د. أحمد الخميسي
ربما يكون تفريق مظاهرة أو فض اعتصام بشري أسهل من تفريق فكرة وفض اعتصام فكري. قد نتمكن بالغازالمسيل للدموع من تفريق المظاهرة. لكن لتفريق فكرة سنحتاج لعمل مختلف ثقافي وسياسي طويل الأمد. لقد تم فض الاعتصام البشري في رابعة والنهضة. لكن الاعتصام الفكري يتجاوز الجغرافيا إلي التاريخ، ومجابهته معركة تستلزم تخطيط وقوات من الكتاب والمثقفين ومدفعية من الرؤى وذخيرة كلمات حية، وتلك هي المهمة الأصعب في تقديري. و مع أن " الرحمن الرحيم " تأتي أولى صفات الخالق عز وجل، إلا أن الإخوان اعتمدوا تفسيرهم كجماعة إرهابية دموية للدين وقدموا ذلك التفسير بصفته الإسلام، وهو لايزيد عن تصور بشري معين تطرحه جماعة بعينها ويتناقض حتى مع تصورات أخرى لجماعات إسلامية مغايرة مثل السلفيين وغيرهم.
إن اعتصام الإخوان الفكري أشمل وأبعد من اعتصامهم البشري في مكان بعينه. إنه اعتصام داخل العقول، ولا سيما في الريف المصري والمناطق الفقيرة من المدن. هناك حيث كما قال ابن رشد " لكي تتحكم في جاهل عليك أن تغلف كل باطل بغلاف ديني". وإذا أردنا أن ننتقل من المواجهة الجغرافية للإخوان إلي المواجهة التاريخية معهم فإن علينا أولا وقبل كل شيء أن نضع في الدستور مادة واضحة تحظر تكوين جماعات سياسية على أساس ديني. وأن تتم محاكمةالإخوان سياسيا وليس جنائيا فحسب. فليست تهمة المرشد العام وزملائه الرئيسية هي فقط التحريض على القتل وبث الكراهية، تلك تهم جنائية، أما تهمته السياسية والأخطر فهي تهديدالسلم الاجتماعي وأمن الوطن والعمل على هدم الوحدة الوطنية وتعريض الأمن القومي للخطر. ومن دون محاكمات سياسية علنية للإخوان سنظل أسرى الإطار الجغرافي والجنائي للموضوع. وتعد حالة المعزول محمد مرسي نموذجا للتعامل الجنائي وليس السياسي مع القضية. فالتهمة الموجهة إليه هي الهروب من سجن النطرون، بينما تهمته الحقيقيةالسياسية هي دعم العمليات الإرهابية في سعيها لشق الوطن بتأجيج الفتن الدينية والطائفية. إن محاكمة الإخوان علنا وعلى أساس سياسي سيوفر فرصة نموذجية لتعريةالطبيعة الفكرية الإرهابية للإخوان، وأساليب عملهم التي لا تربطها صلة ب " آليات الديمقراطية " التي يتباكون عليها، وسيساعد ذلك الكثيرين من البسطاء على إدراك جوهر تلك الجماعة التي نجحت في تشويه صورة الإسلام كما لم تفعل جماعة من قبل.
وإذا نجحنا في وضع قضية الإخوان كقضية سياسيةوليست جنائية فقط ، وإذا نجحنا في تضمين الدستور حظر مثل تلك الجماعات، وإذا نجحنا في تنظيم مواجهة ثقافية جادة ، فإننا نكون قد قمنا بالخطوة الأولى فحسب في الانتقال بالمواجهة من الجغرافيا إلي التاريخ. أما الخطوة الحاسمة ، الأكبر والأهم ، فهي القيام بتغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بحيث يتطابق وآمال الناس في حياة كريمة أو يقترب من تحقيق بعض تلك الآمال. لابد أن نقدم للناس ما يجعلهم يعقدون المقارنة بين حكم الإخوان والحكم الجديد، بين عجز الإخوان عن حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وبين نجاح الحكم الجديد في حل تلك المشكلات أو جزء منها.لابد أن نقدم للناس بأمثلة عملية في الواقع المحدد ما الذي يمتاز به الحكم الجديدعن حكم الإخوان. أي أن تقوم الحكومة الجديدة بحل مشكلات المرور والبطالة والإسكان والفقر وتدهور مستوى التعليم و التفاوت الصارخ في الدخول. أن يتحمل الحكم الجديد عبء استنهاض الصناعة الوطنية والزراعة والبحث العلمي وتوفير العلاج والعمل والكتاب وبطاقات دخول المسارح والمكتبات والحدائق العامة. حينئذ فقط سيقارن الناس بين برنامج الإخوان الذي لم يمنحهم شيئا وبرنامج الحكم الجديد، وحينئذ فقط سينفض الناس عن الإخوان فكريا، وحينئذ فقط نكون قد نجحنا في تفريق الفكرة وفض الاعتصام الفكري.أما أن نترك كل تلك المعضلات التي يرزح تحتها المواطن المصري كما هي من دون حل،فإن ذلك يعني فعليا أننا قمنا بفض مظاهرة مسلحة لا أكثر ولا أقل، بينما مازالت الفكرة ترعى في الظلام والفقر والجهل، ومازال اليأس الخادع يقدم نفسه للناس باعتباره الأمل الصادق. ومادام في مصر إنسان في الشارع يرفع أصابعه الخمسةإلي فمه لسائقي السيارات إشارة إلي جوعه ، فسيظل الجوع يلوذ بفكرةيائسة، هذه الفكرة اليائسة أو غيرها.

0 تعليقات:
إرسال تعليق