د. أحمد الخميسي
تلقيت منذ أيام على بريدي الالكتروني رسالة من أحد الكتاب العاملين بجريدة "العربي الجديد" التي تصدر في لندن. في رسالته أشاد الكاتب مشكورا بقدرتي الأدبية وعرض علي أن أكتب للجريدة مقالا لايتجاوز ألف كلمة ملتزما بدفع مكافأة لا تقل عن ثلاثمائة دولار في المقال. أربكتني الرسالة وقررت أن أستعلم عن الجريدة، فعلمت أن رئيس تحريرها وائل قنديل وأنها وفقا لكل المصادر صناعة قطرية تمولها شركة" فضاءات ميديا ليميتد" التي أسسهاإبراهيم منيرعضو التنظيم الدولي للإخوان. ثلاثمائة دولار في المقال ليس مبلغا صغيرا؟! وأنا لست من الأثرياء ولم أكن يوما منهم. قمت بنشر نحو عشرين كتابا لم أتقاضى عن أي منها تقريبا مليما. وعلى مدى أكثر من عشرين عاما كتبت للصحافة المصرية بدأب وانتظام مجانا! وعلى امتداد تلك السنوات لم أتمتع بعضوية ولا لجنة واحدة من لجان الثقافة الحكومة التي تمنح المكافآت وترفه عن أعضائها بالسفريات والجوائز. وظللت طوال تلك السنين أدلي بأحاديث للتلفزيون وللبرنامج الثقافي بالإذاعة بدون مقابل مع إصرار المسئولين هنا وهناك على عدم دفع مليم واحد. وكنت ومازلت أخرج من عندهم كل مرة بجيوب خاوية وقلب عامر بأنها كانت فرصة أقول فيها شيئا أتصوره. الآن، على حين فجأة، يصلني عرض سخي بثلاثمائة دولار في المقال؟!
المال لايجلب السعادة. هذا صحيح. لكن أليس من الأفضل – إن كنت حزينا - أن تبكي داخل سيارة في الزمالك بدلا من البكاء في أتوبيس شبرا وأنت مهروس في الزحام تتابع ركض الكومساري وراء الركاب بالقبقاب ليدفعوا ثمن التذكرة ؟! المال نعمة لا يرفسها إلا الأحمق. مع ذلك ثمت مال لابد من رفضه بوضوح. عام 1965منحت مجلة " حوار" التي ترأس تحريرها من لبنان توفيق الصايغ جائزة ليوسف إدريس بقيمة مالية كبيرة، لكنه امتنع عن قبولها حين علم بالعلاقة بين المجلة والمخابرات الأمريكية تحت ستار المنظمة العالمية للحرية والثقافة. وفي أغسطس 2009 رفض الروائي الإسباني الكبير خوان جويتيسولو" جائزة القذافي للأدب" ( مئتا ألف دولار) ! وفسر ذلك في رسالته للجنة التحكيم بقوله"أنا واحد من قلة من الروائيين الأوروبيين المهتمين بالثقافة العربية .. لكني بعد تردد قصير درست خلاله احتمالات قبول الجائزة أورفضها اتخذت الخيار الثاني لأسباب سياسية واخلاقية". نعم، ليس أجمل من أن يتوفر لك المال لتنعم بكل ماتشتهي، لكن عليك وأنت تكسب المال أن تتأكد من أنك لن تخسر شيئا لا يمكن شراؤه.المال في اعتقادي اختبار من نوع خاص يحدد تكوين المرء ومستقبله خاصة إن كان كاتبا. وحين أراد الروائي العملاق فيودور دوستويفسكي أن يصور إنسانا رائعا يجمع بين عظمة المسيح الواعي برسالته وبين أحلام دون كيخوت الهوائية رسم شخصية ميشكين في رواية " الأبله " عام 1869وجعل ميشكين يحرق مئة ألف روبل بالنار. المال مهم، وممتع، ويهب المرء حرية التنقل والعمل والراحة بلا حدود. المشكلة الوحيدة مصدر ذلك المال. هل هو مرتبط بشراء موقفك؟ هل هو استجلاب قلمك - كما تستجلب طوابير العبيد - للخدمة في قصور الأمراء؟. فكرت واعتذرت عن عدم الكتابة وأنا أقول لنفسي لا هي الأولى ولا هي الأخيرة. موقفي بسيط مقارنة بمواقف الآخرين لكنه أنا وكل مالدي!
***
أحمد الخميسي. كاتب مصري
0 تعليقات:
إرسال تعليق