أمام حافلات أممية خضراء، اصطف مسلحو حمص ليغادروا آخر معاقلهم في قلب عاصمة الثورة، وفي أيمانهم بنادق محشوة بالرصاص الحي، لكنها لا تطلق النار في أي اتجاه، بينما تمسك شمائلهم بتلابيب ما تبقى لهم من حطام معاناة استمرت ثلاثة أعوام ونيف. لكن المواطنين الذين قدموا إلى أشلاء مدينتهم القديمة سيرا على الأحزان، كانوا يسيرون في الاتجاه المقابل في رسالة لا تخطؤها عين متابع للمأساة السورية. المدهش أن أحدا منهم لم يلوح أو يلقي نظرة وداع على الفارين إلى آخر معاقلهم في الشمال.
كان البائسون القادمون إلى مساقط أحزانهم حفاة كيوم أخرجتهم ثورتهم يتحسسون معاطفهم ليطمئنوا على هويات كانوا على استعداد لمقايضتها برغيف خبز جاف قبل الانفراجة الأخيرة، لا لأنها تعني المواطنة، بل لأنها تسمح لهم بتجاوز نقاط التفتيش التي نصبها جيشهم غير الحر عند حلوق المدن وفوهات القرى. ولأنهم كانوا واثقين من فناء ماضيهم، حمل العائدون في جيوبهم بعض الصور التي تؤكد انتماءهم إلى جغرافيا الوطن وطوبوغرافيا الزيت والزعتر.
اليوم تضع حرب البسوس في حمص أوزارها، وينكس الربيع الشامي هامته، ويستبدل المواطنون الأمن بالحرية، ويبيعون قناديل الأحلام بكسر الخبز اليابس. اليوم يعود مواطنو حمص إلى قرى مهدمة لا تميز فيها العين إلا تلال المنازل الدارسة، وأخاديد بعرض المدينة، وأنفاقا بحجم الميادين .. وبؤسا لا حصر له. لكن البقاء فوق أطلال بيوتهم خير من الوقوف عند أسلاك الجوار المسومة كأشواك قنفذ بري. وهم مستعدون للبقاء في منازلهم حتى يصلح العطار ما أفسد الدهر.
"الأرض مقابل الفرار،" هكذا تنص اتفاقية الأمر الواقع، وبموجبها، ينسحب ألفا مسلح معارض إلى معاقلهم الأخيرة في شمال حمص، ليقوم المسلحون هناك بإطلاق سبعين مخطوفا من أبناء حمص واللاذقية الموالين لبشار، ويخففوا قبضات حصارهم الخانقة على قريتين شيعيتين في الشمال. وليبقي القتال على ما هو عليه في انتظار ما يمكن أن تسفر عنه الوساطات الأممية بين إخوة كرامازوف. لكن شيئا من الخوف المبرر يسكن معاطف العائدين على الجانبين من تحول الحدود الوهمية بين أطراف الوساطة إلى أسلاك شائكة تضرب وحدة الأرض والتاريخ في خصره الحمصي المتمرد.
لا تثريب على العائدين إلى بيوتهم النخرة إذن، لكن عليهم أن يتوخوا الحذر، وأن لا يغامروا بالتريض في ساحاتهم المفخخة حتى تخرج الأرض على يد الوحدات الهندسية متفجراتها، ويغادر من تبقى من حاملي السلاح المقاوم. لكن هذا الأمر لن يطول إن صدق وعد طلال برازي محافظ المدينة العتيقة. فقد بدأ تمشيط الحميدية بالفعل بمجرد إخلاء جيوب المقاومة، أو هكذا يقول.
اليوم يعود المشردون من أبناء حمص إلى معاقلهم المهدمة وهم يلوحون بإشارة النصر، لكن أحدا لا يدري أي نصر حقق العائدون وعلى من؟ وفي مشهد ميلودرامي مكرور، يرفع العائدون إلى القهر صور زعيمهم المفدى الذي طاردهم حتى آخر حدود الوطن، ليعيدهم إلى عصمته قبل بدأ الانتخابات الرئاسية، ليدلوا بأصواتهم الحرة في صناديق نزيهة تحدد مستقبل سوريا عقودا قادمة.
عبد الرازق أحمد الشاعر
0 تعليقات:
إرسال تعليق