Ads

مصير أول اختراع‏!‏

منذ أعوام قليلة رحل عن عالمنا في هدوء أول مخترع مصري وعربي في العصر الحديث‏.‏ ولأنه من أهل العلم فقد جاء رحيله مثل حياته دون صخب ودون ذكر‏,‏ ربما ليعرف شباب العلماء والمخترعون والمشتغلون بالبحث العلمي في مصر المصير الذي ينتظرهم ماداموا قد اختاروا هذا الطريق‏.‏ فكم من القراء يعرف اسم هذا المخترع ؟ ومن يكون ذلك الرجل؟

إنه المهندس أحمد محمود الشايب‏(1921‏ ـ‏2005)‏ الملقب بشيخ المخترعين المصريين ومؤسس جمعية المخترعين والمبتكرين المصرية عام‏(1984)‏ ورئيسها لمدة خمسة عشر عاما‏,‏ وقبل ذلك هو صاحب أول براءة اختراع مصرية صدرت في‏19‏ يونيو سنة‏1951‏ عن اختراع طلمبة ماصة كابسة ذات إطار مطاط يقوم مقام المكبس في طلمبات المياه العادية‏,‏ ولا تحتاج لمجهود عضلي كبير لتشغيلها لكبر الرافعة المستعملة في ضغط وبسط الإطار المطاط ولانعدام عوامل المقاومة والاحتكاك‏.‏

وإلي جانب هذا الاختراع كان لشيخ المخترعين الكثير من الاختراعات في العديد من المجالات المختلفة كالطاقة الشمسية والآلات الزراعية وحنفيات المياه‏,‏ سجل منها‏24‏ اختراعا في مصر وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية ومنها مجمع لتسخين المياه بالطاقة الشمسية يمتاز بوجود خزان المياه وألواح امتصاص الحرارة في صندوق واحد مصنوع من الفيبرجلاس‏,‏ وذلك بدلا من وجود خزان منفصل في مجمعات تسخين المياه المماثلة‏.‏ ومن هذه الاختراعات أيضا آلة للري بطريقة الإزاحة تمتاز بسهولة إنتاجها وتجميعها وصيانتها وسهولة نقلها للحقل وتثبيتها علي قنوات الري‏.‏

وبالاضافة لهذه الاختراعات كانت للمهندس أحمد الشايب أبحاث وتجارب في مجال زيادة إنتاج المحاصيل الحقلية‏,‏ حيث توصل في الخمسينيات إلي رفع إنتاجية الفدان إلي‏40‏ إردبا ذرة و‏10‏ أرادب فولا و‏10‏ قناطير قطنا و‏22‏ طنا طماطم‏.‏ وتمكن من تحميل محصولين للخضر مع محصول القطن في وقت واحد‏,‏ حيث كان يزرع القطن بمعدل ثمانية خطوط في القصبتين بدلا من اثني عشر خطا كما هو سائد‏.‏ وكان من أوائل من استخدموا طريقة رش الأسمدة في مصر‏.‏

وقد حصل المهندس أحمد الشايب علي عدة جوائز من جهات مختلفة منها جائزة أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مجال الطاقة الجديدة والمتجددة سنة‏1985,‏ وثلاث جوائز من الهيئة العربية للتصنيع في التسعينيات‏.‏

وليس القصد من هذا الحديث تقديم سيرة لحياة شيخ المخترعين‏,‏ لكن هدفي هو عرض صورة حية للمشكلات والمعوقات التي يلقاها من يتصدي للاشتغال الجاد بالبحث العلمي في مصر‏,‏ فالبحث العلمي في مصر يمر بأزمة كبيرة‏,‏ مظاهرها متعددة تتراوح بين ضعف التمويل الحكومي لمختلف مؤسسات البحث العلمي‏,‏ وبين الإحباط الذي يعم أوساط معظم ـ إن لم يكن كل ـ المشتغلين بالبحث العلمي في مصر‏.‏

والمشكلة الكبري التي تواجه المخترعين في مصر تتمثل في تسويق اختراعاتهم وتنفيذها‏,‏ فقد حاول أحمد الشايب وكثيرون من المخترعين تصنيع اختراعاتهم في مصر‏,‏ ولكن أغلقت أمامهم كل أبواب المستثمرين‏.‏ فبالنسبة للمستثمر‏,‏ في ظل الجو السائد في مصر والذي يعمه الركود ويسوده التقليد ويتقدم فيه من لا يقدم علي المبادرة أو يقتحم الجديد‏,‏ يصبح استيراد الآلات والتقنيات الحديثة من الغرب أسهل بكثير وأكثر أثرا وأقل تكلفة من اختراعها وصنعها محليا‏.‏ ولذا كان أحمد الشايب يدعو دوما إلي تغيير شعار صنع في مصر ليكون اخترع وصنع في مصر‏.‏

وفي ختام حديثي لابد أن أشير إلي واقعة واحدة توضح في إيجاز محنة المخترعين في مصر‏.‏ فبعد الاحتفال بمرور ثلاثين عاما علي صدور أول براءة اختراع مصرية‏,‏ أهدي أحمد الشايب النموذج الوحيد لاختراعه‏(‏ الطلمبة‏)‏ لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا‏,‏ وتم وضع النموذج داخل صندوق زجاجي في مدخل الأكاديمية بشارع قصر العيني‏,‏ كنوع من الاحتفاء بأول اختراع مصري في العصر الحديث‏.‏

وبعد مرور عدة سنوات‏,‏ وبعد خلاف بين أحمد الشايب ورئيس مكتب براءات الاختراع في ذلك الوقت حول تعديل قانون براءات الاختراع‏,‏ أزيلت الطلمبة والصندوق الزجاجي من مدخل الأكاديمية لتوضع في المخازن‏,‏ وليعرف أحمد الشايب بعد ذلك‏(‏ حينما حاول استعادة نموذجه الوحيد للطلمبة‏)‏ أنها قد كهنت وبيعت كخردة‏!!‏ نعم أول اختراع مصري في العصر الحديث بيع كخردة‏!!‏ بدلا من أن يوضع في متحف علمي أو يحفظ في مكان لائق‏.‏ وأدعوكم إلي أن تتخيلوا وقع هذا الأمر في نفس شيخ المخترعين‏,‏ وهو الذي أفني حياته لخدمة مصر والبحث العلمي‏,‏ وأترك لكم تقدير فداحة هذه المحنة‏!!‏

جلال أحمد الشايب

0 تعليقات:

إرسال تعليق