بعيداً عن تأييد السيسي في الإنتخابات القادمة من عدمه ، أو تأييد حمدين من عدمه ، أو حتي مقاطعة الإنتخابات الرئاسية من الأصل احتجاجاً أو إمتعاضاً أو عدم اكتراث بما يجري في مصر من أحداث . لابد من وضع خطوط فاصلة بين المواقف حتي يتبين لنا فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، فهناك من باع لنا الوهم باسم الدين ، وهناك من باع لنا الوهم باسم الثورية ، وهناك من باع لنا الوهم باسم الليبرالية . وقد اكتشف الشعب المصري هذا الوهم بنفسه بعيداً عن الوصايات الفكرية أو النظريات السياسية ، أو السفسطات البيزنطية . فهو قد اكتشف الوهم الذي دخل عليه بأردية الدين ، بعد أن اكتشف طائر / مشروع / النهضة الإخواني وهو أقرب إلي طائر الرخ الأسطوري . فما كان منه إلا أن أطاح به ، وبمن يمثله . واكتشف بنفسه ثوار الإستديوهات التلفزيونية الذين ما نزلوا الميادين إلا بقصد التصوير لإثبات مواقف مدفوعة الثمن . فأسقطهم من نظره قبل أن يكتشف التسريبات التي أسقطت وريقة التوت التي كانوا يتسربلون بها ، فبانت سوءاتهم ، وتحددت مواضعهم اللائقة بهم . وأظن أن هناك من يبيع لنا الوهم باسم الليبرالية ، وهم كُثْر ، وأظن أن الشعب المصري قد اكتشفهم ، أو قارب علي اكتشافهم . رغم أن العناوين التي يلتجئون إليها ، لترويج بضاعة الوهم ، عناوين براقة لامعة خلابة بطبيعتها ، فهم يروجون لبضاعتهم تحت عناوين حقوق الإنسان ، والحريات العامة ، والديمقراطية . ويحاكمون الأوضاع القائمة بهذه العناوين في محاولة لتزييف الوعي الجمعي . وهي عناوين إن بدت واضحة ومعروفة للبعض ، إلا أنها غائمة المعني لمعظم الناس ، ولا يدركون من أمرها سوي أنها أمور جيدة ، وهي لصالح المجتمع ، وينبغي السعي للحصول عليها . ولابد من الوقوف علي هذه المصطلحات حتي يتسني الوقوف علي جودة بضاعة الوهم المعروضة من الليبراليين . فالليبرالية تعني الحرية ، وهي مذهب يري حرية الأفراد والجماعات في اعتناق ما يشاؤون من أفكار والتعبير عنها بشكل مطلق . ويرتبط بهذا المصطلح مصطلحين آخرين هما : الديمقراطية ، والرأسمالية . والديمقراطية تعني ببساطة حكم الشعب بالشعب وللشعب . وفي التطبيق العملي لها : اتاحة فرصة اختيار الحاكم ، ونواب الشعب للشعب ، على أساس ما يتقدم به كل منهم من رؤى، وعرض كافة القرارات المصيرية على نواب الشعب للتصويت عليها ، وإقرارها أو رفضها . أما الرأسمالية فهي الحرية في المجال الإقتصادي ، وفقاً للمبدأ الفرنسي الأشهر : " دعه يعمل ، دعه يمر " . ولا يتبقي سوي مصطلح حقوق الإنسان ، وهو في أبسط معانيه يعني الحقوق والحريات المستحقة لكل شخص لمجرد كونه إنساناً . ولا يوجد تعريف محدد لهذا المصطلح لأن الحقوق والحريات تختلف من مجتمع إلي آخر ، وفي ذات المجتمع من وقت لآخر ، ومن ثقافة إلي أخري ، وفي الثقافة الواحدة من وقت إلي آخر . وأن لا أسوق هذه التعريفات من قبيل التهوين من شأنها ، أو التقليل من أهميتها ، وإنما لكي تكون واضحة في الأذهان حال وضع الخطوط الفاصلة بين الوهم والحقيقة . علي اعتبار أن الليبراليين يحاكموننا وفقاً لمقتضيات وجودها من عدمه . والمعضلة التي تواجه السادة الليبراليين الذين نعنيهم في هذا المقال ، هي أنهم لا يقبلون ما حدث في ثورة يونية وما تلاها من أحداث ، علي اعتبار أنه انقلاب علي الديمقراطية بما تعنيه من مشاركة شعبية ، وعدالة اجتماعية ، وسيادة القانون ، لصالح حكم سلطوي فاشي ، يسعي لإنتاج مقايضة الخبز والأمن بالحرية والكرامة . والإنقلاب علي الحكم المدني لصالح الحكم العسكري . وحتي نضع حداً فاصلاً هاهنا لابد من تذكير الليبراليين بمقولاتهم ـ المتداولة في أدبياتهم ـ والتي مؤداها أن الحكم الديني لا يمكن أن يكون إلا حكماً فاشياً . ومن ثم فهم في حالة خصومة مع أنظمة الحكم الدينية من هذا المنطلق . والفاشية لفظ يطلق على كل مَن يتبنى أو يعبر عن آراء منافية أو مخالفة للمنظومة القيمية للأيدلوجية الليبرالية أو مؤسساتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية . والحرية الشخصية في الأنظمة الفاشية مقيدة تقييداً شديداً . كما أنها تفرض رقابة صارمة علي المطبوعات ، وتهيمن علي الصحف ووسائل الإتصال ، كما أنها تهيمن علي النشاط الإقتصادي الخاص . وتركز السلطة في يد الطبقة الممتازة . إذن فالقول بأن ما حدث في 30 يونية هو انقلاب علي الديمقراطية هو قول تعوزه الدقة . فلم يكن النظام الإخواني نظاماً ديمقراطياً وفقاً للمعايير الليبرالية التي يعتنقها السادة الليبراليين . والوقائع الدالة علي ذلك أكثر من أن تحصي ، وآخرها الإعلان اللادستوري الذي أصدره مرسي ، وكان بداية الشرارة في الثورة علي النظام الذي يمثله . وعلي مستوي الممارسة العملية نجد أحداث الإتحادية ، وأحداث مكتب الإرشاد . التي مثلت أقسي وأقصي انتهاك لحقوق الإنسان . فهل يحق بعد ذلك للسادة الليبراليين إقناع الناس بأن ما حدث هو إلا انقلاب علي نظام ديمقراطي مدني ؟ . أم أن قناعة الليبراليين بنظام الإخوان هي وليدة إقتناع أمريكا بهذا النظام ، والدفاع عنه ، وذلك بعيداً عن اتهامات الخيانة والعمالة ، وإنما فقط تبعية فكرية ، تبعها تبعية في التوجه ، ومن ثم إبتلاع فاشية الإخوان كما ابتلعها الأمريكان ؟ . ولكن الأمريكيين لديهم أسبابهم المتعلقة بمصالحهم الوطنية التي تدفعهم إلي ابتلاع هذه الفاشية . فما هي الأسباب الدافعة لليبراليين لابتلاعها ؟ . أم أن مهاجمة ما حدث في يونيه لا علاقة له بالدفاع عن الإخوان ، وإنما يتعلق بالخلفية الفكرية لليبراليين تجاه الحكم العسكري ؟ . فالفاشستية الدينية تستوي عند الليبراليين مع الفاشستية العسكرية . إلا أننا لم نسمع لهذه الأصوات من رجع بعد ثورة يناير ، حين آلت إدارة المشهد السياسي إلي المجلس العسكري . بما يعني أن هناك ازدواجية في المعايير بالتطبيق علي الحالة المصرية في الثورتين . تتضح هذه الإزدواجية في الهجوم الضاري الذي تشنه بعض الأقلام الليبرالية علي ما حدث في يونية . فقد اعتبروا أن ما حدث هو انقلاب عسكري ـ كما ذهب الأمريكان والغرب ـ والإنقلاب مدعوم من أصحاب الأعمال المهيمنون علي المصالح الإقتصادية والمالية ، سواء عن طريق وسائل الإعلام المملوكة لهم ، أو الأحزاب التي يسيطرون عليها . والإنقلاب مدعوم كذلك من كتاب وسياسيين وإعلاميين وظفوا أقلامهم وألسنتهم ووجوهم لتشويه ثورة يناير من ناحية ، وتشويه مطالب الحرية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية من ناحية أخري ، ونشر خطاب الكراهية والتخوين والعقاب الجماعي من ناحية ثالثة . والواقع أن رجال الأعمال والكتاب والسياسيين والإعلاميين في ثورة يناير هم ذاتهم من كانوا في ثورة يونية . كل ما تغير في المشهد أن هؤلاء الليبراليين الذين تصدروا الشاشات الفضية في ثورة يناير قد تزايلت عنهم الأضواء ، ووجدوا أنفسهم وقد تواروا في الظل علي نحو لم يحتملوه من ناحية ، وأن مهاجمة هؤلاء باعتبارهم انقلابيين يتوافق مع توجههم الفكري الذي استوردوه من أمريكا والغرب . تلك هي المشكلة . فما حدث في يونية أفضل مما حدث في يناير علي مستوي الفكر والتطبيق علي الأرض ، لأن يونية عُلقت في رقاب رئيس مدني وحكومة مدنية لقيادة الفترة الإنتقالية . ولو كان لهم أن ينتصروا بما يتفق وليبراليتهم فلابد أن ينتصروا لثورة يونية . ولكنهم انتصروا لنار الإخوان علي جنة السيسي . وقد تركزت دعايتهم المضادة علي توصيف ما حدث باعتباره انقلاباً عسكرياً . والواقع أن هناك من يحرص علي وضع المجتمع المصري في مواجهة مع قواته المسلحة . وأن وجود حاكم صاحب خلفية عسكرية يعني هيمنة المؤسسة العسكرية علي الحكم . وهذا يعني بالضرورة انتقاص من حقوق وحريات وكرامة المجتمع المصري . ولو أن هؤلاء الناس كانوا منصفين مع أنفسهم ، ومع الشعب ، ومع المؤسسة العسكرية لما ذهبوا هذا المذهب . لأن وجود حاكم صاحب خلفية عسكرية لا يعني بالضرورة اهدار حقوق الإنسان ، والحريات العامة ، وقيم الديمقراطية . ولو أنعموا النظر في خلفيات الدول التي نشأ فيها اتجاههم الفكري ، ونما ، وترعرع لوجدوا أن من بين حكامهم من كان صاحب خلفية عسكرية . فأمريكا أم الليبرالية حكمها 33 رئيساً له خلفية عسكرية من أصل 44 رئيساً ، كان أشهرهم : جورج واشنطون ، وإيزنهاور ، وآخرهم جورج بوش الأب . وفي انجلترا جاء تشرشل من خلفية عسكرية ، وكذا شارل ديجول في فرنسا . ولم يقل أحد من مفكري الليبرالية في هذه الدول ما قال به أتباعهم في بلادنا . ولامحل هنا للمزايدة بين طرفي المعادلة . فإذا كان ذلك كذلك فإن ما يبيعه لنا السادة الليبراليين من وهْم فهو وهْم يخصهم هُم ، ويتخاصمون به مع مذهبهم . ولا أدري كيف يزايد أصحاب هذا الفكر علي الشعب المصري الذي خرج علي نظام فاشي مستنجداً بمؤسسته العسكرية بما اضطر معه الغرب إلي توصيف ما حدث في مصر بأنه انقلاب شعبي .
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة
(
Atom
)
0 تعليقات:
إرسال تعليق