قصة قصيرة بقلم :
آنــا أحمد الخميسي
امتدت اليد تمسح بنعومة الكتف الطفولية التي برزت من تحت الملاءة. " آن الأوان لتستيقظي". شقت الكلمات بدفئها برد الحجرة وعتمتها. تدلت الساقان الصغيرتان من على حافة السرير العالية. تأرجحتا في الهواء دقائق ثم قفزتا إلي الأرض. سرت قشعريرة سريعة في البدن. ابتسم الوجه الطيب :" هيا. إنتعلي الشبشب يا شموسة وإذهبي لتتناولي الإفطار". دبت الساقان النحيفتان تخبط الأرض بالشبشب الضخم نحو الحجرة الثانية. تمتد الكفان أولا فتتسلق المقعد ثم الركبتان. عبر النافذة العريضة القريبة من المنضدة تصل أشعة الشمس التي تخترق خضرة شجر باذخة. يد رجالية كبيرة بأصابع طويلة قوية تضع على المنضدة طاسة تئز فيها بيضتان صغيرتان. تختطف اليد الصغيرة الشوكة وتصبح الطاسة فارغة بعد دقيقتين.
الفانلة البيضاء واللباس الأبيض والشبشب الضخم ذاته يهرول بعجلة إلي البستان المحدق بالبيت. في لحظة تطير كل فردة من الشبشب في ناحية. تتمزق الفانلة وهي تتسلق الشجرة العالية المنتصبة أمام النافذة. عند بلوغ ذلك الغصن يصبح النهر مرئيا..
تندمج السنوات كلها والطفولة كلها في صيف طويل تقوم فيه الوجوه المحبة والأيادي ذات التجاعيد بإعداد الإفطار كل صباح. في الليل تُسمع أصوات الجداجد وصفير القاطرات البعيدة. يبدو البستان الصغير غابة. تبقى في الفم رائحة العنب الأسود. تنتصب أمام العينين شجرة الكستناء عالية. لكنك لا تعرفين اسم الشجرة، ستعرفينه فقط عندما تصبحين كبيرة، قبل أن يباع البيت الصغير والبستان، وحين تغيب الوجوه والأيادي ذات التجاعيد في الماضي، أما في هذه اللحظة فإنك تعلمين فقط أنه من هذه الشجرة ومن عند هذا الغصن يصبح مرئيا شريط النهر الضيق الصافي.
حياة كل إنسان نهر. البعض منا حياته تجيش وتمور، حياة البعض الآخر تتحول إلي جدول صغير، حياة ثالثة تجف تماما، وأخرى تصب في محيط وتصبح جزءا منه. لكن الزمن يمضى أسرع مما تتدفق المياه. خلال خمسة عشر عاما أجد نفسي ثانية أمام نهر آخر، قدر له أن يكون منبع الحضارة، أمواجه أشد قتامة كأنما تشبعت بآلاف السنين المنصرمة. أمضى مع صديقتي إلي منزلها لنستذكر الدروس استعدادا للامتحانات. نعبر الكوبري بسيارتي ، لا أملك إلا أن أبطيء من سرعتنا وأنا أنظر مفتونة إلي سطح النيل. تمس ليلى كتفى برفق. تهمس بخفوت" إلي اليمين".في بيتها يقابلني والداها بترحاب مبتسمين. يشدان على يدي" أهلا وسهلا". أشعر كأني شربت قدحا من الشاي المثلج في يوم حار. يهدأ القلق في داخلي. إنهم سعداء بقدومي. يفرشون المنضدة بأطباق السمك المقلي والأرز والسلاطة. لم تعد ثمت مساحة للمزيد من أطباق الطعام. تضع لي والدة ليلى في طبقى حفنة من هذا وحفنة من ذاك خشية أن أقوم من خجلي جائعة. نجرجر أنفسنا بعد الغداء الفاخر بصعوبة من المنضدة، ويخامرنا شعور بالكسل والرغبة في النوم، لكن لابد من الدراسة.
حجرة ليلى صغيرة لكنها مريحة. سرير ضيق فوقه ثلاثة أرفف عليها كتب مرتبة. في الجهة المقابلة صوان من الخشب الفاتح اللون. الحائط – حيث المكتب - مطلي بلون آخر. فوق المكتب علقت لوحات مستنسخة. ثبتُ بصري على إحدى اللوحات.
- هل تعرفين اسم الشجرة التي في هذه اللوحة ؟
- لاء. ما اسمها؟
- الكستناء. كان لدي جدي قطعة أرض صغيرة تحيط ببيته. في مواجهة البيت نمت وارتفعت شجرة كستناء. أذكر كيف أني بعد الإفطار كنت أتسلقها وأنظر إلي النهر.
تنصت ليلى باهتمام إلي. لكن كيف أحكي لها عن طعم العنب الأسود وصوت الجداجد ليلا؟ كيف أنقل إليها شعوري بالحزن على ما مضى وما لن يعود أبدا؟
أقول بصوت نشط : يا الله. هيا بنا نستذكر الدروس.
أصعد إلي السرير بقدمي وأفتح الكتاب على مقال فرويد عن اللاوعي والأحلام. تختلط العبارات في رأسى ويتوه معناها في ضباب. لا ألحظ كيف أني نصف مغيبة أغرق في سحب من الدخان. ها أنا في قارب يلفه ضباب كثيف من كل ناحية فلم تعد مقدمته مرئية. لاشئ يبعث على البهجة. كل ما تبقى لي أن أسلم نفسي للتيار.. خلال عدة أمتار يتبدد الضباب. فجأة لا أعلم من أين تظهر أمامي جزيرة، لكن المياه التي تحيط بها صافية من ناحية ومعتمة من الناحية الأخرى. يتلألأ سطح الجزيرة الذهبي خفيفا. يرسو القارب على الشاطيء. أمضى حافية القدمين على الرمال. أقف في المنتصف. أتجمد لحظة وأشعر بقدمي تسوخان في العمق. تطول أصابع قدمي وتتحول إلي جذور. قدماي وجذعي يتشجر ويكتسى بلحاء الأشجار. أكتافي وذراعاي تطول إلي السماء. هاهي كفاي الطفلتان مورقتان. أشد نفسي لأعلى فأعلى. تختفي في الضباب الجزيرة الرملية الصغيرة التي يغسل ضفتيها نهران. لا أذكر الماضي ولا المستقبل. أنسى أين أنا ولماذا. كل ما أعرفه فقط أني الكستناء.
0 تعليقات:
إرسال تعليق