دكتور عادل عامر
نحن في مصر نعانى كثيرا من تردى الأداء الحكومي البيروقراطي، بل إن هذه تعتبر واحدة من أكبر مشكلاتنا التي تعوق النهضة. ولكن حتى مع كفاءة الجهاز الحكومي -لو فُرض وجودها- فإن جهود ومشاركة المجتمع المدني يظل ضروريا؛ بسبب حجم وتنوع وتشعب الأنشطة التنموية التي قد لا تصل إليها أجهزة الدولة بشكل كفء. ويبرز دور المجتمع المدني ويتفوق على دور الحكومة، فى بلد مثل مصر، فى القضايا المتصلة بالجماهير،
لكن دور المجتمع المدني فى التنمية فى مصر لم يزل خافتا ستطيع المراقب لعمل منظمات المجتمع المدني في مصر أن يلحظ تغيراً سلبياً ملموساً من أجهزة الدولة تجاهها بعد ثورة 1952؛ فنجد أن دستور 1923 أعطى للمواطنين حق تكوين الجمعيات التي كانت تحكمها مبادئ وأحكام القانون المدني، وكانت تنظم نشأة الجمعيات وأنشطتها وطرق حلها عن طريق القضاء وانتعش العمل الأهلي في تلك الفترة في ظل أحكام القانون المدني. حتى جاءت الثورة وصدر القانون 384 لسنة 1956 الذي أعطى الجهة الإدارية حق حل الجمعيات وهنا بدأت مرحلة الانحسار. وصدر القانون 32 لسنة 1964 في مناخ سياسي أصر على إقصاء المجتمع المدني وتهميشه فألغى الأحزاب السياسية وأقر نظام الحزب الواحد، وسيس النقابات المهنية واشترط في من ينضم إليها ويترشح وينتخب لمجالس إدارتها، أن ينتمي إلى التنظيم السياسي الرسمي للدولة ، وقضى على التعددية النقابية العمالية، وفرض التنظيم النقابي الهرمي الرسمي، في هذا المناخ شرع القانون 32 لسنة 1964 ليسمح لسلطة التنفيذية في الدولة في التسلط والتدخل في العمل الأهلي، وهو ما قضى على النشاط الأهلي في مصر فأقتصر على تقديم خدمات خيرية لمساعدة الفقراء، والثكلى، والأيتام، وإنشاء دور الحضانات، ومع انحسار النشاط السياسي والمدني وزيادة حالة الاحتقان الديني. وأخيراً صدر القانون 84 لسنة 2002 ولائحته المنظمة له، الذي إن لم يعطي للسلطات الأمنية حق التدخل في شئون الجمعيات، كما نظم القانون بصورة واضحة حق تلقي الجمعيات لتمويل بالإخطار دون موافقة الجهة الإدارية ومع ذلك تصدر الجهة الإدارية قرارات إدارية تخالف القانون، وتتدخل السلطات الأمنية في شئون الجمعيات الأهلية، وهو شيء مخالف للقانون المعيب في الأصل، فالقانون84 لسنة 2002 يخالف روح المادة 55 من الدستور الذي أعطى للمواطنين حق تنظيم و تكوين الجمعيات السلمية، فقد ألزم القانون مؤسسي الجمعيات في وضع نظام أساسي، وأجبرهم على الالتزام ببيانات واردة في القانون، كما أشترط القانون ضرورة موافقة الجهة الإدارية على تكوين الجمعيات كشرط لاكتساب الشخصية الاعتبارية، كما أعطى القانون للجهة الإدارية حق في التدخل في إدارة الجمعيات الأهلية، وأعطى لها سلطة حل الجمعيات، بالإضافة إلى مواد التأثيم الجنائي في القانون، حيث اشتمل القانون على حكم الحبس للنشطاء في حالة مخالفتهم مواد القانون. والواقع أن القيود القانونية المفروضة قد تأخذ أشكالاً متعددة (تهدف أما إلى ضيق التنظيم والتمويل)، أو تركه في منزلة معلقة (الاعتراف القانوني)، أو محاولة الهيمنة وغير ذلك من الأشكال. وإذا كانت بعض التجارب قد استطاعت إيجاد صيغ تمكنها من الوجود والعمل مثل الشركات غير الربحية، فإن الوضع العام في الإقليم كان هو الميل إلى التضييق على العمل الحقوقي وتعطيله ووضع العراقيل أمامه. وفي ظل وضعية جنينية لإرهاصات الفكر الحقوقي (والمدني بشكل عام) ومضايقات سياسة الدولة والحضور الوازن للفاعل السياسي (الأحزاب)، فإن الحركة الحقوقية تجد نفسها أمام تحديات كبيرة . إن الإشكاليات المطروحة على منظمات المجتمع المدني (والحقوقية منها) هي تحديات مجتمع بأكمله، بكل ما يقتضيه ذلك من الارتقاء بأداء الدولة إلى مستوى التحولات المطلوبة، وما يستلزمه من إدارة سياسية للنهوض بحقوق وحريات المواطن وضمان كرامته وحمايته من التجاوزات والانتهاكات ضمن مشروع مجتمعي تتداخل فيه المكونات والضمانات الدستورية والتشريعية والمؤسساتية والثقافية. وهذا يجعل منظمات المجتمع المدني مدعوة للمشاركة في وضع لبنات مشروع الإصلاح والديمقراطية ، كما أنها مطالبة بالتقييم المستمر لأدائها ومتطلبات بلورة شعاراتها ومبادئها ضمن بنياتها . وهذا يستدعي بلورة الرؤى والخطط الملائمة لتقوية الأداء وتعزيز مكانة العمل في معركة البناء الديمقراطي المنشود . يعد النزاع بين النظم السياسية ومؤسسات المجتمع المدنى حول دورها السياسى مؤشراً على أن مسألة تنظيم الحدود والاختصاصات فى المجال العام مازالت مسألة غير محسومة فى السياسة العربية وليس كما تدعى النظم السياسية أن هذا الدور يخرج عن اختصاص المجتمع المدنى. فالمجتمع المدنى هو جملة المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التى تعمل فى ميادينها المختلفة من أجل تلبية الاحتياجات الملحة للمجتمعات المحلية وفى استقلال نسبى عن سلطة الدولة، أى أن المجتمع المدنى عبارة عن مؤسسات مدنية لا تمارس السلطة ولا تستهدف أرباحاً اقتصادية ولكن لها دوراً سياسياً يتمثل فى المساهمة فى صياغة القرارات من موقعها خارج المؤسسات السياسية. وحيث أن قيم السلبية والشك لدى الجماهير قد سادت فى علاقتها بالسلطة السياسية، وتجد هذه السلبية تفسيرها فى قوة السلطة المركزية فى مصر، والتى أدت إلى الاعتقاد بان كل إنجاز فى مصر أو قرار هام يكون نابعاً من جهاز الدولة، أى من أعلى ولا يأتى بمبادرة من الشعب وكانت النتيجة المترتبة على هذا الوضع هى اتساع ونمو اللامبالاة والسلبية بما يعنيه ذلك من انخفاض فى درجة المشاركة، وضعف تأثير الأحزاب فى الحياة السياسية، وهى عوامل منحت الفرصة للمجتمع المدنى لأن يكون له دور فى التأثير على المشاركة السياسية. وعلى أية حال فإن تحليل دور المجتمع المدنى فى عملية صنع السياسة بأبعاده وحدوده وتقييم مدى فاعليته، مرهون بطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدنى، هل هى علاقة تعاون تقوم على الثقة والاعتماد المتبادل بين الطرفين؟ أم علاقة مازالت فى طور التشكيل، وتتجاذبها توجهات متناقضة ما بين إيجابية وسلبية؟ ويرجع السبب الرئيسى لبروز الدور السياسى لبعض النقابات المهنية، إلى تنامى دور جماعة الإخوان المسلمين على صعيد العمل النقابى، فمنذ منتصف الثمانينيات، استطاعت الجماعة - وبشكل تدريجى أن تصبح صاحبة الأغلبية فى مجالس عدد من النقابات الهامة، وهى نقابة الأطباء، والمهندسين، والمحامين، والعلميين، والصيادلة، كما برز دورها بدرجة أقل فى نقابات أخرى، ومن ثم أعطى الإخوان المسلمون على وجه الخصوص اهتماماً زائداً بالنقابات المهنية ليحققوا من خلالها انتشاراً ملموساً يعوض الحصار المفروض عليهم فى النشاط السياسى بوجه عام، ونتيجة لتمكن من الإخوان المسلمين من النقابات الهامة، وذلك بعد أن سيطروا على مجالس إداراتها، فرضت السلطة الحراسة عليها، وبالتالى أصبحت فى حكم المجمدة، بعد أن سنت القانون رقم 155 لسنة 1993م، والذى يتم بمقتضاه التحكم حكومياً فى النشاط النقابى. ولقد ضمت حركات المعارضة الجديدة أجيالاً ممن نشأوا وتشبعوا بثقافة منظمات المجتمع المدنى، وهو ما يدل على أن تلك المنظمات نجحت وبرغم الحصار الذى فرض عليها، فى تدعيم الوعى السياسى لدى قطاعات غير قليلة من المجتمع، ونشر ثقافة المشاركة وتحويل الجماهير من المشاهدة إلى المشاركة، خاصة بعد أن اقتنع الجميع أن طول صمت الكتلة الجماهيرية الكبيرة ليس فى صالح الإصلاح والتغيير أبداً.
كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
عضو والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية
![](https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEjFNg2wVS0fQyRIO41cY7u-ZrE02V8sdfzdQkkHbg_xKhCnBS4lzFKxUhEOhjkko4pJq6QF6z_Z7gvvfJ4FBrMh_6w_HgJCmlUcvLLZrSChqsoehZj-7q7NYRzTj3VKe6HTVnyJAODmsUDZ/s1600/sw2.gif)
0 تعليقات:
إرسال تعليق