّكُ مجسَّاتِ الرؤى. نافذةٌ بجدارٍ قديمٍ، نافذةٌ بقضيبٍ واحدٍ لا يمرِّرُ رأسَهُ. الصغارُ وحدَهُمْ يملكونَ ذاتيَّةَ الولوجِ. يتحسَّسُ القضيبَ، صدئًا كانَ وخشنًا ومحبَّبًا. تلكَ كانتْ رائحةُ كفِّهِ حينَ لَمَسَهُ. رائحةٌ مفعمةٌ بالتهالكِ. لكنَّهُمْ هناكَ بالخارجِ بنفسِ المكانِ حينَ ينتهونَ من الصلاةِ ويرددونَ الأذكارَ ويتفرقونَ. تنتشرُ البقعُ الرطبةُ بحوافِ الجلابيبِ فتلتقطُ من غبارِ الأرضِ ما يتركُ رموزًا تعودُ للزمنِ البعيدِ. هناكَ وحيثُ الأرضُ جدبٌ من دونِهِمْ.
بت نوح تتكئُ للجدارِ وتهشُّ الذبابَ عن حفيدِهَا الأخرسِ، تقوَّسَتْ كطرفِ عَصَاةٍ، شاختْ وكبُرَ الصغارُ وتكوَّمَتْ أعمدةُ الأراجيحِ متفرقاتٍ بالجوارِ. صغارُهَا الذينَ كبروا قاسموكَ الدهشةَ حينَ الولوجِ من جانبِ القضيبِ. كانتْ تحممهمْ فى الطلّْ، كانتْ أجسادُهُمْ الورديَّةُ لترتعدَ من رطوبةِ طوبة. كانوا يبكونَ فتضحكُ لكنَّهَا كانتْ تصرُّ أن تحمِمَهُمْ فى الطلِّ ليكتسبونَ قوةً؛ فيتعلقونَ كالقرودِ بالأراجيحِ طيلةَ العيدِ. كانتْ تفعلُ ذلكَ أحيانًا، لكنَّهَا كانتْ تضعُ ملاءةً مثقوبةً مدلَّاةً فَتَحْجُبُهَا مؤقتًا، ودومًا كان هناك انعكاسٌ لجسدِهَا الممتلئِ يتمايلُ باتزانٍ. تبًا لحرصِهَا المصطنعِ.

0 تعليقات:
إرسال تعليق