الاثنين، 1 يونيو 2015

زرع التوحش

محمد حلمى هلال
-------------- .
يمر الإعلام المصرى بمأزق ماقبل السقوط النهائى ، فالخطاب الإعلامى فى مصر تجاوز مرحلة الشرشحة ، إلى مرحلة البلطجة ، خطاب أمنى ، نخنوخى ، إرهابى ، لايؤمن بحق الآخرين فى الإختلاف ، يعتمد السباب والشرشحة سبيلا لإسكات الآخرين ، أو إبتزازهم ، ناهيك عن كونه كما كان دائما خطابا سلطويا تابعا ومغشوشا ، يحجب المعلومة لصالح الكذب ، ويحجب عفة اللسان لصالح نقص الأدب ، أغلب الخطاب المعادى لثورة الشعب المصرى وأشواقه فى التغيير والحياة الكريمة ، تقدمه قنوات فضائية وصحف مملوكه لرجال أعمال قامت ضدهم ثورة فى 25 يناير يحتكرون الإعلام بقصد الهيمنة ، فيتحول بأيديهم ، إلى وسيلة إرهابٍ لمن تسوّل له نفسه رفض الخضوع لـ "الخطاب الأوحد". أن الخطاب الفاسد الغجرى "الشرشوحى" جائر بطبيعته وغالباً ما يقود الى أبشع المصائر ، جرائد وقنوات فضائية لم يكن لها صوت ولاصورة تفتح فجأة مجارير السفالة والخراء والقذارة والإنحطاط والتدنى المهنى والأخلاقى ، قبل أن أنسى اريد أن اسأل السيد مقدم برنامج 25/30 ، بماذا ترد على ابنتك حين تسألك : بابا حبيبى ، يعنى ايه عنين سياسى ، ويعنى ايه إستمناء سياسى ، وإيه هو العهر يابابا ؟

مذيعة من ذاك الفصيل قامت منذ فترة قصيرة بإهانة سفيرا إفريفيا على الهواء ، وأخرى تسب شعبا عربيا وملكا عربيا فى حالة من الإنتشاء المؤلم بالذات ، الإعلامى صاحب الحمالات الشهير تسمع منه مصطلحات من عينة : العهر السياسى ، الإستمناء السياسى ، العنين السياسى ، فاهم فاهم أهلا وسهلا بيك ، مش فاهم إشرب من البحر إن شالله ماعن أمك فهمت .. أليست هذة هى الشرشحة وزرع التوحش بين الناس .!!

العقليات البلهاء التى تقود الاعلام فى مصر اليوم ، قامت العام الماضى بالتهليل لبلطجي امريكيا متهما بجرائم جنائية واخلاقية فى بلاده ، بحجة الترويج للسياحة فى مصر ، لم يعرف الذين إستاضفوة لإنعاش السياحة أو الذين سارعوا كالبلهاء لإجراء اللقاءات التلفزيونية والصحفية الحصرية معه .. من هو " دون كينيج " !!" إذا كنت لاتعرف إقرا واحدا فقط من عشرات الكتب التى كتبت عن البلطجى الأمريكى وارشح لك منها واحدا بعنوان : The Life and Crimes of Don King للكاتب الامريكى JACK NEWFIELD ، إن الوقاحة وإنعدام الأخلاق والضمير قد بلغت أحط المستويات .


بسبب التفسخ والتحلل الطويل ، لم تكن السلطة الفعلية فى مصر بيد المؤسسات الدستورية "الحاكمة" ، كانت منذ نظام حسنى مبارك ولازالت سلطة المحاسيب والورثة والباشوات والأغوات ، سلطة المال المنهوب عن طريق السمسرة والعمولات والإقتراض والمنح والمساعدات المالية التى تضع المجتمع دائما على حافة العوز والجوع والإضطراب ، أما اليوم فإن سلطة المال المنهوب لا تستطيع العيش إلا في ظل التوحش والقمع وسفك الدماء ، لم يعد هناك قانون يحترم فى مصر ولم يعد هناك عقل ، فبات الإعلام "نظاماً" لزرع الوحشية ، شبكات مملوكة لاثرياء ظهر بعضهم فجأة ، والبعض الاخر تأسست ثرواته المليارية فى عهد الفساد ، قبل 25 يناير نخانيخ وبلاطجة ولواءات التلفزيون ، وكتاب (اللامؤاخذة المشكوك فى هويتهم الجنسية ) ، موجة عاتية من السباب والتهجم والبلطجة ، والسفاله ،والإنحطاط ، ماكينات مهولة لضخ الرعب والكلام الخالى من الدلالات أو المعلومات أو الأفكار ، مجرد هراء فى لغة ضجيج عصبية متوترة شتامة ، تبث رسائل مسكونة بالصراع والتشنج والغضب والترصد والعنف .

ليس من صالح النظام فى مصر ، ان يروج له البلاطجة او رجال المال المنهوب أوالنخانيخ واللاخاليخ ، حتى وإن كانوا بالمعاش ، فمن غير المعروف مثلا عن الساده اللواءات بالذات ، أى إهتمام بالثورات ، أو التظاهرات أو الإعتصامات ، أو الديموقراطية ، او حقوق الإنسان ، وسيلهم الذى لاينقطع عن شاشات الفضائيات يجعلك تتصور كأنهم زعماء الثورة المصرية ، رغم أنهم يركزون بكل مايملكون من جعجعة وتلعثم وركاكة وعلو للصوت على إشاعة التشنج والبلطجة وضيق الأفق ، والتوحش ، ربما لإن هبات الشعب الغاضب أطاحت بمصالح البعض منهم ، وربما لإنهم يأملون أن تعود اليهم إمتيازات عصر البلطجة من علاقات وإرتباطات ( مافياويه ) نسجوها عبر سنوات طويلة من الفساد ، والمضحك ان الخبير الإستراتيجى التلفزيونى يعتقد أن “الفك المفترس” ، هو فيلم عن أطباء الأسنان ، وأن أى كلام خلاف ذلك هو مؤامرة مسجلة بالصوت والصورة ، ويضيف بمنتهى الثقة أن مصر قادرة على دحر تلك المؤامرات الدنيئة والحقيقة أن مصر تمتلك ثروة عالمية من خبراء الإستراتيجية ، ولاتمتلك أى إستراتيجية فى أى موضوع الجميع يصرخون ويشتمون ويسبون ويخوضون فى الأعراض، نحن فى أشد وأعنف مراحل التاريخ المصرى صخبا وضجيجا وبلاهة وسفالة ، هلفطات وتخرصات وتقولات ، برامج للسباب والشتم والقذارة ، فقهاء فى القانون والأمن والسياسة والإستراتيجية والحكم ، ولايوجد قانون ولا امن ولاسياسة ولاإستراتيجية ولاحكم .


إن مساءلة جملة من الوقائع والاحداث والتحولات التاريخية التى تمر بها مصر الآن ، لاتحتاج إلى هذا النوع الركيك من الردح ، او تلك النوعية المنحطة من الخطاب ( والخطباء ) ، ولن يكفى بشأنها إغراق الناس فى سيناريوهات التخويف من السقوط أوإستساغة لعبة "الكلمات" المرسلة عن الخيانات والتآمرات ، ولن يساهم فى تغيير مصر تلك القباحة والتطاول وسفالة العقل واللسان ، نحن فى امس الحاجة الان الى العقول المفكرة ، مصر فى حاجة الى بعض التهذيب والادب والألسنة العفه ، نحتاج ان نرى ونسمع من يشحذ عقولنا نحو التفكير والإبداع والرقى ، نريد أن نرسخ قيم الإصغاء للاخرين بدل الإستماع لأنفسنا ، لقد إستطاع الإعلام المصرى بزبالته نقل الشرشحة الى وسائل التواصل الإجتماعى ، وبات شبابنا ضحية لكل أساليب زرع التوحش والبلطجة .


إن التقاطع بين مايتطلبه المستقبل من خطابات تستوجب الإخلاص والتجرد من حسابات الأشخاص ومصالحهم وبين حسابات الوطن وأمنه ومصالحة ، قد بات مطلبا حتميا ، نريد خططا تقود بلادنا نحو النهوض ، نريد أن نجعل الحوار أمرا ممكنا وسهلا وإنسانيا ، نريد أن نفهم ان إختلاف الآراء والأفكار هو أمر حتمي وليس إستمناءا سياسيا ، نريد لمصر طريقا نحو العلم والتقدم ، نريد فكرا وفهما وليس جعجعة – نريد حلولا كما قال ميشيل فوكو – يتعذر صبها فى قوالب ، الفكر ليس فى صياغة الشتائم ، وإستعداء المجتمع على بعضه ، وليس هو مايجعلنا نؤمن فقط بما نرضى نحن عنه ، الفكر ومن ثم ( الإستراتيجية ) ليست فقط فى تصنيف الناس الى أخيار (معنا) وأشرار (ضدنا) ، وليست فى علاج الفك المفترس عند طبيب الأسنان ، بل فى إستشعار الخطر الكامن فى أفعالنا نحن ، وفى كل ماهو مألوف لنا ، فى كل ماهوراسخ فى عقولنا المستبده من أفكار عفا عنها الزمن ، لقد آن الاوان لاسترداد وتمكين المؤسسات الدستورية "الحاكمة" فى مصر ، وآن الآوان أيضا لكل "ماكينات" البلطجة والفساد والقبح والسفاله ، أن تتوقف .فحالة تزييف الوعي ، والرقص والطبل والزمر وتعرية المؤخرات لكل حاكم ، اثبتت فشلها . فحتى الان لم يتغير اى شئ فى مصر على الاطلاق ، باستثناء المزيد من الخراب .