Ads

ما هي الجريمة السياسية

الدكتور عادل عامر

يعتبر مفهوم "الجريمة السياسية" من أكثر المفاهيم القانونية غموضا وتعقيداً، التي استعصى على الفقه والقضاء إيجاد تعريف محدد لها، وعزفت جل الدول عن وضع تعريف لها في تشريعاتها الوطنية رغم المبادرات المتعددة للمنتظم الدولي في هذا الإطار، وترجع هذه الصعوبة في تحديد المفهوم أساسا إلى الطبيعة المعقدة للجريمة السياسية في حد ذاتها واختلاف رؤية الدول في معالجة هذا النوع من الجرائم حسب طبيعة نظامها السياسي، وكذا إلى صعوبة وضع تعريف محدد لمصطلح "السياسة" نفسه الذي ما يزال معناه غامضاً ومطاطاً مفتوحا لكل التأويلات يصعب أن يكون أساسا لنظرية معينة في صلب قواعد القانون الجزائي المتسمة بالثبات والاستقرار

نقسم الفقه في تعريفه للجريمة السياسية إلى ثلاثة اتجاهات، اتجاه أول يعتمد المعيار الموضوعي، واتجاه ثان يأخذ بالمعيار الشخصي، والثالث يجمع بين المعيارين الشخصي والموضوعي (المذهب المزدوج):

• المذهب الموضوعي: يرى أصحاب هذا الاتجاه على أن موضوع الجريمة هو الذي يحدد طبيعة الجريمة السياسية مهما كان الباعث على ارتكابها، فالجريمة السياسية هي التي تنطوي على معنى الاعتداء على نظام الدولة السياسي سواء من جهة الخارج، أي المس باستقلالها أو سيادتها، أو من جهة الداخل، أي المساس بشكل الحكومة أو نظام السلطات أو الحقوق السياسية للأفراد والجماعات؛

• المذهب الشخصي: يقوم تعريف الجريمة السياسية في هذا المذهب على الهدف من الجريمة والباعث على ارتكابها الذي يكون غرضا سياسيا، وذلك على خلاف المذهب الموضوعي الذي ينطلق من طبيعة الحق المعتدى عليه. ويعرف أنصار المذهب الشخصي الجريمة السياسية بكونها الجريمة التي ترتكب لتحقيق أغراض سياسية أو تدفع إليها بواعث سياسية، فالجريمة العادية إذا كان الهدف منها ينطوي على باعث أو رغبة سياسية تعتبر جريمة سياسية.

• المذهب المزدوج: في إطار التوفيق بين المذهبين الموضوعي والشخصي يذهب أنصار المذهب المزدوج إلى ربط الجريمة السياسية بالمعيار الموضوعي (طبيعة الحق المعتدى عليه) والمعيار الشخصي (الباعث لدى الجاني والهدف الذي يرمي إليه"، وعرفوا الجريمة السياسية ب "الجريمة التي يكون الباعث الوحيد منها محاولة تغيير النظام السياسي أو تعديله أو قلبه. ويشمل النظام السياسي استقلال الدولة وسلامة أملاكها وعلاقاتها مع الدول الأخرى، وشكل الحكومة ونظام السلطات وحقوق الأفراد السياسية، فكل تعد مباشر على هذه النظم يكون جريمة سياسية".ومن الجرائم السياسية : الاعتداء على أمن الدولة ، كالتآمر لتغيير نظام الحكم ، أو العمل على تغيير الدستور ، وجرائم المطبوعات ( جرائم الرأي ) والصحافة التي تتعرض للحقوق السياسية وكجرائم الغش في الانتخابات مثلا .

 والجدير ذكره أن الرأي الغالب في الفقه الجنائي المعاصر يميل إلى إخراج الجرائم الواقعة على أمن الدولة الخارجي من طائفة الجرائم السياسية كجرائم الخيانة والتجسس والتآمر مع العدو.

إلا أن الاتجاه العالمي يعتبر أن الاعتداء على رئيس الدولة بالاغتيال أو غيره لا يمكن أن يعتبر جريمة سياسية ، لأن حياة رئيس الدولة مصونة كأي إنسان أو فرد في المجتمع ، ولا يمكن القول بأن القتل أو الاغتيال يمكن يكون جرما سياسيا وإنما يندرج ضمن الجرائم العادية.

وعليه نقول ، إن تصنيف الجرائم إلى سياسية وأخرى عادية ، هو تصنيف يهدف إلى معاملة ( المجرم السياسي ) معاملة خاصة ، باعتبار أنه لم يرتكب جرمه بدافع الكسب أو السرقة أو لدافع إجرامي بحت ، وإنما لهدف سياسي ومن باعث سياسي أيضا .

ولذلك ، فإن الاتجاه العالمي مستقر على استثناء عقوبة الإعدام في الجرائم السياسية أي عدم تطبيقها على المجرمين السياسيين ، وكذلك عدم تعريضهم للعقوبات التي تترافق مع أشغال شاقة أو الحبس مع الشغل في السجون ، فهم يحبسون فقط دون أن يشغلوا ، كما أن المجرمين السياسيين يشملهم العفو أكثر من غيرهم ( في الدول الديمقراطية طبعا ) وكذلك فإن أكثر التشريعات تمنع تسليم المجرمين السياسيين . وكان هذا من نتاج الثورة الفرنسية وتطور النظرة إلى ممارسة الحقوق السياسية والتعامل مع المجرمين ( المعارضة ) السياسيين ، وغيره. والجدير ذكره ، أن قانون الجنائي المغربي أخذ نظريا بكلا المذهبين الشخصي والموضوعي وحاول التوفيق بينهما ، وبالفعل ، فهو استبعد عقوبة الإعدام من التطبيق على المجرمين السياسيين.

وقد نصت المادة الرابعة من اتفاقية تسليم المجرمين التي أقرها مجلس الجامعة العربية في العام 1952 على : (( لا يجوز التسليم في الجرائم السياسية وتقدير كون الجريمة سياسية متروك للدولة المطلوب إليها التسليم .. وعلى أن يكون التسليم واجبا في جرائم الاعتداء على الملوك والرؤساء أو زوجاتهم أو أصولهم أو فروعهم .. وعلى أولياء العهد أيضا .. والجرائم الإرهابية ..))وقد أخذ بهذا المذهب قانون العقوبات الإيطالي لسنة 1930 (المادة 2041/3) الذي نص على ما يلي : "كل فعل يضر بمصلحة سياسية من مصالح الدولة أو بحق سياسي من حقوق المواطنين يعتبر جريمة سياسية. كما تعتبر جريمة سياسية كل جريمة عادية وقعت بدافع سياسي كلي أو جزئي"، وكذا قانون العقوبات السوري في مادته 195 المقتبسة حرفيا من قانون العقوبات الإيطالي. ومن أهم هذه المذاهب التي تفرق بين الجرائم السياسية والجرائم الأخرى بما فيها الإرهاب ما يعرف بمذهب "جنيف" هذا المذهب الذي أسس على إثر ما ذهب إليه المعهد الدولي للعلوم الجنائية في دورته المنعقدة في جنيف عام 1892 ويقوم هذا المذهب على المبادئ الآتية :

- عدم جواز التسليم في الجرائم السياسية المحضة أي جرائم رأي .

- الأفعال المرتكبة أثناء الثورات والحروب التحريرية والمدنية لكسب معركة يستفيد فاعلها من حق اللجوء السياسي إلا إذا كانت من أفعال النذالة والضرر والوحشية.

- الأفعال الفردية الخطيرة من حيث الأخلاق والاعتداء عل الحقوق العادية لا تستفيد من حق اللجوء السياسي.

ومن جهة أخرى يمكن أن نميز بين الجريمة الإرهابية والجريمة السياسية من خلال أن الضحايا في حالة الجريمة الإرهابية غير محددين بذواتهم في أحيان كثيرة مما يساهم في خلق شعور عام بالخطر يؤدي إلى إثارة حالة من الرعب في المجتمع, بينما في الجريمة السياسية لا يقع ضرر مادي على ناس من المجتمع, كما ينعدم فيها الإحساس بالخطر العام , وليس لها ضحايا لأنها تتعلق غالبا بإبداء رأي مخالف لما هو منصوص عليه في القوانين الداخلية للدول.

وعلى هذا الأساس منح القانون الدولي من يرتكب هذه الأفعال ويكون مطاردا من السلطات المحلية حق اللجوء السياسي, بينما حرم هذا الحق على المجرم الإرهابي, هذا ولا يعتبر القانون الدولي الجريمة الإرهابية, جريمة سياسية بأي حال من الأحوال حتى لو كان الدافع أو الباعث لها سياسيا وإنما هي جريمة من نوع خاص.

ومن ثمة يمكننا أن نستخلص من خلال ما تقدم أن الجريمة السياسية هي تنطبق فقط على الآراء والأفكار والمعتقدات التي تشكل منهجا فكريا معينا يتفق أو يتعارض مع فكر مجموعة سياسية تتواجد في السلطة , وينطبق أيضا على الأنشطة المحظورة أو الترويج لفكر سياسي محظور , عن طريق الخطابة أو المنشورات أو الملصقات أو أي وسيلة أخرى لا يستخدم فيها العنف أو التحريض عليه وهذه هي فقط التي ينطبق عليها لفظ جرائم سياسية. أما الجرائم الإرهابية فهي التي تستهدف كمبتغى إحداث صدمة أو حالة من الذهول , أو التأثير على الجهات الرسمية أو المؤسسات الحكومية والنظامية وتتجاوز ضحايا الإرهاب المباشرين , باعتماد العنف أو التهديد باستعماله لتحقيق أهداف سياسية .

وإذا كانت الدول المتقدمة التي عانت من الإجرام السياسي قديما، وتعاملت معه بقسوة وشدة قد تداركت هذا الخلل السياسي والقانوني منذ النهضة الأوربية، وخصوصا بعد الثورة الفرنسية، حيث اضطر المشرِّع الأوروبي أمام كثرة الثورات، وبفضل جهود الفلاسفة والمفكرين، فاعترف بوجود الجريمة السياسية، التي تختلف عن الجريمة العادية، فوضع لها نصوصا خاصة وعقوبات متميزة، معتبرًا أنَّ المجرم السياسي رجل نبيل، وفاضل ذو أخلاق ومبادئ يناضل من أجلها ويضحي بمصلحته الخاصة من أجل مصلحة وطنه وشعبه، حتى وإن أخطأ في الوسائل وأحرق المراحل، واستعجل النتائج، فالمجرم السياسي قد يصبح حاكما في المستقبل، ولعل أغلب المصلحين والمجددين والزعماء والقادة في العالم كانوا مجرمين سياسيين، في نظر الحكم القائم في عهدهم.

فإذا كانت الدول الأوروبية قد خرجت من هذه المعضلة السياسية والقانونية بتعديل دساتيرها وقوانينها الوضعية، فما هو موقف الشريعة الإسلامية من الإجرام السياسي؟ وما هي آراء الفقهاء المسلمين في المجرمين السياسيين؟ وكيف تعامل الحكام المسلمون مع المعارضة السياسية العنيفة؟ وهل يميز الفقه الإسلامي بين الجريمة السياسية والجريمة العادية؟

رجعتُ إلى كتب الفقه الإسلامي فاطَّلعت على أبواب البغي والبغاة فوجدت فيها بحوثا مستفيضة لأحكام جرائم البغاة انطلاقا من قوله تعالى {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُومِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتِ اِحْدَاهُمَا عَلَى الاُخْرَى فَقَاتِلُوا التِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ اِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُومِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

ومن تفسير هذه الآية، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأعمال الخلفاء الراشدين، وآراء الفقهاء واجتهاداتهم، تكونت ثروة فقهية ضخمة، في موضوع جريمة البغي، وشروطها، وضوابطها، وأحكامها، وتمييز البغاة عن غيرهم من المجرمين، كل هذا مبسوط في كتب الفقه بشكل يحق للمسلمين أن يعتزوا به أمام فقهاء العالم، ولكن هذه الثروة تحتاج إلى دراسة علمية أكاديمية مستفيدة من تجارب الإنسانية، وأحدث ما توصلت إليه القوانين المعاصرة في التعامل مع الإجرام السياسي.

أمام هذا التراث الإسلامي الكبير والثروة الفقهية الزاخرة، وهذا البعد التشريعي الذي سبقت به الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية بثلاثة عشر قرنا؛ إذ لم تعترف القوانين الفرنسية بالجريمة السياسية إلا بعد الثورة الفرنسية، وجدت نفسي معتزًا و منبهرًا، من جهة، وحائرًا متحسرًا، من جهة أخرى، على مواقف الأنظمة السياسية العربية والإسلامية اليوم، فلا هي أخذت بالقوانين الوضعية، وما توصلت إليه من ديمقراطية وحرية الرأي، والمعارضة السياسية السلميَّة، التي تمنع الوصول إلى الإجرام السياسي، الذي وإن حصل فقد قنن المشرع تدابير وإجراءات لمحاكمة المجرم السياسي، محاكمة تليق بمقامه، كما أنَّ تلك الأنظمة لم ترجع إلى الشريعة الإسلامية التي اعترفت بالجريمة السياسية منذ نزول الوحي. ويقيني أن الاهتمام بتحديد مضمون الجريمة السياسية ورسم ضوابطها لن يؤتي أكله على الصعيد الوطني والعالمي ما لم تتوحد الرؤى وتوضع المواثيق والاتفاقيات الدولية ذات الصلة موضع التطبيق ولاسيما مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ومكافحة الإرهاب، والتعاون الدولي لمواجهته. وما لم تتوحد الرؤى، فإن هذه الجريمة وغيرها من الجرائم سوف تبقى مجرد وجهة نظر على الرغم من الدمار والخراب والأرواح التي زهقت وتزهق بلا حسيب أو رقيب أو وازع من ضمير يردع المجرمين عن إجرامهم، والذريعة هي  الحرية...

الجريمة السياسية

ارتبط ظهور اصطلاح الجريمة السياسية بقيام الثورة الفرنسية التي اعتبرت دعوتها إلى مناهضة الحكم المطلق والنظم الاستبدادية في أوروبا نقطة تحول جوهرية بالنسبة لعلاقة الشعوب بنظمها السياسية .

وقد أثار تعريف الجريمة السياسية خلافاً واسعاً في الفقه القانوني الداخلي والدولي على السواء ، ومرجع ذلك هو أنه على الرغم من وجود جرائم لا تكاد تثير إشكالاً من حيث كونها جرائم سياسية ، ونعني بها الجرائم الموجهة ضد النظام السياسي للدولة ، فإن هناك جرائم أخرى توصف بأنها جرائم مختلطة بالنظر إلى أنها تتكون من أفعال تعتبر أصلاً من الجرائم العادية ولكنها ترتكب بدافع سياسي (كجريمة قتل موظف عام بدافع سياسي) ، كما أن هناك نوعاً آخر من الجرائم يعرف بالجرائم المتصلة وهي جرائم عادية يتم ارتكابها في أثناء قيام ثورة أو في حالة حرب (كجريمة سرقة أسلحة أثناء قيام الثورة لاستخدامها فيها) .

وبصفة عامة ، يمكن القول بأن هناك مذهبين في تعريف الجريمة السياسية ، أما المذهب الأول فهو :

المذهب الشخصي : والذي يذهب إلى اعتبار الجريمة جريمة سياسية إذا كان الباعث على ارتكابها باعثاً سياسياً بصرف النظر عن موضوع الجريمة ، أي سواء أكانت هذه الجريمة تعد بحسب موضوعها جريمة سياسية بحتة أم كانت مجرد جريمة عادة ، أما المذهب الثاني فهو

المذهب الموضوعي : ويشترط هذا المذهب لاعتبار الجريمة جريمة سياسية أن يكون الباعث عليها باعثاً سياسياً كذلك ، وأن يكون الفعل المكون لها – أي موضوعها – سياسياً كذلك ، كالشروع في قلب نظام الحكم أو محاولة المساس باستقلال الدولة ، إلى غير ذلك من الأفعال التي قد تُوجه ضد النظام السياسي للدولة .

والمبدأ المستقر هو استثناء الجرائم السياسية من نطاق قاعدة جواز تسليم المجرمين، ويعد هذا الاستثناء من التطورات الحديثة في فقه القانون الدولي ، وهي التطورات التي أعقبت التغيرات السياسية والدستورية التي ترتبت على قيام الثورة الفرنسية وأفضت إلى تغير النظرة إلى الجرائم التي تُوجه ضد النظام السياسي للدولة ، ومع ذلك ، هناك من الاتفاقيات الدولية ما تجيز التسليم بالنسبة لكافة أنواع الجرائم ودونما تفرقة بين الجرائم السياسية والجرائم العادية ، ومن ذلك مثلاً اتفاقية لاهاي لعام 1970 بشأن مكافحة اختطاف الطائرات ، حيث نصت في مادتها الثامنة على ضرورة تسليم مختطف أو مختطفي الطائرات أياً كانوا ، حتى ولو كان الباعث على الاختطاف سياسياً .

وقد جرى العمل الدولي على معاملة الشخص المتهم بارتكاب جريمة سياسية – أي المجرم السياسي – معاملة خاصة مقارنة بالمجرم العادي ، فعلى سبيل المثال ، إذا كان لا يجوز إطلاقاً لدور البعثات الدبلوماسية وما في حكمها إيواء المجرمين العاديين ، فإن الأمر على خلاف ذلك بالنسبة للمجرمين السياسيين ، فقد دفعت روح العطف التي كان الرأي العام يبديها بالنسبة لهذه الفئة من المجرمين ، منذ قيام الحركات التحررية في الدول المختلفة ، إلى التسامح في شأن إيوائهم حماية لهم من الأخطار التي قد تكون مهددة لحياتهم ، ويصل هذا التسامح أحياناً إلى حد مطالبة السلطات المحلية باحترام حق اللجوء الممنوح لهم وعدم محاولة القبض عنوة عليهم .

الشعب

الشعب هو مجموعة أفراد يقطنون إقليماً معيناً ويخضعون لسلطة سياسية تدعي الحكومة ، فالشعب يخضع لنظام قانوني تسهم السلطة السياسية في تنفيذه، فتبدو هذه السلطة (الحكومة بالمعنى الواسع) وكأنها سلطة آمرة (لا مجال هنا لمناقشة نظريات الفلسفة السياسية لمعرفة ما إذا كان الشعب هو الذي يخضع للحكومة أو العكس) . هذه المجموعة من الأفراد تربطهم بالدولة علاقة خاصة هي علاقة الجنسية ، وهي علاقة قانونية تعبر عادة عن رابطة الولاء للوحدة السياسية التي ينتمي إليها هؤلاء الأفراد.

هذا الولاء ينشأ نتيجة لتفاعل عوامل كثيرة جغرافية واقتصادية واجتماعية وحضارية … الخ ، فهذه العوامل تولد شعوراً قوياً بالتضامن الذي يأخذ صورتين ، تضامن داخلي من جانب ويقصد به تضافر الجهود من أجل تيسير سبل العيش معاً ، وتضامن خارجي من الجانب الآخر ويهدف إلى دفاع الجماعة عن نفسها في مواجهة كل عدوان خارجي أو يهدف إلى التوسع والسيطرة على حساب جماعات سياسية أخرى ، فلا يمكن إذن التعريف بالشعب دون ربطه كذلك بالولاء لوحدة سياسية معينة ، هذا الارتباط بين الشعب من جانب ، والإقليم والسلطة السياسية العليا من الجانب الآخر ، هو المميز الوحيد بين الشعب وبين ما يسمى بالأمة ، فالرابطة التي تربط بين أفراد أمة واحدة هي رابطة معنوية اجتماعية تقوم عادة على وحدة الأصل ومن ثم وحدة اللغة والتقاليد والمعتقدات ، ولكنها ليست رابطة ولاء قانوني ، ومن ثم لا يهتم بها القانون الدولي العام، وإن كانت تؤثر تأثيراً بالغاً في سير العلاقات السياسية الدولية .

ومن الطبيعي أن تكون الأمة شعباً واحداً بالمفهوم القانوني ، ولكن الأحداث التاريخية من هجرة وغزوات فرقت بين مجموعات من البشر تنتمي إلى أمة واحدة ، كما أنها جمعت بين أفراد ينتمون إلى أمم مختلفة ، وهكذا نشأت ظاهرتان ، الظاهرة الأولى هي تجزئة الأمة الواحدة إلى عدة شعوب (الأمة العربية) ، والظاهرة الثانية هي تجميع أفراد ينتمون إلى أمم مختلفة في إطار شعب واحد (بعض الدول الأفريقية في وقتنا الحاضر) ، وقد انبثقت عن هذه الظاهرة الأخيرة ظاهرة فرعية هي ظاهرة "الأقليات القومية" التي تثير بعض القضايا القانونية ، إلى جانب إثارتها لقضايا سياسية في غاية الحساسية .

وقد دعت الرغبة في توحيد الأمة الواحدة في إطار شعب واحد إلى ظهور مبدأ سياسي مهم هو "مبدأ القوميات" الذي سيطر على سير العلاقات الأوروبية طوال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، وقد تقرر هذا المبدأ في وثائق دولية عديدة أهمها معاهدات الصلح التي أنهت الحرب العالمية الأولى عام 1919 ، ولكنه لم يصل إلى مرتبة المبدأ القانوني محتفظاً بصبغته السياسية ومتفاعلاً مع عوامل سياسية أخرى لا تقل عنه أهمية مثل مبدأ "توازن القوى" أو مبدأ " المجال الحيوي" .

أما المبدأ الحديث الذي ينادي "بحق تقرير المصير" والذي تتمسك به الشعوب الآسيوية والأفريقية وكرسته عدة مواثيق دولية فهو يعني حق كل شعب – ولا يشترط أن يكون ذلك الشعب أمة واحدة – اضطرته الظروف التاريخية إلى الخضوع لسلطة أجنبية في الحصول على استقلاله السياسي وسيادته القانونية .

وقد اكتسب هذا المبدأ صفة قانونية وذلك بعد الحرب العالمية الثانية ولعل أبرز مظهر لهذا التطور هو القرار رقم (2625) الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 تشرين أول /1970 والخاص بمبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتضامن بين الدول ، فقد جاء في هذا القرار صراحة ما يلي :

"إن حق الشعوب في تقرير مصيرها هو مبدأ قانوني يحق لجميع الشعوب بمقتضاه تقرير نظامها السياسي بكل حرية دون تدخل من الخارج ومواصلة تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية " ، بناءً على ذلك ، فالقانون الدولي يرتب التزاماً على كل دولة "باحترام حق تقرير المصير تطبيقاً لميثاق هيئة الأمم المتحدة" . وقد تطورت النظريات فيما بعد إلى أن أصبح الشعب هو صاحب الحق في اختيار حكامه ، وكان هذا بفضل الإسلام السابق على كل هذه النظم .

سيادة الأمة في اختيار الحاكم

إنه بوحي من الله تعالى وضع النبي –صلى الله عليه وسلم- القواعد التي تنظم اختيار المسئولين بما فيهم الحكام ، فجعل الاختيار للناس ، فهم الذين يختارون من يمثلونهم ومن يكون أميراً وحاكماً عليهم .

ففي بيعة العقبة – وهو في عصر الاستضعاف بمكة قبل الهجرة – جاءه المسلمون من أهل الدينة ليتفقوا معه على أمور دينهم ودنياهم ، ويتحالفوا ويتعاهدوا معه على ذلك ، فطلب منهم اختيار من يمثلهم وذلك بقوله : " أخرجوا لي منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم " وحكم ببطلان البيعة للأمير والخليفة بغير مشورة ورضا من الأمة فقال: "من بايع رجلاً من غير مشورة المسلمين فأنه لا بيعة له ، ولا الذي بايعه".وجعل الترجيح للأغلبية فقال : " عليكم بالسود الأعظم

وفي هذا قال الماوردي : " وإذا اختلف أهل المسجد في اختيار أمام ، عمل على قول الأكثرين

وقال الغزالي : " الإمام من انعقدت له البيعة من الأكثر "

إن الديمقراطية الأوربية قد توصلت إلى أن السيادة للأمة في اختيار الحاكم ومحاسبته وعزله ، وذلك اكن بعد أكثر من عشرة قرون على هذه التشريعات الإسلامية والتي طبقها النبي –صلى الله عليه وسلم- والمسلمون من بعده ، ولكن الديمقراطية الغربية تقضي بعد مسؤولية الحاكم سياسياً إذا كان الحكم جمهورياً ومساءلته جنائياً ولكن أمام محكمة خاصة ، وفي حالات الخيانة العظمى ، وتقضي هذه الديمقراطية بعدم مساءلته سياسياً وجنائياً إذا كان نظام الحكم ملكياً وذلك طبقاً لقاعدة : " حيث لا سلطة لا مسؤولية " .

وكل هذا مرفوض في ظل الشريعة الإسلامية ، فالحاكم كآحاد الناس ويحاكم أمام المحاكم التي يحاكم أمامها عامة الشعب ، ويسأل عن جميع الجرائم.

البيعة وتولية الحكام :

إن رئاسة الدولة في النظام الإسلامي – أياً كانت التسمية التي تطلق على رئيس الدولة – هذه الرئاسة تتم بعقد بين الأمة وبين الحاكم ، وينوب عن الأمة مجلس الشورى أو أهل الحل والعقد أو مجلس الأمة ، وهذا العقد يسمى البيعة .

ولهذا فإن للأمة أن تقيد هذا العقد بما تراه لازماً للمصلحة العامة ، فقد أورد البخاري ومسلم عن ابن عمر قال : " كنا إذا بايعنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول لنا : "فيما استطعت" ، فلها أن تجعل مدة الرئاسة فترة واحدة أو فترتين فلا تكون الرئاسة طويلة الأمد أو مدى الحياة ، كما أنه يجوز للأمة أن تشترط على الحاكم أن يكون تشكيل الوزارة للحزب أو الجماعة التي تحصل على أغلبية أصوات الناخبين في انتخاب حر يشرف عليه القضاء إشرافاً مباشراً وكاملاً . والخلاصة : أن الحكم الإسلامي بالتعبير المعاصر حكم مدني ، وليس حكماً دينياً ، فالاحتكام فيه ليس لأمر غيبي يدعمه الحاكم أو عالم من علماء الدين ، فالاحتكام يكون للقرآن والسنة ، أي القانون المكتوب . ومهام رئيس الدولة أكثرها مهام مدنية ، وقد فصل بذلك الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية ، فعدد نحو عشر مهام دنيوية .

أما الاحتكام إلى القانون المكتوب فقد نزل القرآن بذلك على النبي –صلى الله عليه وسلم- وفيه : (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) ، وقال : (وأن احكم بينهم بما أنزل الله … ). والأمور التي ليس فيها حكم من الله يجتهد فيها الحاكم طبقاً لقواعد الشورى والقواعد العامة في الكتاب والسنة ، والحاكم تنعقد له الولاية على الناس بعقد هو البيعة ، وهذا العقد يمكن أن يتضمنه دستور أو قانون يحدد الإجراءات والحقوق ، وعند الخلاف مع الحاكم فنصوص القرآن والسنة هي الفيصل في الحكم ، قال الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول  ).

وفي هذا سأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وكان خليفة للمسلمين : ما قولكم لو أن أمير المؤمنين شاهد امرأة على معصية ؟فقال علي بن أبي طالب : يأتي بأربعة شهود أو يجلد حد القذف ، شأنه في ذلك شأن سائر المسلمين . ويؤكد ذلك الخليفة عمر بن الخطاب في رسالته إلى أميره أبي موسى الأشعري ، والي الكوفة ففيها : " يا أبا موسى ، إنما أنت واحد من الناس ، غير أن الله قد جعلك أثقلهم حملاً .. إن من ولي من أمر المسلمين يجب عليه ما يجب على العبد لسيده " .

فالخليفة أو أمير المؤمنين أو رئيس الدولة أجير عند الأمة ، ويجب عليه نحوها ما يجب على الخادم نحو سيده ، أما في النظم البشرية فالرئيس ذاته لا تمس ولا يعاقب كآحاد الناس ، بل يملك العفو عن العقوبات أو تخفيضها ، وكل هذا لا يملكه رئيس الدولة في الإسلام ، فقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- : "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد الله في أمره" .

 المنظمة الدولية

كشفت الثورة العلمية والتكنولوجية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وما ترتب عليها من تقريب المسافات وازدياد الترابط بين الدول ، وظهور العديد من المشكلات التي لا يمكن مواجهتها إلا من خلال العمل الجماعي المنسق – كشفت هذه الثورة عن قصور قواعد القانون الدولي العام بوصفها قواعد تتفيأ تحقيق التعايش بين الدول بغض النظر عن اختلاف أنظمتها السياسية والاقتصادية ، وأبرزت الحاجة إلى تكوين هيئات ومنظمات دولية تتعاون من خلالها لحل ما يطرأ عليها من مشكلات تتعلق بكافة مجالات الحياة الدولية ، وتمثلت الصورة الأولى لهذه الهيئات في تجمعات دولية مؤقتة أو دائمة كالمؤتمرات الأوروبية التي كانت تعقد لحفظ توازن القوى بين الدول الأوروبية (مؤتمرات فيينا سنة 1815 ومؤتمرات باريس 1856 وبرلين 1868 ، 1872) ، ثم تطورت إلى اتحادات دولية إدارية يقوم كل منها على تنظيم التعاون بخصوص مرفق دولي معين كاتحاد التلغراف الدولي 1856 ، واتحاد البريد العالمي 1874 ، والمكتب الدولي للموازين والمقاييس 1883 ، ثم بلغ التطور ذروته بقيام منظمات دولية دائمة تتسع عضويتها لتضم العديد من الدول ويمتد اختصاصها ليشمل كافة مجالات الحياة الدولية ، ومثال ذلك عصبة الأمم المتحدة التي قامت سنة 1919 ، والأمم المتحدة التي تأسست سنة 1945 ، ونتيجة لنشأة المنظمات الدولية على هذا النحو ، وعدم ارتباط هذه النشأة بتأصيل فلسفي أو تنظير أيديولوجي لفكرة الحكومة العالمية ، ثار الخلاف حول تحديد المقصود بالمنظمة الدولية . وبصفة عامة يمكن تعريف المنظمة الدولية بأنها هيئة دولية تتفق مجموعة من الدول على إنشائها وتتمتع بإرادة ذاتية سواء في مواجهة المجتمع الدولي ، وتقوم على تحقيق مجموعة من الهداف والمصالح المشتركة ، وتباشر قدراً من السلطات والاختصاصات يقوم على تحديدها الميثاق المنشئ للمنظمة .

ويتضح من هذا التعرف أنه لقيام المنظمة الدولية يلزم توافر أربعة عناصر أساسية تتمثل في الصفة الدولية والميثاق المنشئ للمنظمة ، ومقتضى عنصر الصفة الدولية ، أن يكون أعضاء المنظمة الدولية دولاً مستقلة ذات سيادة تمييزاً للمنظمة الدولية عن المنظمة غير الحكومية التي لا تُخلق عن طريق اتفاق فيما بين الحكومات بل تقوم على تجمع أفراد أو هيئات خاصة أو عامة من دول مختلفة كالصليب الأحمر الدولي والاتحاد الدولي للغرف التجارية والاتحاد البرلماني الدولي ، ويُستثنى من شرط قَصْر العضوية في المنظمات الدولية الحكومية على الدولة المستقلة ذات السيادة ما تسمح به بعض المنظمات الدولية المتخصصة كاليونسكو ومنظمة الصحة العالمية من قبول عضوية بعض الأقاليم التي لا يتوافر لها وصف الدولة ، هذا فضلاً عن اتساع نطاق التمثيل لدى بعض المنظمات الدولية المتخصصة لتشمل مندوبين عن بعض الفئات الاجتماعية ، إلى جانب مندوبي الدول الأعضاء ، ومثال ذلك تمثيل فئة العمال وأصحاب الأعمال وحكومات الدول في مؤتمر منظمة العمل الدولية .

أما شرط الدوام أو الاستمرار فيقضي بأن تتمكن المنظمة الدولية بوصفها كياناً قانونياً مستقلاً – من أن تباشر الاختصاصات المنوطة بها بصفة مستمرة دائمة وهو ما يميز المنظمة الدولية عن المؤتمر الدولي الذي ينفض بمجرد الانتهاء من بحث الموضوع الذي انعقد من أجله .

ويقتضي تحقيق عنصر الاستمرار أن تتمتع المنظمة الدولية بقدر من التنظيم يتمثل في وجود عدد من الأجهزة التي تتولى مباشرة اختصاصات المنظمة وأن يكون بعض هذه الأجهزة أو أحدها في حالة تمكنه من الانعقاد في أية لحظة .

وأما عنصر الإرادة الذاتية فمؤداه تمتع المنظمة الدولية بالشخصية القانونية التي تخولها اكتساب الحقوق وتحمُل الواجبات ومباشرة التصرفات القانونية في حدود ما يقرره الميثاق المنشئ للمنظمة ، ويظهر أثر تمتع المنظمة الدولية بالإرادة الذاتية المستقلة عن إرادات الدول الأعضاء في جوانب عديدة أهمها تمتع القرارات الصادرة عن المنظمة الدولية بالصفة الملزمة في مواجهة الدول الأعضاء بما فيها الدول التي اعترضت عليها ، وهذا ما يميز المنظمة الدولية عن المؤتمر الدولي الذي لا يتمتع بإرادة مستقلة عن إرادات الدول المشتركة فيه ، ولا تلزم القرارات الصادرة عنه سوى الدول التي وافقت عليها وفي حدود الشروط التي قررتها حال موافقتها عليها ، كذلك يترتب على تمتع المنظمة الدولية بإرادة ذاتية مستقلة ألا ينسب إليها من التصرفات إلا ما كان صادراً عنها بوصفها وحدة قانونية مستقلة عن إرادات أعضائها . ويأتي الميثاق المنشئ للمنظمة كعنصر من العناصر اللازمة لقيامها نتيجة اتحاد إرادات الدول الأعضاء ، وهو يتضمن المبادئ التي تقوم عليها المنظمة والهداف التي تنشد تحقيقها والسلطات التي تتمتع بها ، إذ تباشر الاختصاصات الموكولة إليها ، وكذا الأجهزة المكونة للمنظمة وأسلوب عملها وتنظيم العلاقات فيما بينها .

ويمكن تقسيم المنظمات الدولية من حيث العضوية والاختصاصات والسلطات إلى طوائف عديدة ، فمن حيث العضوية توجد منظمات دولية تكون العضوية فيها مفتوحة لكافة الدول الراغبة في الانضمام ما دامت قد توافرت الشروط التي يقررها ميثاق المنظمة في هذا الشأن ، ومثال ذلك عصبة الأمم المتحدة ، وهناك منظمات أخرى تكون العضوية فيها مقصورة على عدد محدود من الدول تتوافر في حقها صفات معينة كالجوار الجغرافي أو التضامن السياسي والاجتماعي ومثالها جامعة الدول العربية ومنظمة الدول الأمريكية .

ومن حيث الاختصاصات تنقسم المنظمات الدولية إلى منظمات عامة تباشر اختصاصات بالنسبة لمختلف مجالات الحياة الدولية كعصبة الأمم والأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ، وإلى منظمات متخصصة تباشر اختصاصاً بالنسبة لمجال معين من مجالات التعاون الدولي منظمة اليونسكو ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة .

أما بالنسبة لسلطات المنظمات الدولية فتوجد أنواع عديدة تختلف فيما بينها باختلاف السلطات الممنوحة لكل منها ضيقاً واتساعاً ، كثير من المنظمات الدولية تقف سلطاته عند حد جمع وتبادل المعلومات والقيام ببحوث ودراسات ومنها ما تمتد سلطاته إلى إصدار توصيات ليست لها صفة الإلزام القانوني في مواجهة المُخاطب بها إلا إذا قبلها صراحةً بالموافقة عليها أو ضمناً بالانصراف إلى تنفيذ مقتضاها ، ومثال ذلك التوصيات الصادرة من الجمعية العامة للأمم المتحدة ، ومن المنظمات الدولية ما يملك سلطات إصدار قرارات قانونية ملزمة للدول الأعضاء بما فيها الدول التي اعترضت عليها كالقرارات والتوصيات الصادرة عن مجلس الأمن في حالات تهديد السلم والأمن الدوليين ، ونادراً ما تتمتع المنظمات الدولية بسلطة الرقابة على الدول الأعضاء أو بسلطة اتخاذ إجراءات عسكرية حال وقوع تهديد للسلم أو إخلال به أو ارتكاب عمل من أعمال العدوان وكذلك ما تتمتع به المنظمات الدولية الأوروبية كالجماعة الأوروبية للفحم والصلب في مواجهة الدول الأعضاء من سلطات في النواحي التشريعية والتنفيذية والقضائية .

عصبة الأمم

تعتبر عصبة الأمم من أولى المنظمات الدولية العالمية التي أنشئت في العصر الحديث بهدف ضمان وكفالة تحقيق السلم والأمن الدوليين ، فقد جاء إنشاء هذه العصبة في إطار معاهدات صلح فرساي عام 1919 ، واستجابة لظروف ومعطيات عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى ، واتساقاً مع مضمون المبادئ الأربعة عشر التي أعلنها الرئيس الأمريكي "ودرو ولسون" أمام مجلس الشيوخ والنواب الأمريكي في 8 يناير كانون ثان عام 1918 والتي أكد فيها ضرورة إنشاء عصبة عامة للأمم لترعى مصالح الدول جميعاً. وقد قامت العصبة رسمياً في 10 يناير كانون ثان عام 1920 وظلت تمارس عملها حتى 18 أبريل نيسان عام 1946 وهو تاريخ اليوم الذي اختتمت فيه جمعيتها العامة آخر جلسة لها ، وقد اتخذت العصبة من مدينة جنيف السويسرية مقراً لها ، وبعد تصفيتها صار هذا المقر هو المقر الأوروبي للأمم المتحدة . وعلى الرغم من أن عصبة الأمم قد قامت لتكون منظمة دولية عالمية الطابع ، فإنها لم تفلح في ذلك ، إذ بقيت طيلة الفترة القصيرة التي عاشتها منظمة دولية أوروبية في المقام الأول ، وقد عُزي ذلك إلى سببين رئيسيين ، الأول : إن غالبية الدول التي تُكوّن الآن ما يسمى بالعالم الثالث لم تكن قد استقلت في ذلك الوقت ، أما السبب الثاني : فيرجع إلى الانسحابات المتكررة للعديد من الدول التي سبق أن انضمت إلى العصبة ، فقد انسحبت البرازيل عام 1928 ، وانسحبت اليابان عام 1933 ، كما انسحبت إيطاليا عام 1937 ، وفُصل الاتحاد السوفييتي منها عام 1936 على إثر مهاجمته لفنلندا (كان الاتحاد السوفييتي قد قُبل عضواً بالعصبة عام 1934) .

وقد تكونت عصبة الأمم من ثلاثة أجهزة هي : مجلس العصبة ، الجمعية ، الأمانة، أما المحكمة الدائمة للعدل الدولي ومنظمة العمل الدولية فقد كانتا ، من الوجهة القانونية الدقيقة ، جهازين شبه مستقلين عن العصبة وإن ربطتهما بها علاقة جد وثيقة .

وقد تكونت الجمعية من جميع الأعضاء في العصبة ، وتطبيقاً لنص المادة (7/1) من العهد ، درجت الجمعية على عقد اجتماعها السنوي العادي في يوم الاثنين الثاني من شهر سبتمبر كم كل عام بمقر العصبة بمدينة جنيف ، وسمح لها بعقد دورات غير عادية بناء على طلب عضو أو أكثر وبعد موافقة أغلبية الأعضاء (وهذا ما حدث بالفعل عام 1926 بمناسبة قبول عضوية ألمانيا، وعام 1932 بمناسبة النزاع الصيني الياباني ، وعام 1939 على إثر مهاجمة الاتحاد السوفييتي لفنلندا ) .

وكان مبدأ الإجماع هو المبدأ الذي أخذت به الجمعية العامة للعصبة عند إصدار قراراتها وذلك فيما عدا بعض الاستثناءات القليلة التي كان يكتفى فيها بأغلبية الأعضاء الحاضرين والمشتركين في التصويت (المسائل الإجرائية ، القرارات المتعلقة بانتخاب الأعضاء غير الدائمين في مجلس العصبة حيث إنها كانت تصدر بأغلبية الثلثين) .

أما مجلس العصبة فقد كان يتكون من نوعين من الدول ، دول دائمة العضوية وشملت الدول الآتية : بريطانيا ، فرنسا ، إيطاليا ، اليابان والولايات المتحدة الأمريكية (رفض الكونجرس الأمريكي الموافقة على انضمام الولايات المتحدة إلى العصبة) ، ودول غير دائمة العضوية وعددها أربع يتم انتخابها لمدة ثلاث سنوات غير قابلة للتجديد الفوري، وفي بادئ الأمر كان عدد أعضاء المجلس 9 أعضاء منهم 5 دائمون (بما في ذلك الولايات المتحدة التي لم تنضم إلى العصبة كما سلف القول) و 4 غير دائمين ، إلا أنه سرعان ما ارتفع عدد الأعضاء غير الدائمين منذ عام 1922 إلى 6 أعضاء ، وقد قابل هذه الزيادة تناقص عدد الأعضاء الدائمين ، فإضافة إلى عدم تصديق الكونجرس الأمريكي على انضمام الولايات المتحدة للعصبة قررت كل من اليابان وإيطاليا الانسحاب منها بحيث لم يبق من الأعضاء الدائمين سوى بريطانيا وفرنسا .

وطبقاً لنص المادة (4/3) من عهد العصبة ، تقرر أن ينعقد المجلس كلما اقتضت الحاجة ذلك بشرط ألا يقل ذلك عن مرة واحدة كل عام ، وقد أدخل على هذا النص بعض التعديلات لمواكبة الظروف المستجدة ، وكما هي الحال بالنسبة للجمعية ، نص على أن يصدر المجلس قراراته بالإجماع فيما عدا بعض الاستثناءات التي يجوز فيها أن تصدر هذه القرارات بالأغلبية وقد تقرر أن يكون لكل دولة عضو بالمجلس مندوب واحد وصوت واحد ، مع ملاحظة أنه بالنسبة للمنازعات الدولية المعروضة أمام المجلس فإن من كان طرفاً فيها لا يُحتسب صوته .

وتعتبر الجمعية والمجلس الجاهزين اللذين أنيط بهما مسؤولية تحقيق أهداف العصبة ، ولذلك فقد كانت اختصاصاتهما متماثلة إلى حد كبير وعلى خلاف الحال بالنسبة للجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع لها ، وفقد قُسمت هذه الاختصاصات إلى ثلاثة : أولاً : كانت هناك اختصاصات ينفرد بمباشرتها كل جهاز من هذين الجهازين باستقلال كامل عن الجهاز الآخر ، كاختصاص مجلس العصبة بإعداد وصياغة مشاريع خفض التسليح ، وثانياً : كانت هناك اختصاصات مشتركة بين الجهازين معاً كالاختصاص المتعلق بانتخاب قضاة المحكمة الدائمة للعدل الدولي ، وثالثاً : كانت هناك طائفة الاختصاصات المتنافسة أو المشاعة التي يحق لأي من الجهازين مباشرتها ، وبشرط أنه إذا بادر جهاز منهما إلى ذلك امتنع على الجهاز الثاني أية خطوة بشأنها ، ومن ذلك – مثلاً – طرد الأعضاء من المنظمة واتخاذ التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين .

أما الأمانة العامة ، فكانت هي الجهاز الإداري للمنظمة ولذلك فقد أُنيطت بها مسؤولية تسيير العمل الإداري للعصبة ، وقد عملت الأمانة تحت إشراف رئيسها الأعلى (الأمين العام) ، وبمعاونة عدد من الموظفين الدوليين .

هذا عن أجهزة العصبة ، أما عن نشاطها وتقييمه فقد اختلفت بشأنه الآراء ، فقد ذهب الرأي الغالب في الفقه إلى القول بأن عصبة الأمم مَثَّلت تجربة فاشلة في نطاق التنظيم الدولي المعاصر ، ذلك لأنها أخفقت في التعامل الإيجابي مع قضايا ومشكلات العالم خلال فترة ما بين الحربين العالميتين ، فهي – مثلاً – لم تُفلح في منح احتلال اليابان للصين عام 1931 ، كما أنها لم تحل دون قيام ألمانيا باحتلال تشيكوسلوفاكيا أو احتلال إيطاليا للحبشة عام 1936 ، كما كان موقفها سلبياً إزاء الحرب الأهلية الأسبانية ، كذلك لم تستطع منع ألمانيا من تسليح نفسها بالمخالفة لنصوص معاهدة صلح فرساي التي حرمت عليها ذلك.

ومع ذلك ، فقد أمكن للعصبة أن تُسهم إيجابياً في حل بعض المشكلات الدولية محدودة الأهمية ، كالنزاع بين لتوانيا وبولندا حول مدينة فلنا ، وكذا النزاع بين السويد وفنلندا حول جزر آلاند

والواقع ، إن الكثير من أسباب إخفاق عصبة الأمم لا يكمن في نظامها القانوني بقدر ما يكمن في الظروف الدولية التي أحاطت بها وعاصرتها .

منظمة الأمم المتحدة

ترتب على إخفاق عصبة الأمم في منع قيام الحرب العالمية الثانية أو الحيلولة دون استمرارها ، اتجاه التفكير إلى إنشاء الأمم المتحدة كمنظمة عالمية دائمة تعمل أساساً على تجنب قيام حروب مقبلة وعلى إعادة تنظيم السلم والأمن الدوليين ، ودعم التعاون الدولي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية بما يحقق هذا الهدف الأصيل . هذا ويمكن التمييز في إنشاء الأمم المتحدة بين مرحلتين أساسيتين ، أما المرحلة الأولى ، فقد تميزت بصدور مجموعة من التصريحات الدولية التي تدور حول الدعوة إلى إنشاء تنظيم دائم لحفظ اسلم والأمن والدوليين وأول هذه التصريحات هو تصريح الأطلنطي الذي صدر في 14 أغسطس آب عام 1941 عقب الاجتماع الذي ضم كلاً من الرئيس الأمريكي روزفلت وتشرشل رئيس وزراء بريطانيا آنذاك ، وتضمن التصريح مجموعة من المبادئ لتنظيم وإدارة العلاقات الدولية ، كاحترام الشعوب في اختيار نظم الحكم التي ترتضيها وتحقيق التعاون الكامل في المجالات الاقتصادية والاجتماعية ، واحترام مبدأ حرية البحار ، وعد الاعتراف بالتوسع الإقليمي على حساب الغير ، واتفاق التغييرات الإقليمية مع إرادة السكان الذين يهمهم الأمر ، والمساواة بين جميع الدول في التجارة الدولية وفي الحصول على الموارد الأولية ، كما تضمن تصريح الأطلنطي إقامة تنظيم دولي دائم وفقاً للمبادئ سالفة الذكر ن يعمل على منع استخدام القوة في العلاقات الدولية ، مع نزع سلاح الدول مصدر التهديد لسلام البشرية وأمنها . وتلا صريح الأطلنطي تصريح واشنطن أو تصريح الأمم المتحدة الذي صدر في أول يناير كانون ثان عام 1942 موقعاً عليه من ست وعشرين دولة ، كما انضمت إليه بعد توقيعه إحدى وعشرون دولة ، وقد تضمن الاتفاق إنشاء تنظيم دولي يكفل احترام حقوق الإنسان وبصفة خاصة حق الشعوب في تقرير مصيرها وتأكيد استقلالها .

أما تصريح موسكو الصادر في 30 أكتوبر تشرين أول عام 1943 فقد التزمت فيه الدول الأربع الكبرى (الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفييتي والصين) لأول مرة بطريقة واضحة وصريحة بإنشاء منظمة دولية عامة تكون مهمتها الحفاظ على السلم والأمن الدوليين وفقاً لمبدأ المساواة فقي السيادة بين جميع الدول المحبة للسلام ، كما تضمن التصريح بعض المبادئ المهمة والخاصة ببعض الدول الأوروبية ومحاكمة مجرمي الحرب .

وأخيراً فقد صدر تصريح طهران في أو ديسمبر كانون أول عام 1943 وفقد أكد رؤساء الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفييتي عدة أمور أهمها استمرار التعاون الإيجابي بين جميع الدول بعد انتهاء الحرب ، والعمل على تكوين تجمع عالمي يضم الشعوب الديمقراطية ، ولا شك أن التصريحات الدولية سالفة الذكر بما ساعدت عليه من بلورة وتحديد الخطوط الأساسية للتنظيم الدولي الجديد كانت بمثابة دعامة أساسية للمرحلة الثانية في إنشاء الأمم المتحدة وهي مرحلة المؤتمرات الدولية .

فقد انعقد مؤتمر دومبارتون اوكس في الفترة من 2 أغسطس إلى 28 سبتمبر بين الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفييتي ثم انضمت الصين في الفترة من 29 إلى 17 أكتوبر وتمخض المؤتمر عن مجموعة من المقترحات التفصيلية بخصوص إقامة الأمم المتحدة منظمة دولية تقوم على حفظ السلم والأمن الدوليين ، وتحقيق التعاون الدولي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتنسيق جهود الدول بما يحقق المصالح المشتركة ، وذلك وفقاً لمجموعة من المبادئ التي يتمثل أهمها في المساواة في السيادة بين الدول ، والامتناع عن استخدام القوة في العلاقات الدولية وفض المنازعات الدولية بالطرق السلمية وتنفيذ الالتزامات الدولية بحسن نية ، كما تضمنت المقترحات السابقة تكوين الهيكل التنظيمي للأمم المتحدة من عدة فروع رئيسية هي :

جمعية عامة ومجلس أمن ، ومحكمة عدل دولية .

وفي الفترة من 4 إلى 11 فبراير شباط عام 1945 انعقد مؤتمر يالتا بين الرؤساء روزفلت وتشرشل وستالين ، وفيه تم تسوية بعض المسائل التي لن يتم الاتفاق بشأنها في دومبارتون اوكس كنظام التصويت في مجلس الأمن وتعيين الأقاليم التي ستخضع لنظام الوصاية ، واتفق المؤتمرون على اشتراط موافقة الدول الخمس الكبرى مجتمعة لصدور القرارات والتوصيات المتعلقة بمسائل موضوعية ، كما اتفقوا على إقامة نظام جديد للوصاية تخضع له الأقاليم التي خضعت لنظام الانتداب في عهد عصبة الأمم والأقاليم التي تختار الدول في نظام الوصاية بمحض إرادتها فضلاً عن أقاليم المستعمرات التي تقتطع من الدول المنهزمة في الحرب .

وأخيراً انعقد مؤتمر الأمم المتحدة للتنظيم الدولي بشأن فرانسيسكو في 25 أبريل نيسان عام 1945 ، وفيه تم إقرار معظم مقترحات دومبارتون اوكس ويالتا مع إدخال بعض التعديلات كالأخذ – فيما يتعلق بنظام التصويت في الجمعية العامة – بقاعدة أغلبية الثلثين عند التصويت على المسائل المهمة والأغلبية العادية في المسائل الأخرى ، وتم إقرار نطاق السريان الفعلي اعتباراً من 24 أكتوبر تشرين أول عام 1945 بعد إتمام إيداع التصديقات عليه لدى حكومة الولايات المتحدة من قبل الدول الخمس الكبرى وأغلبية الدول الأخرى (م: 110/3 من الميثاق) ، وتكونت اللجنة التحضيرية من كافة الدول الموقعة على الميثاق لبحث الترتيبات اللازمة لبدء قيام أجهزة الأمم المتحدة بمباشرة اختصاصاتها ، وعقدت الجمعية العامة أول دورة لها في لندن في 10 يناير كانون ثان عام 1946 وكان من بين ما قررته في تلك الدورة أن تكون مدينة نيويورك مقراً دائماً للأمم المتحدة ، بجانب المقر الأوروبي للأمم المتحدة في جنيف وهو المقر السابق لعصبة الأمم .

ويتكون ميثاق الأمم المتحدة من تسعة عشر فصلاً تتضمن مائة وإحدى عشر مادة ، وقد أتت ديباجة الميثاق مع مادته الأولى على بيان أهداف المنظمة والمتمثلة في حفظ السلم والأمن الدوليين ، وإنماء العلاقات الودية بين الدول ، وتحقيق التعاون الدولي لحل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية وتعزيز احترام حقوق الإنسان أو جعل الأمم المتحدة مرجعاً لتنسيق أعمال الدولة وتوجيهها نحو إدراك هذه الغايات المشتركة، وتبين المادة الثقافية – فضلاً عما ورد ببعض مواد الميثاق الأخرى – المبادئ الأساسية التي يتعين على منظمة الأمم المتحدة أن تسير على هديها ، إذ تعمل على تحقيق الأهداف سالفة الذكر ، وتتمثل هذه المبادئ في المساواة في السيادة بين الدول أو الامتناع عن استخدام القوة أو التهديد باستخدامها في العلاقات الدولية ، وتسوية المنازعات الدولية بالطرق الرسمية ومعاونة الأمم المتحدة في الأعمال التي تتخذها وفقاً للميثاق بحسن نية وعدم تدخل الأمم المتحدة في المسائل المتعلقة بالاختصاص الداخلي للدول .

والعضوية في الأمم المتحدة بوصفها منظمة عالمية نوعان : عضوية أصلية تضم إحدى وخمسين دولة هي الدول التي شاركت في مؤتمر سان فرانسيكسو ووقعت ميثاق الأمم المتحدة وصدقت عليه ، والدول التي وقعت تصريح الأمم المتحد الصادر في أول يناير كانون ثان عام 1942 ، وعضوية بالانضمام ويتطلب لاكتسابها توافر شروط موضوعية وأخرى إجرائية ، أما الشروط الموضوعية فتنحصر في أن تكون الوحدة طالبة للانضمام إلى الأمم المتحدة دولة ، محبة للسلام تقبل تنفيذ الالتزامات ، وأما الشروط الإجرائية فتنحصر في صدور قرار من الجمعية العامة بأغلبية ثلثي الأعضاء الحاضرين والمشتركين في التصويت بناء على توصية إيجابية (بالقبول) من مجلس الأمن يوافق عليها تسعة أعضاء من بينهم الدول الخمس دائمة العضوية مجتمعة . وقد أكدت محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري سنة 1948 أن الشروط الواردة في المادة (4/1) من الميثاق بخصوص شروط العضوية في المنطقة الدولية جاءت على سبيل الحصر ، مما يعني أن اختصاص كل من الجمعية العامة ومجلس الأمن في هذا الشأن هو اختصاص مقيد بمراعاة هذه الشروط ، غير أن تقدير توافر الشروط المشار إليها في المادة (4/1) من عدمه هو أمر يدخل في نطاق السلطة التقديرية لشكل من الجهازين .

ومن حيث وقف العضوية في الأمم المتحدة أو فقدانها فقد نصت المادة الخامسة من الميثاق على أنه يجوز للجمعية العامة أن توقف أي عضو اتخذ مجلس الأمن قِبَله عملاً من أعمال المنع أو القمع عن مباشرة حقوق العضوية ومزاياها ، ويكون ذلك بناء على توصية مجلس الأمن ، ولمجلس الأمن لأن يرد لهذا العضو مباشرة تلك الحقوق والمزايا ، وتنص المادة السادسة من الميثاق على أنه إذا أمعن عضو من أعضاء الأمم المتحدة في انتهاك مبادئ الميثاق جاز للجمعية العامة أن تفصله من الهيئة بناء على توصية مجلس الأمن .

وفيما يتعلق بالانسحاب من الأمم المتحدة فليس في نصوص الميثاق ما يشير إلى وجود هذا الحق رغبة من مؤسسة المنظمة الدولية في تهيئة أسباب الاستقرار والاستمرار لها ، وإن كانت الأعمال التحضيرية تكشف عن جواز مباشرة العضو هذا الحق حل قيام ظروف استثنائية تبرره ، وبالنسبة للفروع الرئيسية للأمم المتحدة فقد كانت مقترحات دومبارتون اوكس تتضمن إنشاء أربعة فروع رئيسية هي الجمعية العامة ، ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية، والأمانة ، ثم رُئي في مؤتمر سان فرانسيسكو إضافة فرعين رئيسيين آخرين هما المجلس الاقتصادي والاجتماعي ومجلس الوصاية نظراً لأهمية التعاون الدولي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية ودوره في حفظ السلم والأمن الدوليين ، فصارت بذلك فروع الأمم المتحدة الرئيسية ستة فروع هي – طبقاً للمادة السابعة من الميثاق :

-        جمعية عامة .

-        مجلس أمن .

-        مجلس اقتصادي واجتماعي .

-        مجلس وصاية .

-        محكمة عدل دولية وأمانة .

الجمعية العامة

تحتل الجمعية العامة مكانة مهمة داخل نظام الأمم المتحدة لشمول عضويتها جميع الدول الأعضاء في المنظمة الدولية ، واتساع نطاق اختصاصها لكافة الأهداف التي تقوم المنظمة الدولية على تحقيقها .

وتقوم العضوية في الجمعية العامة وكذا تمثيل الدول لديها على مبدأ المساواة التامة في السيادة دون تفرقة أو تمييز بين الدول أياً كانت كبرى أو صغرى ، فتتألف الجمعية العامة – وفقاً للمادة التاسعة – من جميع أعضاء الأمم المتحدة ، ويتم تمثيل كل دولة عضو داخل الجمعية بوفد لا يزيد على خمسة مندوبين ، مع حق كل دولة في أن تضم مجموعة من المستشارين والخبراء إلى وفدها كلما اقتضت الحاجة لذلك ، كما تسمح الجمعية العامة ، وبصفة خاصة منذ دورتها العادية لسنة 1974 – لحركات التحرير التي يعنيها المسائل المعروضة على الجمعية العامة بالاشتراك في أعمال لجان الجمعية وأجهزتها الفرعية والمؤتمرات التي تقوم الجمعية بالدعوة إليها ، وذلك دون أن يكون لها حق التصويت .

وفيما يتعلق بتنظيم عمل الجمعية العامة ، فهي جهاز غير دائم الانعقاد حيث تعقد دورة عادية سنوية تبدأ اعتباراً من الثلاثاء الثالث من شهر ديسمبر من كل عام ، كما تعقد الجمعية دورات خاصة أو غير عادية حسب ما تدعو إليه الحاجة ، وذلك بناء على طلب مجلس الأمن أو أغلبية أعضاء الأمم المتحدة، وفضلاً عن ذلك فإنه يجوز بمقتضى قرار الاتحاد من أجل السلم الصادر في 3 نوفمبر تشرين ثان سنة 1950 – دعوة الجمعية العامة إلى دورة استثنائية مُستعجلة في ظرف أربع وعشرين ساعة ، وبناء على طلب تسعة أعضاء من مجلس الأمن ليس من بينهم الأعضاء الدائمون ، أو أغلبية أعضاء الجمعية العامة ، مثالها الدورة التي عقدت عام 1956 لبحث العدوان الثلاثي على مصر.

ومن ناحية أخرى ، ونظراً لاتساع عضوية الجمعية العامة وشمول اختصاصها ، أنشأت الجمعية – بمقتضى المادة 22 من الميثاق – عدداً من اللجان الفرعية التي تساعد الجمعية على مباشرة وظائفها ، فتوجد سبع لجان دائمة تختص كل منها بموضوع محدد وهي اللجنة المختصة بمسائل السياسة والأمن ، واللجنة السياسية الخاصة ، ولجنة المسائل الاقتصادية والمالية ، ولجنة الوصاية والأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي ، ولجنة الشؤون الإدارية والميزانية ، واللجنة القانونية ، كما توجد لجنتان تختصان بمسائل إجرائية هما مكتب الجمعية العامة ومهمته تنسيق أعمال الجمعية العامة ولجنة وثائق الاعتماد ومهمتها التحقق من صحة أوراق اعتماد ممثلي الدول لدى الجمعية العامة .

وبجانب ذلك أنشأت الجمعية العامة مجموعة من لجان الخبرة كلجنة الاشتراكات واللجنة الاستشارية لشؤون الميزانية والإدارة ، هذا فضلاً عما قد تُنشئه الجمعية العامة من لجان مؤقتة تنتهي بتحقق الغرض منها كلجنة التوفيق في فلسطين واللجنة الاستشارية لجنوب غرب إفريقيا ، وفيما يتعلق بنظام التصويت داخل الجمعية العامة ، فإنه يعكس هو الآخر مبدأ المساواة بين الدول، فلكل دولة صوت واحد في الجمعية العامة (م181/1) وتُتخذ القرارات بأغلبية الثلثين بالنسبة للمسائل المهمة كفظ السِّلم والأمن الدوليين ، وانتخاب أعضاء مجلس الأمن غير الدائمين ، وانتخاب أعضاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي ، وقبول أعضاء جدد في الأمم المتحدة ن وانتخاب أعضاء مجلس الوصاية ، ووقف الأعضاء عن مباشرة حقوق العضوية والتمتع بمزاياها ، والمسائل المتعلقة بسير نظام الوصاية ، والمسائل الخاصة بالميزانية ، وفصل الأعضاء ، والدعوة إلى عقد مؤتمر لإعادة النظر في الميثاق ، وتعديل الميثاق ، أما القرارات والتوصيات المتعلقة بمسائل غير مهمة فتصدر بالأغلبية المطلقة .

أما فيما يتعلق باختصاصات وسلطات الجمعية العامة ، فهي تباشر اختصاصاً عاماً يشمل جميع المسائل التي تدخل في نطاق ميثاق الأمم المتحدة ، فلها أن تناقش أية مسألة أو أمر يدخل في نطاق هذا الميثاق أو يتصل بسلطات فرع من الفروع المنصوص عليها فيه أو بوظائفه ، كما أن لها أن توصي أعضاء الهيئة أو مجلس الأمن أو كليهما بما تراه في تلك المسائل والأمور . غير أنه تَردُ بعض القيود على مباشرة الجمعية العامة هذا الاختصاص العام وهي قيود تتعلق بمباشرة مجلس الأمن لاختصاصه في مجال حفظ السلم والأمن الدوليين ، وبالقيد العام الوارد على اختصاصات المنظمة الدولية بالنسبة للاختصاص الداخلي للدول فليس للجمعية العامة أن تقدم أي توصية في شأن نزاع أو موقف يباشر مجلس الأمن بصدده الوظائف التي يُخولها له الميثاق ، إلا إذا طلب منها مجلس الأمن ذلك (م: 12/1) كما يتعين على الجمعية أن تُحيل أية مسألة تتعلق بحفظ السلم والأمن الدوليين ويكون من الضروري فيها القيام بعمل ما إلى مجلس المن قبل بحثها أو بعده .

أما من ناحية أخرى ، فإنه يُحظَر على الجمعية العامة اتخاذ قرار أو توصية بشأن المسائل التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما .

ومن حيث السلطات التي تتمتع بها الجمعية العامة لدى مباشرتها الاختصاصات الموكولة إليها فهي  تملك إصدار قرارات مُلزمة تتعلق بالتنظيم الداخلي للمنظمة الدولية (السلطة اللائحية) كاختيار أعضاء مجلس الأمن غير الدائمين وأعضاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي ومجلس الوصاية وتعيين أو اختيار أعضاء الأجهزة الفرعية ، وإقرار ميزانية الأمم المتحدة ، وإنشاء الأجهزة الفرعية ، كما تشترك الجمعية مع مجلس الأمن في مباشرة اختصاصات تتمتع بالنسبة لها بسلطات واسعة كما هي الحال بالنسبة لقبول أو وقف أو طرد دولة من الدول الأعضاء ، واختيار قضاة محكمة العدل الدولية واختيار الأمين العام للأمم المتحدة ، حيث يكون صدور توصية إيجابية من مجلس المن (بالقبول) شرطاً لازماً لصدور قرار الجمعية العامة صحيحاً منتجاً لآثاره القانونية بالنسبة لتلك المسائل ، وأخيراً تملك الجمعية العامة إصدار توصيات في مجال التعاون الدولي الاقتصادي والاجتماعي ن وبصدد كل ما يتعلق بأهداف الأمم المتحدة بصفة عامة (م/10، 11/2 ، 13/1 ، 14) ، غير أن توصيات الجمعية العامة في هذا المجال ليس لها قيمة قانونية ملزمة إلا إذا قبلها المخاطب بها صراحة (بأن وافق عليها) أو ضمناً (بأن انصرف إلى تنفيذ مقتضاها) .

ويستثنى من ذلك حالة ما تكون التوصيات الصادرة عن الجمعية العامة كاشفة عن قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي أو مقررة لالتزام دولي عام فتنخلع عليها الطبيعة الملزمة لهذه القواعد أو الالتزامات ، هذا فضلاً عن أن تواتر اتباع الدول لتوصيات الجمعية العامة من شأنه أن يخلق قاعدة قانونية عرفية تتمتع بالطبيعة الملزمة .

ومن ناحية أخرى ، فقد كان إخفاق مجلس الأمن في أداء مهمته الأساسية في حفظ السلم والأمن الدوليين نتيجة استخدام حق الاعتراض "فيتو" من قبل الدول الكبرى ، سبباً في صدور قرار الاتحاد من أجل السلم سنة 1950 الذي يخوِّل الجمعية العامة – حال إخفاق المجلس في القيام بمهامه – سلطة إصدار توصيات باتخاذ إجراءات جماعية لمواجهة حالات الإخلال بالسلم أو تهديده أو ارتكاب عمل من أعمال العدوان ، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة إذا اقتضى الأمر ذلك ، كما يقضي القرار بأن تعقد الجمعية العامة دورة استثنائية عاجلة خلال أربع وعشرين ساعة للنظر في تطبيق القرار على المسألة المعنية ، وذلك بناء على طلب من مجلس الأمن بموافقة تسعة من أعضائه ليس بينهم الأعضاء الدائمون أو من الجمعية العامة بأغلبية أعضائها .

غير أن ازدياد عضوية الجمعية العامة واتجاه هذه العضوية إلى الاهتمام بقضايا ومصالح الدول حديثة العهد بالاستقلال وهي بطبيعتها دول صغرى متخلفة بالقياس إلى الدول الكبرى ، وقدرة هذه الدول الصغيرة على استصدار القرارات والتوصيات التي تحقق مصالحها من خلال الجمعية العامة ، كل ذلك جعل الدول الكبرى تفق على اختلاف مصالحها وتوجهاتها – على ضرورة العودة إلى مجلس الأمن والتركيز على دوره الأساسي في حفظ السلم والأمن الدوليين

مجلس الأمن

مجلس الأمن هو الجهاز المسئول بصفة أساسية عن تحقيق الهدف الرئيسي والاختصاص الأصيل لمنظمة الأمم المتحدة والمتمثل في حفظ السلم والأمن الدوليين ، فقد نصت المادة (24/1) من الميثاق على أنه "رغبة في أين يكون العمل الذي تقوم به" الأمم المتحدة سريعاً وفعّالاً ، يعهد أعضاء تلك الهيئة إلى مجلس الأمن بالتبعات الرئيسية في أمر حفظ السلم والأمن الدوليين ويوافقون على أن المجلس يعمل نائباً عنهم في قيامه بواجباته التي تفرضها عليه هذه التبعات .

ويحتل مجلس الأمن مكانة مهمة داخل نظام الأمم المتحدة تتضح بالنظر إلى تكوين العضوية ونظام التصويت في المجلس ، والاختصاصات المنوطة به، والسلطات التي يتمتع بها إذ يباشر هذه الاختصاصات .

وفيما يتعلق بنظام التصويت داخل مجلس الأمن فيعكس هو الآخر اعتراف مؤسسي المنظمة الدولية بالفوارق القائمة – فعلاً – بين الدول في علاقات القوى ، حيث منحت الدول الكبرى المشار إليها سلفاً ، فضلاً عن امتياز العضوية الدائمة في المجلس ، حق الاعتراض (الفيتو) حال التصويت على المسائل الموضوعية داخل المجلس ، وذلك بدعوى تحمُّل هذه الدول المسؤولية الكبرى في حفظ السلم والأمن الدوليين ، فلا شك أن اشتراط الموافقة الإجماعية للدول الدائمة العضوية في المجلس عند اتخاذ القرارات المتعلقة بالمسائل الموضوعية من شأنه أن ينزع كلاً من مبدأ المساواة في التصويت (لكل دولة صوت واحد : م: 27/1) ومبدأ الأغلبية في اتخاذ القرارات (تصدر قرارات المجلس بأغلبية تسعة من أعضائه : م: 27/2 ، 3) من مضمونه حيث يترتب على اعتراض أي من الدول الدائمة العضوية عدم صدور القرار المعني في المسائل الموضوعية ، وفضلاً عن ذلك فإن المجلس هو وحده المختص بتكييف المسائل المعروضة عليه ويعتبر قرار التكييف مسألة موضوعية يلزم بشأنها موافقة جميع الدول دائمة العضوية في المجلس أيضاً ، غير أن هذه الموافقة الإجماعية لا تشترط لدى انتخاب قضاة محكمة العدل الدولية (م: 10/2 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية) أو عند الدعوة لعقد مؤتمر لإعادة النظر في ميثاق الأمم المتحدة (م : 109/1) .

ويرتبط بنظام التصويت في مجلس الأمن التمييز بين الموقف والنزاع حيث يكون للدول الأطراف في موقف ، الحق في الاشتراك في التصويت ، على خلاف الدول الأطراف في نزاع فلا يحق لها الاشتراك في التصويت (م : 52/3) .

ويلاحظ أخيراً بالنسبة لنظام التصويت في مجلس الأمن أن العمل قد جرى داخل المجلس على اعتبار امتناع العضو الدائم عن استخدام حق الاعتراض عن التصويت على مسألة موضوعية مع توافر إمكان استخدمه ، بمثابة موافقة ضمنية على القرار ، وكلك الشأن بالنسبة لغياب العضو الدائم عن جلسات المجلس .

وفيما يتعلق باختصاصات مجلس الأمن وسلطاته فينحصر الاختصاص الأصيل للمجلس في حفظ السلم والأمن الدوليين ، ويتمتع المجلس في مباشرته هذا الاختصاص الأصيل بسلطات واسعة تبدأ بمجرد اتخاذ إجراءات تساعد على منع قيام المنازعات الدولية كتنظيم شؤون التسلح (م: 26) ، وتمتد إلى العمل على تجنب استمرار المنازعات التي قد تؤدي إلى تهديد السلم والأمن الدوليين ، وذلك من خلال دعوة أطراف النزاع إلى تسويته عن طريق المفاوضة والتحقيق والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية ، أو الالتجاء إلى المنظمات الإقليمية أو غيرها من الطرق السلمية التي يقع عليها اختيارها (م: 23/2) ، أو من خلال التوجيه في أية مرحلة من مراحل النزاع بما يراه ملائماً من إجراءات وطرق للتسوية ، بما في ذلك ضرورة عرض المنازعات القانونية على محكمة العدل الدولية (م: 36) ، أو أن يعرض المجلس حال إخفاق الوسائل سالفة الذكر ما يراه مناسباً من إجراءات وطرق تسوية أو أن يوصي بما يراه ملائماً من شروط حل النزاع (م: 37/2) وتبلغ سلطات مجلس الأمن في مجال حفظ السلم والأمن الدوليين مداها حال وقوع تهديد للسلم أو إخلال به أو مستحسناً من تدابير مؤقتة لا تُخل بحقوق المتنازعين ومراكزهم ، كالدعوة إلى وقف إطلاق النار أو عقد هدنة أو سحب القوات المتحاربة إلى خطوط معينة ، وللمجلس أن يقرر ما يجب اتخاذه من تدابير غير عسكرية ضد الدولة التي تهدد السلم كوقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية وقفاً جزئياً أو كلياً وقطع العلاقات الدبلوماسية ، وإذا قدر المجلس أن هذه التدابير لا تفي بالغرض أو ثبت أنها لم تف به كان له أن يتخذ إجراءات عسكرية ضد الدولة المعتدية ، وتلتزم الدول – طبقاً للميثاق – بأن تضع تحت تصرف مجلس ، بمقتضى اتفاقات خاصة، ما يلزم من القوات المسلحة ، وكذا بعض وحداتها الوطنية للاستخدام عند الحاجة في إجراءات القمع العسكرية (م: 43 ، 45) كما يملك المجلس أن يستخدم التنظيمات والوكالات الإقليمية في تنفيذ الإجراءات العسكرية إذا رأى ذلك ملائماً ، على أن يكون عمل هذه التنظيمات والوكالات تحت رقابة المجلس وإشرافه .

وجدير بالذكر أن سلطة المجلس بخصوص اتخاذ إجراءات القمع العسكرية لا تؤثر بحال من الأحوال في حق الدول المعتدى عليها في الدفاع الشرعي عن نفسها فرادى وجماعات دون استئذان مجلس الأمن وذلك بشرط إخطار المجلس بذلك وإلى أن يتخذ المجلس الإجراءات اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين .

وبجانب الاختصاص الأصيل في حفظ السلم والأمن الدوليين ن يباشر مجلس الأمن مجموعة من الاختصاصات إلى جوانب أخرى كالاشتراك في الإشراف على الأقاليم الاستراتيجية الخاضعة لنظام الوصاية (م : 83/2،3) ، وإنشاء الأجهزة الفرعية التابعة له (م:29) وتقرير الإجراءات اللازمة لتنفيذ أحكام محكمة العدل الدولية (م:94/2) ، كما يشترك مجلس الأمن مع الجمعية العامة في مباشرة بعض الاختصاصات الإدارية كقبول الأعضاء الجدد (م:4) ، ووقف العضوية أو الفصل مع الأمم المتحدة (م: 5/6) ، وتعيين الأمين العام للأمم المتحدة (م:97) وتحديد شروط انضمام الدول غير الأعضاء في الأمم المتحدة للنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية (م: 93/2) ، وانتخاب قضاة محكمة العدل الدولية (م/2 من النظام الأساسي للمحكمة) .

وفي النهاية إذا كان مجلس الأمن قد أُنيط به حفظ السلم والأمن الدوليين باعتبار ذلك يمثل الهدف الرئيسي للأمم المتحدة والمصلحة العليا المشتركة للجماعة الدولية ، وإذا كانت الدول الكبرى قد حظيت داخل المجلس بميزات حقوق تتفق وما يقع على عاتقها من دور كبير في أداء المجلس لمهمته الأساسية تلك ، فإن الاختلاف بين هذه الدول في الأيديولوجية والمصالح وما ترتب عليه من إساءة استعمال حقها في الاعتراض قد حال في الأغلب الأعم من الحالات دون قيام المجلس بدوره المنشود في مجال حفظ السلم والأمن الدوليين ، إذ يستحيل في ضوء النظام القائم للمجلس توقيع عقوبات ضد عضو دائم أو ضد دولة تحظى بتأييد هذا العضو الأمر الذي كان وما يزال محل نقد شديد من قبل جمهور الفقهاء وغالبية أعضاء الجماعة الدولية .

محكمة العدل الدولية

تعد محكمة العدل الدولية أحد الأجهزة الرئيسية الستة للأمم المتحدة ، شأنها في ذلك شأن كل من : الجمعية العامة ، مجلس الأمن ، المجلس الاقتصادي والاجتماعي ، مجلس الوصاية ، الأمانة (المادة 7/1 من الميثاق) ، كذلك ، فإن المحكمة تعتبر – طبقاً لنص المادة 92 من الميثاق وكذا طبقاً لنص المادة الأولى من نظامها الأساسي – الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة ، وهي تقوم بعملها وفق نظامها الأساسي الملحق بالميثاق والذي يعتبر جزءاً لا يتجزأ منه ، وبذلك تختلف محكمة العدل الدولية عن سابقتها "المحكمة الدائمة للعدل الدولي" حيث كان النظام الأساسي لهذه الأخيرة بمثابة وثيقة أو معاهدة دولية مستقلة تمام الاستقلال عن عهد عصبة الأمم ، وقد ترتب على هذا الوضع الخاص لمحكمة العدل الدولية في علاقتها بالأمم المتحدة نتيجة مهمة مؤداها أن أعضاء هذه المنظمة يكونون في الوقت نفسه – ودون حاجة إلى أي إجراء خاص – أطرافاً في النظام الأساسي للمحكمة ، غير أن الانضمام إلى هذا النظام الأساسي ليس مقصوراً على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وحدها ، إذ سمح النظام المذكور للدول غير الأعضاء في الأمم المتحدة بالانضمام إليه بشروط معينة ، والحق ، أن محكمة العدل الدولية لم تعمل بوصفها جهازاً من أجهزة الأمم المتحدة فحسب ، وإنما عملت بوصفها جهازاً للقانون الدولي أيضاً .

فهي لا تعطي فقط آراء إفتائية لأجهزة الأمم المتحدة ، ولكن تُصدر أحكاماً بشأن المنازعات التي ترفعها إليها الدول بصفتها هذه أيضاً .

وكما هي الحال بالنسبة للمحكمة الدائمة للعدل الدولي التي قامت خلال الفترة بين 1920 و 1946 تتكون محكمة العدل الدولية من 15 قاضياً يتم انتخابهم من بين رعايا الدول الأطراف في النظام الأساسي ، وبشرط ألا يتضمن تشكيل هيئة المحكمة أكثر من عضو واحد من رعايا دولة بعينها ، وقد نصت المادة 2 من النظام الأساسي على وجوب أن يكون القضاة المنتخبون من ذوي الصفات الخلقية العالية والحائزين في بلادهم على المؤهلات المطلوبة للتعيين في أرفع المناصب القضائية ، أو من المشرعين لهم المشهود بالكفاءة في مجال القانون الدولي .

ويراعى عند انتخاب القضاة ، وجوب تمثيلهم للنظم والثقافات القانونية الرئيسية في العالم . وتقوم الجمعية العامة ومجلس الأمن – كل على حدة – بانتخاب هؤلاء القضاة من بين الأشخاص الذين قامت بتسميتهم الشعب الوطنية والذين يقوم الأمين العام للأمم المتحدة بإعداد قائمة بأسمائهم مرتبة حسب الحروف الأبجدية، ويعتبر المرشح منتخباً إذا حصل على الأغلبية المطلقة لأصوات أعضاء كل من الجمعية العامة ومجلس الأمن (عند الاقتراع في هذا الأخير ، لا يحصل أي تمييز بين الأعضاء الدائمين والأعضاء غير الدائمين) .

وفترة ولاية القاضي هي 9 سنوات ، ويجوز إعادة انتخابه لمدة أخرى ، ويتمتع القضاة بكافة الضمانات التي تكفل لهم مباشرة وظيفتهم بالحيدة التامة ، ومن ذلك مثلاً أن عضو المحكمة لا يُفصَل من وظيفته إلا إذا أجمع باقي الأعضاء على أنه قد أصبح غير متمتع بالمؤهلات والشروط التي أهلته لتولي هذا المنصب .

وإلى جانب القضاة الدائمين ، أخذ النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية – مقتفياً في ذلك أثر النظام الأساسي للمحكمة الدائمة للعدل الدولي – بنظام القاضي الوطني أو القاضي المؤقت ، وذلك متى كان لأحد أطراف النزاع المعروض أمام المحكمة قاض يمثله في هيئة المحكمة ولم يكن للطرف الثاني قاض مماثل .

وقد اتخذت محكمة العدل الدولية ، مثل سابقتها المحكمة الدائمة للعدل الدولي ، من مدينة لاهاي مقراً لها مع النص على جواز عقد جلساتها في أي مكان آخر إذا لزم الأمر، ويقيم رئيس المحكمة ونائبه (اللذان يتم انتخابهما لمدة 3سنوات قابلة للتجديد) بالمقر الدائم للمحكمة ، كما يقيم معهما بالمقر نفسه مسجل المحكمة أيضاً .

وتبدأ المحكمة عملها – سواء بقصد الفصل في نزاع معين معروض عليها أو بقصد تقييم فتوى معينة لأحد أجهزة الأمم المتحدة أو لإحدى منظماتها المتخصصة – بالتحضير للقضية المعروضة ، وعادة ما تقوم بهذا العمل في شكل هيئة مكونة من 9 قضاة ( وهذا هو النصاب القانوني الذي يصح به اجتماعاتها) ، ومع ذلك ، فيجوز للمحكمة أن تشكل من وقت إلى آخر دائرة أو أكثر تتكون كل منها من ثلاثة قضاة أو أكثر وذلك للنظر في أنواع معينة من القضايا كقضايا العمل والعمال ذات الطابع الفني عموماً ، وبعد التحضير للقضية، تبدأ مرحلة المرافعات التي تنقسم إلى مرافعات مكتوبة وأخرى شفوية ، واللغات الرسمية للمحكمة هي الفرنسية والإنجليزية ، وتبين المحكمة في نهاية حكمها أو فتواها أي هاتين اللغتين يكون لها الحجية وتكون جلسات المحكمة علنية، ما لم تقرر هي ذاتها خلاف ذلك أو ما لم يطلب المتخاصمون عدم قبول الجمهور فيها ، ويتولى رئيس المحكمة إدارة الجلسات ، وإذا وُجد مانع لديه يحول دون ذلك تولّى إدارتها نائبه ، وإذا تعذر ذلك بالنسبة لهذا النائب تولّى أعمال الرئاسة أقدم القضاة الحاضرين .

وبعد الانتهاء من مرحلة المرافعات وعرض القضية يعلن الرئيس – أو من يقوم مقامه – ختام المرافعة وتنسحب المحكمة للمداولة السرية توطئة لإصدار قرارها حكماً كان أم رأياً إفتائياً ، ويصدر هذا القرار في جميع المسائل بأغلبية القضاة الحاضرين ، وإذا تساوت الأصوات رجح جانب الرئيس أو القاضي الذي قوم مقامه ، ويبين الحكم (أو الفتوى) الأسباب التي بني عليها وأسماء القضاة الذين اشتركوا في إصداره وإذا لم يكن الحكم (أو الفتوى) صادراً كله أو بعضه بإجماع القضاة فإنه يحق لكل قاض أن يُصدر بياناً مستقلاً برأيه الخاص ، وفي كل الأحوال يكون صدور الحكم أو الرأي الإفتائي في جلسة علنية وموقعاً عليه من جانب رئيس المحكمة ومسجلها ، كما أنه يكون نهائياً وغير قابل للاستئناف .

أما عن القانون الذي تطبقه المحكمة وهي بصدد مباشرة عملها ، فقد حددته المادة 38 من نظامها الأساسي على النحو التالي :

الاتفاقات الدولية العامة والخاصة ، العرف الدولي ، المبادئ القانونية العامة ، أحكام المحاكم ومذاهب كبار المؤلفين في القانون الدولي العام (مصدر احتياطي بحسب النص) ، مبادئ العدل والإنصاف متى وافق أطراف النزاع على ذلك .

جامعة الدول العربية

تعد جامعة الدول العربية من أولى المنظمات الدولية الإقليمية التي أُنشئت خلال الفترة التالية لانتهاء الحرب العالمية الثانية ، وعلى الرغم من حقيقة أن قيام جامعة الدول العربية – الذي أعل عنه رسمياً في 22 مارس آذار عام 1945 - يعتبر تتويجاً لحركة القومية العربية والفكر القومي العربي ، فإن الأمر الذي لا شك فيه هو أن المؤشرات الخارجية لعبت دوراً ملحوظاً في مرحلة التحضير لإنشاء هذه المنظمة الدولية العربية وفي إخراجها على نحو معين ، ولعل تصريحات المسؤولين البريطانيين ، وعلى رأسهم تصريحات وزير الخارجية مستر إيدن ، منذ أوائل الأربعينيات بشأن مسألة الوحدة العربية والمشاريع التي طرحت بهدف تحقيقها تأتي في مقدمة هذه المؤثرات الخارجية ، حيث إنها كانت بمثابة الضوء الأخضر للحكام العرب لبدء سلسلة من الاتصالات الثنائية والجماعية وإجراء المشاورات لدراسة فكرة إقامة تنظيم عربي واحد يجمع شمل الدول العربية ، ويسمح بدرجة أكبر من التنسيق فيما بينها في مختلف المجالات ، وقد عرفت تلك الاتصالات وقتذاك بالمباحثات التمهيدية لإنشاء جامعة الدول العربية ، وقد جرى كعظمها بمدينة الإسكندرية منذ أوائل عام 1944 ، وانتهت بالتوقيع على الميثاق في 22 مارس آذار من عام 1945.

وقد بدأت الجامعة بسبع دول هي : مصر ، سوريا ، لبنان ، شرق الأردن ، العراق ، المملكة العربية السعودية ، اليمن (ويلاحظ أن هذه الدولة العربية الأخيرة لم توقع على الميثاق في التاريخ المذكور شأن باقي الدول المؤسسة الأخرى وإنما وقعت عليه فيما بعد وبالتحديد في 5 مايو آيار عام 1945 بمدينة صنعاء) ، أما الآن ، وكنتيجة اكتمال حصول الدول العربية على استقلالها ، فقد بلغ عدد الدول العربية الأعضاء 22 دولة ، وبما في ذلك فلسطين التي وافق مجلس الجامعة في يونيو حزيران عام 1976 على منحها العضوية الكاملة .

والعضوية في جامعة الدول العربية مقصورة على الدول العربية وحدها دون غيرها من دول المنطقة وذلك بعد موافقة مجلس الجامعة على ذلك ، وطبقاً للميثاق تظل الدولة متمتعة بصفة العضوية وذلك ما لم يطرأ عليها أي عارض يسقط عنها هذه الصفة، كفقدان الدولة لشخصيتها القانونية الدولية أو الانسحاب الاختياري من الجامعة أو الفصل منها .

وقد تضمن الميثاق خمسة مبادئ تقوم عليها الجامعية وهي :-

(1)     عدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام نظام الحكم في كل دولة .

(2)     سيادة كل دولة واحترام مبدأ التعاون الجماعي .

(3)     المساواة فيما بين الدول الأعضاء .

(4)     حل المنازعات بالطرق السلمية .

(5)     المساعدة المتبادلة .

أما الأهداف التي أنيطت بالجامعة مسؤولية تحقيقها استرشاداً بالمبادئ المذكورة ، فقد حددتها نصوص الميثاق في الآتي : المحافظة على استقلال الدول الأعضاء ، حل المنازعات بين الدول الأعضاء بالطرق السلمية ومنع اللجوء إلى القوة ، توثيق الصلات بين الدول الأعضاء وتنسيق خططها السياسية تحقيقاً للتعاون فيما بينها وصيانة لاستقلالها وسيادتها ، التعاون الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ، النظر – بصفة عامة – في شؤون الدول العربية ومصالحها .

وتتكون جامعة الدول العربية – شأن أي منظمة دولية من مجموعة من الأجهزة تتعاون فيما بينها من أجل تحقيق الأهداف المشار إليها في الميثاق ، فطبقاً لنصوص المواد (3 ، 4 ، 12) من الميثاق تقوم الجامعة على ثلاثة أنواع من الأجهزة هي مجلس الجامعة ، الأمانة العامة ، اللجان الدائمة ، أما المادة (19) التي أشارت إلى ضرورة إنشاء محكمة عدل عربية فلم يقدر لها أن ترى النور إلى اليوم .

ويتكون مجلس الجامعة الذي يعتبر الجهاز الرئيسي فيها ، من مندوبين عن جميع الدول الأعضاء وبحيث يكون لكل دولة صوت واحد مهما تعدد مندوبوها ، ولما كان الميثاق لم يُحدد – على وجه الدقة – مستوى معيناً لمندوبي الدول الأعضاء لدى الجامعة، لذا فقد ساعدت هذه المرونة على أني يجتمع المجلس بمستويات مختلفة مكنته من مواجهة الظروف المتغيرة على الساحة العربية ، وذلك بدءاً من مستوى المندوبين الدائمين لدى الجامعة ومروراً بمستوى السفراء المعتمدين لدى دولة المقر إلى مستوى وزراء الخارجية وانتهاء بمستوى الملوك والرؤساء (مؤتمرات القمة) .

وينعقد مجلس الجامعة مرتين كل عام في شهري مارس آذار ، وسبتمبر أيلول ، كما أنه ينعقد في دورة غير عادية بناء على طلب دولتين أو أكثر من دول الجامعة .

ويكون انعقاد المجلس بالمقر الدائم للجامعة بمدينة القاهرة مع جواز انعقاده في أي مكان آخر إذا لزم الأمر .

والقاعدة العامة بالنسبة للتصويت في مجلس الجامعة تقضي بأن القرار الذي يصدر عن المجلس لا يلزم إلا الدول التي وافقت عليه ، ولكن يستثنى من ذلك بعض الحالات تصدر فيها القرارات بالأغلبية ومن ذلك مثلاً : إن قرارات المجلس بشأن تعديل الميثاق تصدر بأغلبية الثلثين ، أما قراراته بشأن المسائل الإجرائية فتصدر بالأغلبية العادية . أما الأمانة العامة ، فهي الجهاز الإداري المنوط به تسيير كافة أعمال الجامعة ، وتتكون الأمانة من أمين عام وأمناء مساعدين وعدد كافٍ من الموظفين ، ويتم تعيين الأمين العام – بموافقة مجلس الجامعة – بتعيين الأمناء المساعدين والموظفين الرئيسيين ومنذ إنشاء الجامعة وحتى الآن تولى منصب الأمين العام خمس شخصيات عربية هي : عبد الرحمن عزام ، عبد الخالق حسونة ، محمود رياض ، الشاذلي القليبي ، عصمت عبد المجيد .

أما اللجان الدائمة ، فقد أشارت إليها المادة (4) من الميثاق وذلك بهدف المعاونة في تحقيق الأهداف التي أنشئت الجامعة من أجلها ، وهي ما أشبه ما تكون بالأجهزة الفرعية التابعة لمجلس الجامعة ، وبذلك فهي تختلف عن المنظمات المتخصصة بالنظر إلى أنها لا تتمتع بالشخصية القانونية الدولية المستقلة ، وهذه اللجان عديدة ، ومن أمثلتها: اللجنة السياسية ، اللجنة القانونية ، اللجنة الاجتماعية ، اللجنة الثقافية … والحق أن الكثير من هذه اللجان فَقَد مسوِّغ وجوده خاصة بعد التوسع في إنشاء منظمات عربية متخصصة مرتبطة بالجامعة . منظمة الوحدة الأفريقية

قامت منظمة الوحدة الأفريقية بموجب ميثاق أديس أبابا الذي جرى التوقيع عليه في 25 مايو آيار عام 1963 في مؤتمر أفريقي كبير ضم رؤساء الدول الأعضاء والحكومات الأفريقية المستقلة حتى ذلك التاريخ ، وسبق إبرام الميثاق في أديس أبابا ظهور مجادلات أفريقية حادة حول ما يجب أن يكون عليه شكل المنظمة الجديدة ، وقد تفرعت المجادلات حول هذا الموضوع في عدة اتجاهات .

كان هناك أولاً الاتجاه الذي تزعمه الرئيس الغاني كوامي نُكروما ، والذي دعا إلى تنفيذ الوحدة الفورية لدول أفريقيا بإقامة دول إفريقية فيدرالية تندمج فيها كل الكيانات السياسية الأفريقية القائمة ، فالوحدة الأفريقية الفورية في رأي نُكروما كانت وحدها دون سواها ، الأداة الفعالة نحو محاربة الاستعمار في مختلف صوره ومظاهره ، كما كانت الحل لمشكلات القارة السياسية ، وأبرزها مشكلة الحدود .

قوبل هذا الاتجاه الوحدوي بمعارضة قوية من قبل أكثرية الدول المشتركة في المؤتمر بحجة أنه لم يكن واقعياً بدرجة كافية ، كما أنه تجاهل الصعوبات الجمة التي كانت تقف في طريق التوحيد السياسي لقارة ضخمة كالقارة الأفريقية بكل اختلافاتها العرقية واللغوية والاجتماعية … الخ . فضلاً عن أن تنفيذ الوحدة الفورية كان يتعارض مع رغبة الدول الأفريقية الحديثة الاستقلال في المحافظة على سيادتها الكاملة ، وإذا كان ثمة حاجة لتحقيق شكل ما من أشكال الوحدة فإن ذلك يجب أن يتم تدريجياً وعلى قدر ما تسمح له الظروف .

كذلك شهد المؤتمر جدالاً حاداً بين أنصار قيام تجمعات إقليمية متعددة في نطاق القارة الأفريقية وهو الاتجاه الذي تزعمه رئيس جمهورية ليبريا وبين من نادى بمنظمة واحدة لكل القارة ، وهو الاتجاه الذي أبرزه وتحمس له كل من عبد الناصر وهيلاسلاسي ونُكروما ، وغيرهم من القادة الأفريقيين .

ومن خلال هذه المحاولات برز في النهاية الاتفاق الداعي إلى إنشاء منظمة تقوم على قاعدة التعاون الاختياري بين الدول الأعضاء مع احتفاظ كل منها بسيادتها . حدد ميثاق أديس أبابا أهداف منظمة الوحدة الأفريقية ، بأنها العمل على تقوية وحدة أفريقيا وتحقيق تضامنها بطريقة تسمو على جميع الخلافات العنصرية والقومية وتضمن رفاهية الشعوب الأفريقية وكذلك تنسيق وتعزيز التعاون بين دول المنظمة ، والدفاع عن سيادة هذه الدول وسلامة أراضيها واستقلالها ، والتصدي للاستعمار بجميع صوره في القارة الأفريقية ، وتنسيق السياسات العامة لدول المنظمة في أمور التعاون السياسي والدبلوماسي والثقافي والتربوي ، وكذلك في نواحي النقل والمواصلات والصحة والدفاع والأمن .

أما عن المبادئ التي يتشكل منها الإطار العام للمنظمة فقد حددها ميثاق أديس أبابا في أنها تتضمن المساواة في السيادة بين جميع الدول الأعضاء ، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول ، والدعوة إلى احترام سيادة كل دولة وسلامة أراضيها والتسوية السلمية للمنازعات عن طريق التفاوض أو الوساطة أو التوفيق أو التحكيم ، والالتزام الكامل بتحرير الأراضي الأفريقية الواقعة تحت نير الاستعمار وأخيراً التأكيد على مبدأ عدم الانحياز إزاء جميع الكتل الدولية .

وفيما يتعلق بأمر العضوية في منظمة الوحدة الأفريقية ، فقد نص الميثاق على  أفريقية مستقلة ذات سيادة الحق في أن تصبح عضواً في هذه المنظمة ، وحدد الميثاق الصفة الأفريقية تحديداً جغرافياً أيديولوجياً ، بحيث تنصرف لكل دول القارة الأفريقية ومدغشقر والجزر المجاورة لها ، شريطة التزام هذه الدول بمبادئ المنظمة ، ويترتب على ذلك مثلاً ، أن عضوية المنظمة لا تكون مفتوحة لتلك الدول الأفريقية التي لا تؤمن بسياسة عدم الانحياز ،أو تلك التي تمارس سياسات التمييز العنصري ، وقد استخدم هذا المعيار الأخير – أي المعيار الأيديولوجي – في قبول كل الدول الأفريقية ، عدا جنوب أفريقيا المشهورة بانتهاج سياسة التفرقة العنصرية "الأبارتهيد" التي تناهض القيم والأخلاقيات الدولية ، فضلاً عن انتهاك المواثيق والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان .

ويتألف الهيكل النظمي لمنظمة الواحدة الأفريقية من الأجهزة الآتية :-

(1)     مؤتمر رؤساء الدول والحكومات : وهو الجهاز الأعلى للمنظمة ، ويقوم بمناقشة المسائل ذات الأهمية المشتركة لأفريقيا بغرض تنسيق السياسة العامة للمنظمة ، وله حق إعادة النظر في الكيفي التي تتكون منها أجهزة المنظمة وأوجه نشاطها ، وكذلك نشاط الوكالات المتخصصة التي قد تنشأ وفقاً لأحكام الميثاق ، ويجتمع المؤتمر مرة واحدة على الأقل كل عام بناء على طلب أية دولة وموافقة أغلبية الدول الأعضاء ، كما يجتمع في دورات غير عادية ، ويعتبر الاجتماع صحيحاً إذا حضره ثلثا أعضاء المنظمة ، ويستثنى من ذلك المسائل الإجرائية إذ يكتفى فيها بالأغلبية المطلقة .

(2)     مجلس الوزراء : ويضم وزراء الخارجية ، أو أي وزراء آخرين تعينهم حكوماتهم ويجتمع المجلس مرتين على الأقل في العام ، كما ينعقد في دورات يغر عادية بناء على طلب أية دولة عضو وموافقة ثلثي الأعضاء ، ومجلس الوزراء مسؤول أمام مؤتمر الرؤساء ، ويعهد هذا الأخير إليه بالأعمال التحضيرية لاجتماعاته ، كما يقوم بدراسة أي مسائل يحيلها إليه المؤتمر وينفذ قراراته ، ويختص مجلس الوزراء كذلك بتنسيق أوجه التعاون الأفريقي طبقاً لتوجيهات رؤساء الدول والحكومات ، ويكون لكل عضو في مجلس الوزراء صوت واحد ، وتصدر قرارته بالأغلبية المطلقة .

(3)     الأمانة العامة : وهي الجهاز الإداري لمنظمة الوحدة الأفريقية وتضم الأمين العام والأمناء المساعدين وعدداً مناسباً من الموظفين ، ويعين مجلس رؤساء الدول والحكومات الأمين العام كما يعين الأمناء المساعدين أما الموظفون الآخرون ، فيعينهم الأمين العام وفق اللوائح التي يضعها مؤتمر الرؤساء ، وقد اختيرت أديس أبابا مقراً للمنظمة وأمانتها العامة.

(4)     لجنة الوساطة والتوفيق والتحكيم : وقد أنشئت هذه اللجنة تنفيذاً للمبدأ الذي نص عليه ميثاق أديس أبابا ، والذي بموجبه تعهدت الدول الأعضاء في المنظمة بتسوية منازعاتها بالطرق السلمية ، وقد نص البروتوكول الذي ووفق عليه في مؤتمر القاهرة في عام 1964 ، على تشكيل هذه اللجنة من واحد وعشرين عضواً يختارهم مؤتمر الرؤساء من أصحاب الكفاءات الذين ترشحهم حكوماتهم وذلك لمدة خمس سنوات، وتختص اللجنة بتسوية المنازعات التي تقوم بين أعضاء المنظمة ، وتحال المنازعات إليها إما بوساطة أطراف النزاع أو أحدهما أو بوساطة مجلس الوزراء أو مؤتمر الرؤساء .

(5)     اللجان المختصة : نص الميثاق على حق مؤتمر الرؤساء في إنشاء لجان متخصصة حسب الضرورة ، وتتألف كل لجنة من الوزراء المعينين أو من أي وزراء آخرين أو مندوبين تختارهم حكوماتهم ، وتباشر اللجان أعمالها تحت إشراف مجلس الوزراء وفقاً للأنظمة التي يضعها المجلس ، وتعتبر قراراتها بمثابة توصيات مرفوعة له ، وقد نص الميثاق على إنشاء اللجان الآتية :

اللجنة الاقتصادية والاجتماعية ولجنة التربية والثقافة واللجنة الصحية ولجنة الشؤون العلمية ولجنة الدفاع ، كما أنشئت فيما بعد بعض لجان أهمها ، لجنة تنسيق المعونات للحركات التحريرية في أفريقيا ، وتتولى الإشراف على تقديم المساعدات للحركات الوطنية في الأقاليم الأفريقية غير المستقلة وتوحيدها .

 الدبلوماسية (تعريف)

إن لفظ "دبلوماسية" إغريقي الأصل ، انتقل إلى اللاتينية ومنها إلى اللغات الأوروبية الحية ثم إلى اللغة العربية ، وهو في أصله الإغريقي القديم يعني الوثيقة المطلوبة التي يبعث بها أصحاب السلطة إلى بعضهم البعض في علاقات رسمية ، ولذلك كانت تعطى لحاملها امتيازات معينة . وقد استعملت كلمة دبلوماسية خلال القرون الوسطى للدلالة على دراسة الوثائق وترتيبها وحفظها ، ولم تأخذ هذه الكلمة معناها المتعارف الآن ، أي لوصف البعثات التي ترسلها الدول إلى دول أخرى لتمثيلها والتفاوض باسمها إلا في القرن الثامن عشر ، وقد انتشر هذا المعنى خاصة بعد مؤتمر فيينا عام 1815 حيث ظهرت كوادر دبلوماسية متميزة عن رجال الحكم وانتشرت ظاهرة التمثيل الدبلوماسي الدائم والمقيم ولذلك يطلق أحياناً لفظ الدبلوماسية للدلالة على المهنة الدبلوماسية أي العمل في السلك الدبلوماسي . وأحياناً أخرى يطلق لفظ دبلوماسية للدلالة على الصفات التي يتحلى بها الإنسان لتسوية المشكلات الطارئة أو القضايا المستعصية ، مثل : الفطنة ، اللباقة ، الحنكة ، المهارة ، الكتمان … الخ ، والدلالة على المكر والدهاء والدسيسة والتملق ، وذلك استناداً إلى خصائص الدبلوماسية البيزنطية ودبلوماسية الدويلات الإيطالية في مطلع العصور الحديثة والتي عبَّر عنها ميكيافيللي في كتابه "الأمير" . ويحدث أحياناً تداخل بيم مفهوم السياسة الخارجية والدبلوماسية ، فيستخدم هذا المصطلح الأخير للدلالة على السياسة الخارجية لدولة ما أو لمجموعة من الدول فيقال دبلوماسية فرنسا ، دبلوماسية مجلس التعاون الخليجي … الخ . وأحياناً يطلق لفظ دبلوماسية للدلالة على نمط معين من أنماط العلاقات الدولية فيقال : دبلوماسية توازن القوى ، دبلوماسية عدم الانحياز … الخ . ولا شك أن هناك تداخلاً بين "الدبلوماسية" من جانب والسياسة الخارجية للدول "والعلاقات الدولية" ككل من جانب آخر ، ولا شك أن هناك ارتباطاً بين الدبلوماسية والحروب وأساليب القهر بصفة عامة أيضاً ، هذا التداخل يفسر اختلاف المهتمين بالموضوع حول مفهوم الدبلوماسية .

ولعل أكثر التعريفات شمولاً ودقة وفي الوقت نفسه هو التعريف الذي وضعه فيليب كاييه بأن الدبلوماسية هي "الوسيلة التي يتبعها أحد أشخاص القانون الدولي لتسيير الشؤون الخارجية بالوسائل السلمية ، وخاصة بطريقة التفاوض" ، هذا التعريف لم يختص الدول بالدبلوماسية ، فجميع أشخاص القانون الدولي الأخرى -  لا سيما المنظمات الدولية – تمارس الدبلوماسية ، كما أن التعريف لم يدخل في مسائل فرعية مثل تعداد مهام الدبلوماسية ، فكل تعداد لابد وان يتسم بالنسبية – كما أنه لا يشترط الاحتراف أخذاً في الاعتبار قيام غير الدبلوماسيين المحترفين (مثل رجال السياسة والحكمة والخبراء) بأهم وظيفة من وظائف الدبلوماسية ألا وهي التفاوض .

من التعريف السابق يتضح الفارق بين الدبلوماسية والسياسة الخارجية ، فالسياسة الخارجية هي النهج الذي تتبعه الدولة في علاقاتها مع الدول الأخرى ، أما الدبلوماسية فهي مجرد أداة أو وسيلة من بين وسائل أخرى ، لتحقيق أهداف السياسة الخارجية ، عن التفرقة بين النهج والأداة لا تنفي التفاعل المطرد بينهما.

فالدبلوماسية هي إذن أسلوب تختار الدولة بمقتضاه أنسب وسائل الاتصال – وليس فقط التفاوض – بما يحقق أهداف الدولة الخارجية ، ولذلك يقال إن الدبلوماسية "فن" يتطلب إعمال الفطنة واللياقة لتحقيق أكبر قدر ممكن من مصالح الدولة القومية في تعاملها مع الدول الأخرى ، فهي إذن فن الممكن .

ولكن الدبلوماسية ليست فناً فحسب ، بل هي عِلم أيضاً أصبح له تاريخه العريق وقواعده المستقرة فيما يعرف "بالقانون الدبلوماسي" ، إن تلك القواعد القانونية التي تنظم تمثيل مصالح الدول وأصول التفاوض فيما بينها ، وهي قواعد عرفية في معظمها وإن دخلت مرحلة التقنين مثل اتفاقية فيينا لعام 1961 بشأن العلاقات الدبلوماسية واتفاقية فيينا لعام 1963 بشان العلاقات القنصلية ، واتفاقية 1969 بشأن البعثات الخاصة ، إضافة إلى اللوائح الداخلية التي أقرتها المنظمات الدولية لتحكم أساليب العمل الدبلوماسي في إطارها (الدبلوماسية البرلمانية) فضلاً عن المعاهدات الثنائية العديدة بين الدول أو بين الدول والمنظمات الدولية (اتفاقيات المقر) ويطلق على جميع هذه القواعد اصطلاح "النظم الدبلوماسية" التي تمثل الأطر القانونية لممارسة العمل الدبلوماسي .





كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية

 عضو  والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية

0 تعليقات:

إرسال تعليق