Ads

ثورة بلا رأس

عبد الرازق أحمد الشاعر

في عام 2003، قام النحات الروسي غريب الأطوار ألكساندر لابوف بعمل نصب تذكاري لفلاديمير لينين مؤسس الحزب البلشفي وقائد الثورة الروسية وأول رئيس للاتحاد السوفييتي ورشقه في قلب موسكو العاصمة. لكن التمثال الذي وجد نفسه فجأة في قلب مدينة لم تعد تعرف ثوارها كان جسدا لينينيا برأس ميكي ماوس. 
هكذا تتحول التماثيل المرعبة في صحون التاريخ إلى دمى مضحكة تستدعي السخرية والشفقة. حتى المدن تخلع أسماءها بعد أن أُلبستها قهرا داخل حوانيت الرعب في شوارع التاريخ المغلقة. هذا بالضبط ما فعلته ليننجراد بذكرياتها المشينة حين وقفت على مرأى من تضاريس البلاد الحبلى بالخجل تخلع أسمال ثورتها وتعود طواعية لعصمة قديسها بطرس بعد أن نسي الثائرون نسبها، لتتحول فجأة من ليننجراد إلى سانت بطرسبرج، وليشهد عام 1924 انتصاب ذكرى قديمة كاد التاريخ أن يمحو خربشاتها من جسد الخرائط. 
ويبقى تمثال لينين ذو الجسد الآدمي ورأس الفأر محاصرا من كلاب روسيا ومتشرديها بعد أن حاصر العباد أمدا بعيدا وحول البلاد إلى سجن مترامي الأطراف لا يكاد يتسع للمحظوظين من المعارضين الذي استطاعوا في حمي القتل التي اجتاحت البلاد أن يحتفظوا برؤوس بين أكتافهم. 
في روسيا، تحول الطاغية إلى جسد جرانيتي يحمل رأس جرذ ليسخر ممن عبدوه وقدموا له القرابين وسجدوا بين يديه أمدا من الدهر. وفي بلادنا، تقف الوجوه التي قهرت البسطاء وجعلت منهم خرقا ودمى وسط مياديننا الفسيحة تطالعنا باستهانة وتعاملنا بفظاظة وازدراء. في بلادنا، يقف رأس الفرعون فوق جرانيت أسد ضخم ليبقى الرعب ميراثا أبديا وتراثا خالدا لشعوب كتب عليها الذبح والسحل عند كل نصب. للرؤوس أسرارها إذن، ولكل بلد نحاتوها، وللتعساء منا الصبر والسلوان، والهول والرعب والطغيان.
وبعد أن تعوّدنا التماثيل وألفناها، حتى صارت جزءا من تاريخنا الممتد، وجذرا من عائلتنا الحجرية الكبيرة التي نزدهي بها حين يفخر الناس بزيد أو بعمرو، نتقدم اليوم بخطى متسارعة نحو تاريخ مختلف لم نألف رعبه ولم نعتد فوضاه. فاليوم تعود ثورتنا إلى ميادينها الربيعية دون رأس يحمل أي تراث من خوف. 
عرف المصريون القدماء رؤوسهم فنقشوها فوق جدران المعابد ونحتوها من عظام البسطاء، وسجدوا عند أقدامها الحجرية وقدموا لها النذور. وعرف الروس رؤوسهم فأهانوها واستبدلوها بأحط أنواع القرضة ليبول فوق تاريخها المقيت عابرو السبيل. لكننا نحمل اليوم جسدا منهكا للغاية يسير فوق مخاض عسير بلا رأس وبلا هوية. يحتشد المصريون اليوم ليحتفلوا تحت ظل تمثال مقطوع الرأس لا يرعب المستظلين به ولا يثير شفقتهم أو شهية السخرية في أعماقهم الحزينة بثورة لم تكتمل ولا تكاد تري في ليل الفتن سبيلها. صدق من قال - ظل تمثال ولا ظل برلمان.

-->

0 تعليقات:

إرسال تعليق