Ads

الفلسفة التربوية للقران الكريم وأهميتها في البناء الحضاري


عبير ياسين

السياق التربوى وأهميته فى مسيرتنا الحضارية : 

تتجلى أهمية هذا الجانب من كونه يمثل الأساس الذى بنى عليه المسلمون منذ بزوغ فجر الإسلام حضارتهم، حين كان القرآن تنفذ أوامره فى واقع المسلمين، أما اليوم فقد اختلفت الصورة جذريًا فلم يعد القرآن كما كان مفجر الطاقات ومجند القدرات وحافز الإرادات، وحتى إننا لنسمعه من إذاعات أجنبية معادية للمسلمين لأنها مطمئنة إلى أنه لم يعد ينبه من الأمة غافلاً أو يحيى فيها مواتًا(1).

وقد انحرف المسلمون اليوم عن العمل بأحكامه على عكس ما كان منهم منذ عصر الصحابة - والداعية إلى العمل وحسن الثواب عليه لقوله تعالى : ( فبشر عباد . الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ) [الزمر: 17، 18] ، ( انا جعلنا ماعلي الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ) [الكهف: 7] ، ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) [الملك: 2] وسورة العصر وآيات كثيرة لا تحصى كانت تمثل نبراسًا للمسلمين ودافعًا إلى الفوز بحسن ثواب الدنيا والآخرة، فكانت النفوس طامحة لأعلى المعالى فى الأمور كلها.

ومن هنا يبرز التحدى الكبير الذى يواجهه المسلمون اليوم ومدى البون الشاسع بين المقومات التى تحلى بها المسلمون الأوائل والقيم التى رباهم عليها القرآن الكريم ورسوله صلي الله عليه وسلم ، وبين القيم السلبية التى يتحلى بها المسلمون اليوم بانحرافهم عن هذا المنهاج الإسلامى . ولكى تتضح لنا الصورة بكافة أبعادها لابد من تحليلها للوقوف على الأسباب التى أدت إلى هذا النكوص الحضارى وكيفية معالجته من منطلق ما يدعو إليه ديننا ومن بشارات النصر والتي تمنحنا التفاؤل بالمستقبل دائما، شريطة نبذ اليأس والأخذ بسنن الله فى التحضر وأسبابه والتى منها الأساس التربوى الإسلامى وأهميته فى بناء الإنسان المسلم الحضارى.

وعن مدى الأهمية التى يمثلها الجانب التربوى المستمد من القرآن والسنة فى هذا الشأن يقول الدكتور عبد الغنى عبود: لن تقوم للعرب قائمة إلا إذا أعيد بناء هذا الإنسان العربى بحيث يكون كما كان فى عصور الازدهار العربى وفى ظل التصور الإسلامى للإنسان معجزة هذا الكون وخليفة الله فى هذه الأرض(2).

وقد أشار القرآن بآيات لا تحصى إلى هذه القيم التربوية الحضارية، وكتب عن ذلك الدكتور محمد البهى فى كتابه «نحو القرآن» نقتبس من ذلك ما ذكره عن موضوعية المبادئ القرآنية والتى تتمثل فى :

1- أن دعـوة القرآن تؤمـن برسالة الحضارة السابقة قبل عهـد الرسـول صلي الله عليه وسلم يقول الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزّل علي رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضلّ ) [النساء: 136].
2- أنها تدعو إلى الترابط بين الأفراد على أساس القيم العليا فى حياة الإنسان وليس على أساس العرق أو القبيلة يقول الله تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا ) وحبل االله هو القيم العليا المستمدة من صفات الله سبحانه وتعالى ، والاعتصام بهذه القيم هو الترابط والتماسك على أساس منها : ( واذكروا نعمة الله عليكم اذ كنتم أعداءا ) وذلك بسبب الترابط على أساس القبيلة والدم وهو رباط مادى ( فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا ) ( فألف بين قلوبكم ) على أساس الإيمان بالله مركز القيم العليا ( فأصبحتم بنعمته اخوانا ) أى فى الإنسانية والحضارة البشرية ( وكنتم ) أى على عهد القبيلة وتقاليدها ( علي شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) فالقبيلة كانت مصدر الحروب والخصومات بين القبائل.. ولكن بفضل الإيمان جاء السلام والصفاء النفسى للعلاقات بين أفرادها ( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) [آل عمران: 103] وهداية الناس بآيات الله وكتابه هى اتباع خطوط الحضارة الإنسانية فيه والابتعاد عن ضلال الجاهلية.

3- أنها تدعو إلى توفير الاعتبار الإنسانى والكرامة البشرية لكل فرد بغض النظر عن اللون والنسب والعرق والجاه والمال، يقول الله تعالى: ) يا أيها الذين آمنوا لايسخر قوم من قوم عسي أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسي أن يكونوا خير منهن . ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس لاسم الفسوق بعد الايمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون . يا أيها الذين ىمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ان بعض الظن اسم ولاتجسسوا ولايغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله ان الله تواب رحيم ) [الحجرات: 11، 12].

4- أنها تدعو إلى التفاضل بين الأفراد على أساس من التمايز بينهم فى مستوى الإنسانية وحده، يقول تعالى: ( يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا انا أكرمكم عند الله أتقاكم ان الله عليم خبير ) [الحجرات: 13].

5- أنها تدعو إلى التكافؤ: إنتاج الإنسان وعمله من أجل الرزق فى الدنيا من جانب... وعبادته لله من جانب آخر، يقول تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الي ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون . فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) [الجمعة: 9، 10] فسوى القرآن فى الأمر هنا بين وجوب أداء صلاة الجماعة إذا حل وقتها ومباشرة السعى بعد الانصراف من أدائها من أجل الرزق فى ضروب الحياة المختلفة، وهذا دليل على إيجابية الدعوة الإسلامية فى حياة الإنسان، وعلى أن التوكل على الله ليس طريقًا سلبيًا أى ليس تواكلاً...(3).

وبناءً على ما سبق والذى يمثل غيضًا من فيض للقيم الحضارية فى القرآن الكريم والتى لا يمكن تحقيقها بصورة صحيحة إلا بوجود فلسفة عربية تربوية تستمد أصولها من الكتاب والسنة محررة الإنسان من الأغلال التى كبلته فيها خطأ المفاهيم والأفكار الذى صاحبه فى عصور الانحطاط الحضارى، والتى انعكست على مجرى حياته بمختلف أبعادها ومنها صورة الإنسان فى القرآن الكريم والسنة النبوية والتشوه والضبابية التى صاحبت التصور عنه.

و مفهـوم هذه الــتربية يوضحــها أحد الرواد فى هذا الشـأن وهو الدكتـور عبد الرحمن النقيب بقوله : «إنها ذلك النظام التربوى والتعليمى الذى يستهدف إيجاد إنسان القرآن والسنة، أخلاقًا وسلوكًا، مهما كانت حرفته أو مهنته وهو إنسان مستخلف فى الأرض بما يتطلبه هذا الاستخلاف من الكدح المستمر فى سبيل إيجاد نوعية، من الإنسان راقية من الناحية الجسدية والعقلية والروحية والمهنية والحرفية»(4).

وتبدو الحاجة الملحة لمثل هذه التربية من الصيحات التى تتعالى لعلمائنا من أثر الوضع المشين لغياب منهج الدين فى قيادة الحياة، فالدكتور يوسف القرضاوى يقول: «إننا مسلمون بأسمائنا وشهادات ميلادنا وبعض الشعائر التى تربط بعضنا بدينه... ولكن الواقع أن حياتنا ليست إسلامية بل هى خليط غير متجانس من الإسلام والمادية والوثنية والتبعية الفكرية الروحية»(5).

وفى هذا الصدد يقول الأستاذ جمال البنا: «الإسلام الذى نتحدث عنه هو إسلام القرآن والرسول صلي الله عليه وسلم وليس إسلام الفقهاء أو الخلفاء وأن ما يحسب على الإسلام هو نص القرآن وأعمال الرسول والخلفاء الراشدين، فحقوق الإنسان لم تلحظ فى معظم عهود الحكم الإسلامى بدءًا من معاوية إلى سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924.. وكذلك لا نجد فى الفلسفات الأوروبية بدءًا من فلسفة أثينا حتى فلاسفة العصر الحديث اعترافًا بحقوق الإنسان قاطبة ودون تمييز، يتمثل ذلك فى إفناء سكان أمريكا الأصليين واستعباد شعوب إفريقيا والمذابح البشعة فى الشعوب التى استعمروها...، الرأسمالية لم تتوحش وتتوغل كما يحدث الآن، وأوجد عهدًا من العربدة الدولية...»(6).

التحديات التى تواجهها الفلسفة التربوية للقرآن :

فى ظل الواقع الراهن الذى تعيشه أمتنا كان من السهولة الوعى بالتحديات والمعوقات التى تقف حجر عثرة أمام أى إصلاح داخلى تمليه المآسى الجمة التى تحيق بأمتنا ومنها :

1- التركة الثقيلة من عصور التخلف والضعف الحضارى ومؤداها أن الإنسان مسير وليس مخيرًا، ويجب تربيته بحيث يكون متلقيًا للأوامر دون مناقشة أو معارضة، وأنه يجب أن يعمل للآخرة تاركًا الدنيا للحكام المستبدين يستمتعون بها بالنيابة عنها، فوئدت كرامة الإنسان وشُلت فاعليته وسهل استسلامه للطغاة(7)، وهو ما سبق ذكره.

2- التمزق الجغرافى لكيان الأمة حيث أصبح كل قطر منفصلاً بمشكلاته عن الآخر وساعد على هذا الوضع الاستعمار لأن ذلك يخدم مصالحه وصار هذا الوضع أيضًا بعد التحرير ولكن لخدمة الحكام وحاشيتهم فأصبحت التربية فى كل بلد تدعم هذا المنحى بتمجيدها للحاكم، وكانت الفترات التى قدر للعرب فيها الاتحاد تشهد نصرًا عظيمًا على أعدائهم مثل حرب أكتوبر وهى فترات ضئيلة بمقياس التاريخ»(8).

وفى هذا الصدد أيضًا يقول الدكتور محمد فاضل الجمالى، إن الاستبداد بالحكم والانقسامات الداخلية والتعصب الأعمى أمراض اجتماعية ثلاثة، كل واحد منها قتال للمجتمع الإنسانى الكريم، ولكن هذه الأمراض لم تكن لتستفحل لو لم يتسرب ضعف عام فى جسم الأمة؛ هو الضعف الروحى والأخلاقى وما يرافقه من أطماع وإشباع شهوات، كلها أدت إلى اضمحلال القواعد الأساسية التى قام عليها المجتمع العربى الإسلامى بحيث أصبح فريسة هينة للغزو الأجنبى(9) فالمجتمع القوى لا ينهض على أشلاء أبنائه وإنما يعلو على أكتافهم، فلندعم هذه الأكتاف ولتسقط كل القوى التى تعمل على إضعافها»(10).

وعلى هذا تكون صورة الإنسان فى الفلسفة التربوية القرآنية المنشودة «.. ليس هو الإنسان العربى المعاصر الذى تكالبت عليه الأحداث فزرعت فى نفسه روح القدرية والتواكل والتكاسل، وإنما إنسان مؤمن متصل بالله عاملاً جادًا نشيطًا متسائلاً باحثًا إيجابيًا خلاقًا، وبدون ذلك سيظل العرب أقزاما، فى وقت تتوفر لديهم الفرصة ليكونوا عمالقة، ولن يكون هذا الإيمان المنشود ولن تكون ترجمته إلى سلوك عملى إلا إذا كانت التربية العربية شاملة ومستمرة ولا تقتصر على الجانب المعرفى وحده وإنما تمتد مدى الحياة من المهد إلى اللحد وتكون جزءًا من حركة مجتمع بأكمله ينمو ويتحرك بالإضافة إلى وسائل التعليم غير المباشر، إذاعة وتليفزيون وصحافة وكتب ومتاحف ومؤسسات اجتماعية»(11).

وفى هذا الصدد كتب الدكتور عبد الرحمن النقيب عن أثر الدور الذى يلعبه البناء الفلسفى للتربية وتطبيقاتها العملية فى البناء الحضارى لأمتنا قائلاً: «إن عالمنا العربى مطالب فى تلك اللحظة التاريخية بالذات، أن يسعى إلى إيجاد تربية إسلامية خاصة به تعيد له هويته العربية والإسلامية الواحدة المتميزة، وتكون تلك التربية هى أداة نهضته... وهى مازالت تحتاج إلى كثير من التفكير الجاد والبحث المتواصل لإيجاد بناء فلسفى وتطبيقات تربوية لتحقيق هذا البناء، وهو عمل يحتاج إلى جهد جيل كامل من الرواد يعيشون لهذا الهدف... وبدون ذلك فسوف تكرس النظم التربوية الحالية واقع التجزئة فى العالم العربى وتكون أداة لاستئناس الإنسان العربى وإذلاله، وسيكون من السهل بعد ذلك اختراق وعيه وإخضاعه سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا لما يسمى حاليًا بالنظام العالمى الجديد»(12).

وفى موضع آخر يربط قيام النهضة بوجود هذه الفلسفة التربوية القرآنية، وأن أثرها لا يقتصر فقط على المسلمين، بل على الإنسانية جمعاء فيقول: «فلا نهضة لتلك الأمة إلا من خلال ثورة تربوية تعيدها لتربيتها الإسلامية الصحيحة، وهذا ليس فقط ضرورة حتمية لبعثها ونهضتها من جديد، بل هو أيضًا ضرورة إنسانية لإنقاذ الحضارة الإنسانية المعاصرة من سيطرة واستعلاء الحضارة الغربية السائدة التى تهدد الوجود الإنسانى كله بالدمار وسيطرة القوى العسكرية والمنفعة والأنانية»(13).

من المسئول عن تحقيق هذه التربية القرآنية؟

أما عن الذين تقع على أكتافهم مسئولية وجود هذه التربية فيقول: «كل ذلك يستلزم ضرورة إيجاد نواة صلبة من الباحثين والتربويين الإسلاميين، تتفرغ بالكامل للبحث فى قضايا الأمة التربوية وتبحث فى تقديم البدائل التربوية الإسلامية لعالمنا الإسلامى المعاصر، وتتجمع تلك النواة الصلبة فى مركز عالمى للتربية الإسلامية يكون منشغلاً بالكامل لتربية الإنسان المسلم ليكون كما أراد الله له ولخير أمة أخرجت للناس»(14).

بالإضافة إلى ذلك فهناك دور للمفكرين المسلمين وللفكر الإسلامى، فى إقامة صرح هذه التربية، يوضح ذلك قول الدكتور حسن حنفى: «الفكر الإسلامى المعاصر يمكن أن يسهم فى مواجهة قضايا العصر فليست القيم الإسلامية وتصورات الإسلام الأساسية مجرد فلسفة نظرية تعطى الإنسان الطمأنينة... بل مجرد إعداد ذهنى للإنسان لمواجهة تحديات عصره يمده بطاقة وقدرة ويجدد له خططه وغاياته، فهو فكر نضالى يقوم على المواجهة كما كان فى بدايته ولا مكان إذن لفكر إسلامى يتناول موضوعات لا وجود لها... يقتصر على المبادئ العامة دون تطبيقها»(15).
وعن صور هذه القضايا والمشكلات التى يمكن للفكر الإسلامى وفلسفته التربوية التصدى لعلاجها فإنه يذكرها كالآتى:

1- تحرير الأرض من الاحتلال والغزو :

فالله والأرض فى القرآن وحدة واحدة، كما يبدو ذلك فى عديد من الآيات مثل ( رب السماوات والأرض ) [الدخان: 7] ، ( الذي له ملك السماوات والأرض ) [الأعراف: 158] مما يدل على أن الدفاع عن الأرض دفاع عن الله والدفاع عن البلاد فرض على الحاكم والمحكوم دون الاستسلام للعدو أو الرضا بالاحتلال.

2- الدفاع عن الحريات فى مواجهة القهر:

وما يمكن أن يسهم به الفكر الإسلامى فى هذا الصدد، أن يبين أن المعارضة السياسية حق للأمة، وأن أعظم شهادة كلمة حق عند سلطان جائر... بالإضافة إلى أنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق، ويجوز للأمة الخروج على الحاكم إن عصى القانون وأخل بالعقد فتبطل البيعة.." وهكذا يعدد الكثير من القضايا التى يلقى عليها بفهم جديد إيجابى وحركى فى تفسيرها ومنها أيضًا:

3- العدالة الاجتماعية فى مواجهة سوء توزيع الثروة.
4- التنمية الشاملة فى مواجهة التخلف الحضارى.
5- إثبات الهوية ضد الاغتراب.
6- توحيد الأمة فى مواجهة التجزئة..(16).

وقد كشف كثير من الباحثين والمفكرين المسلمين عن زمرة من المشكلات التى تمثل تحديات تواجه أمتنا على طريق نهضتها والتى يمكن عن طريق الفلسفة التربوية والبحث العلمى الدقيق معالجتها ونقلها إلى حيز الفعل والحركة منهم :

الدكتور شبل بدران والدكتور فاروق محفوظ فى كتابيهما «الأصول الفلسفية للتربية» بالقول: هناك قضايا أساسية ومصيرية وأكثر إلحاحًا يجب أن تتصدى لها الفلسفة التربوية الإسلامية وهى التبعية -القهر- الجهل - الفقر، نائية بنفسها عن القضايا التقليدية التى ليست ذات شأن كبير فى رسم مستقبل أفضل لهذه الأمة وهى فى كل ذلك تحاول الاستفادة من تجارب الدول التى سبقتنا فى طريق التقدم، شريطة أن يكون معيار تعاملنا هو عدم معارضتها لأصولنا الحضارية المستمدة من القرآن والسنة الصحيحة، وأن تكون نابعة من واقع مجتمعاتنا ومحاولة حل مشاكله ومواجهة تحديات مستقبله(17) . لا أن تكون نابعة من واقع فلسفات مجتمعات أخرى أثبتت التجربة العملية فشلها فى النهوض بأمتنا لكونها نابعة عن مجتمعات تختلف فى ثقافتها وتكوينها عن خصائصنا الحضارية وثقافتنا الإلهية.

وقد ناقش مؤتمر الندوة العالمية للشباب الإسلامى بالرياض هذا الموضوع، وخلص إلى أن التحدى الذى يواجه المسلمين الآن هو كيف يزيدون الفاعلية الاجتماعية وكيف ينمون الطاقة العلمية؟ والحل لهذه المسألة يكمن فى العمل والتعليم، فلابد من تعديل سياسة التعليم فى بلادنا وتعويد الطالب منذ صغره على البحث العلمى... فالمنهج التجريبى حث عليه القرآن، وهو المنهج الذى غير وجه التاريخ بالنسبة للعالم، وهو الذى اخترعه آباؤنا المسلمون»(18).

وعن قيمة العمل وقصور الدراسات الإسلامية فى تناوله على الرغم من أنه من أهم أركان الحضارة وقيامها، ويوضح ذلك الأستاذ جمال البنا بقوله: «التخلف الذى تعيشه مجتمعاتنا فى مجال العمل من أهم أسبابه أنه حرم دفع ومساندة القيم الإسلامية ؛ ففقد أكبر وازع لإصلاح الخلل واستدراك ما فاتنا، والدليل على ذلك أنه لم ينل اهتمام الدعاة المسلمين على مستوى الفكر أو النظر.. حتى كاد الإسلام يقتصر على شعائر العبادة، وأصبح الناس لا يرون من وسيلة تقربهم إلى الله إلا بها فقط»(19)، وعن السبيل لمواجهة هذه التحديات يقول: «فقضية حُسن فهم الإسلام تحل لنا مشكلة النظرية... وقضية العمل تحل لنا مشكلة التخلف والضعف والمهانة، ويمكن أن نرمز لها بالجهاد»(20).

ثم يوضح مدى احتفاء القرآن الكريم بهذه القيمة العليا وكيف كان موقعها لدى المسلمين منذ عصر الرسول الله عليه وسلم فيقول: القرآن الكريم بلغت إشاراته للعمل 33 مرة وأنه ما ذكر الإيمان فيه إلا مرتبطًا بالعمل {فالذين آمنوا} مضافًا إليها دائمًا {عملوا الصالحات} كما فى قوله تعالى: ( والعصر . ان الانسان لفي خسر . الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) [سورة العصر]، وقوله (من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا ) [المائدة: 69] والعمل فى القرآن هو معيار الثواب والعقاب يوضح ذلك قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) [هود: 7] ، ( ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) [الأعراف: 129] 

وفى السنة فإن الروايات عن الرسول صلي الله عليه وسلم من الكثرة التى لا تحصى ، وكذلك سار على هديه صحابته الكرام، فعمر بن الخطاب رضى الله عنه قال : «لأن أموت بين شعبتى رحلى أضرب فى الأرض أبتغى من فضل الله أحب إلىّ من أن أقتل مجاهدًا فى سبيل الله » واعتبر تقديم عمر بن الخطاب للكسب على الجهاد استنادًا على تقديم القرآن فى قوله تعالى: ( وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله ) [المزمل: 20] والجهاد فرض وقد اقترن بالضرب فى الأرض للاكتساب، فيكون الاكتساب فرضًا بدلالة الاقتران، وتقديمه على القتال يدل على أولويته... حيث إنه لولا الكسب لما قام الجهاد فى سبيل الله ، لأن المال عصب القتال؛ من هنا جاءت أهمية الإعداد الاقتصادى خاصة فى العصر الحاضر، والقرآن الكريم عندما يذكر (مجاهدون فى سبيل الله)، فإنه يقرنها دائمًا بالذين يجاهدون بأموالهم أولاً ثم بأنفسهم ثانيًا»(25).

فلابد من تثوير القرآن وإعمال تعاليمه وأحكامه فى كافة مناحى حياتنا لإعادة الحيوية لمجتمعاتنا الخاملة (26) من هنا تبدو أهمية إشاعة الثقافة التربوية القرآنية لأن بغيابها فشلنا فى تحقيق نهضتنا «فخلق فينا بلبلة وشكك فى قيمنا الإنسانية والحضارية وفى قابليتنا للتقدم والصمود فى وجه الكوارث والمحن والتحديات وفى القدرة على تمثل الحضارة العلمية والتقنية»(27).

ولابد أن ذلك يحتاج إلى تكاتف الجهود والوعى والإحساس العالى بالمسئولية التى يجب أن يضطلع بها من يتصدون لهذا العمل العظيم، وفى هذا السياق يقول د . عماد الدين خليل في كتابه «الوسيط فى الحضارة الإسلامية» إن الجيل القائم من أبناء الأمة الإسلامية يتمثل دوره الأساسى فى إدراك طبيعة الساحة ومواقع العمل وإمكاناته وتقديم الفكر الجيد وبناء المحاضن للناشئة على المثل والنماذج وبالوسائل الصحيحة التى تربى فيهم الصفات الجيدة والإيمان العميق بأهداف بنايات الإسلام ومقاصده... من أجل إعدادها نفسيًا وفكريًا لأداء دورها الحضارى حيث إن الجيل الحالى غير مؤهل لإخراج الأمة من أزمتها بسبب أخطاء تكوينه النفسى والتى ليس بالإمكان تغييرها فى هذه المرحلة إلا فى حدود ضيقة، فأهمية دور هذا الجيل هى فى العمل والإعداد المستقبلى وتهيئة المنطلقات السليمة لإعداد أبناء الأجيال المقبلة، وإذا وعينا هذا الدرس أصبح من الواجب أن تتركز الجهود لتحقيق أمور ثلاثة :
1- توفىر الطاقة للبناء والحماية من الاستنزاف.
2- توليد الفكر والمفاهيم والمعرفة والرؤية الإسلامية الصحيحة.
3- توجيه الطاقة لترجمة الفكر والمفاهيم والرؤية الإسلامية تربية للناشئة وبناء نفسيًا قويًا مؤثرًا(28).

ولعله باتباع تلك التوصيات السابقة نتلافى الكثير من السلبيات التى وقعت فيها الحركات الإسلامية، حيث إن العمل الإسلامى بدون تربية خاصة لكوادره تعرضه لأخطاء جسيمة فكريًا ومنهجيًا وتبدد الكثير من طاقاته، وخير مثال على ذلك الحركات الإسلامية التى هونت من متطلبات التغيير الإسلامى وتحضير الناس له وركنت إلى التقليد والتبعية وقدست ما ليس بمقدس وبالغت فى إبراز مزاياها وعيوب مخالفيها وغابت لديها الموازين لما يقبل وما يرفض من الحضارة الحديثة وفسرت النصوص تفسيرًا جامدًا لدعم سلوك فرد أو سلطة(30).

ونستخلص مما سبق مدى أهمية وجود فلسفة تربوية قرآنية ينشأ عليها الجيل القادم كى ينشغل قلبه بآمال النهضة والبعث الحضارى، وأنه لابد من إزالة التحديات التى تعترض طريقنا وهو الموضوع الأساسى لهذه الفلسفة التربوية القرآنية والتى يجب أن يتصدى لها فريق بحث متكامل من الباحثين والمفكرين المسلمين عامة وعلماء التربية المسلمين خاصة.

مراجع المبحث 
1- الصحوة الاسلامية من المراهقة الي الرشد : يوسف القرضاوي ، ص 41 
2- في التربية الاسلامية : عبد الغني عبود ، ص 246 
3- نحو القرآن : محمد البهي ، ص 30 - 40 ولمزيد ينظر الي الصفحات التالية الناشر مكتبة وهبة 
4- التربية الاسلامية المعاصرة في مواجهة النظام العالمي الجديد : عبد الرحمن النقيب ، ص17
5- من أجل صحوة راشدة : د . يوسف القرضاوي ، ص 164 
6- منهج الاسلام في تقرير حقوق الانسان : جمال البنا ، ص 85 ولمزيد ينظر الي الصفحات التالية 
7- في التربية الاسلامية : د . عبد الغني عبود ، ص 252 
8- المرجع السابق ، ص 259 ، 260 
9- نحو توحيد الفكر التربوي في العالم الاسلامي : د . محمد فاضل الجمالي ، ص 15 -16 
10- في التربية الاسلامية ، ص 261 
11- نحو فلسفة عربية للتربية : محمد عطية الابراشي 
12- التربية الاسلامية المعاصرة : عبد الرحمن النقيب ، ص 9 وينظر الي بحوث المؤتمر الدولي : العمل الاسلامي الواقع والمستقبل - مركز صالح كامل للاقتصاد الاسلامي 
13- المرجع السابق ص 59 
14- المرجع السابق ص 52-54 
15- دراسات فلسفية ص 209 
16- المرجع السابق ، ص 210- 217 
17- الأصول الفلسفية للتربية : د. شبل رمضان ، د. فاروق محفوظ ص 450 -456 
18- قضايا من الفكر الاسلامي ص 134 : 137 الندوة العالمية للشباب الاسلامي - الرياض 
19- تعميق حاسة العمل في المجتمع الاسلامي : جمال البنا ، ص 9 
20 المرجع السابق ص 11
21- تعميق حاسة العمل في المجتمع الاسلامي ، ص 12-19 وينظر الي بحث الاحتراف وآثاره في الفقه الاسلامي : محمد رواسي قلعجي ص 21 ، 22 نشر المركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الاسلامي ، جامعة الملك عبد العزيز ، جدة 
22- تثوير القرآن : جمال البنا ، ص 111
23- الأصول الفلسفية للتربية ، ص 446 ، حول النظرية العربية في التربية : عبد القادر يوسف ص 199 
24- الوسيط في الحضارة الاسلامية : د. عماد الدين خليل ، د. فايز الربيع ص 368 ، 360
25- التربية الاسلامية المعاصرة : عبد الرحمن النقيب ، ص 45 ، 46 وينظر الي : في فقه التدين فهما وتنزيلا : عبد المجيد النجار ، عمر عيد : " فقه الدعوة ..ملامح وآفاق " ، د . عبد الله النفيس وآخرون : أوراق في النقد الذاتي


0 تعليقات:

إرسال تعليق