ليس هناك ما يدعو إلي الإستغراب والدهشة من موقف حمدين صباحي بشأن تصريحاته حول محاكمة المشير السيسي حال فوزه في الإنتخابات الرئاسية القادمة . غير أنه قد ارتقي بها مرتقاً صعباً هذه المرة ، لا لأن المشير السيسي فوق رأسه ريشة تمنحه مسوغاً للتصرف دون محاسبة أو مساءلة ، فليس هناك أحد فوق المساءلة سوي المجنون ، وإنما لأن السيد حمدين صباحي مجرد مرشح للرئاسة من ناحية ، ولأنه حتي لو أصبح رئيساً فإنه لا يملك إصدار قراراً جمهورياً بمحاكمة أحد من ناحية أخري ، لأن هذا الحق هو اختصاص أصيل للنيابة العامة ، ومبدأ الفصل بين السلطات يحول دون السيد حمدين وبين ما صرح به ، وإلا عُد تصرفه تغولاً علي السلطة القضائية ، وانتقاصاً من استقلالها . والقول بمحاكمة المشير السيسي ، تصريحاً أو تلميحاً ، يلقي بظلال من المسئولية علي عاتقه ، عن جرائم لم يرتكبها ، ولم يشارك في ارتكابها ، ولم يحرض عليها ، لا باعتباره عضواً بالمجلس العسكري ، ولا باعتباره وزيراً للدفاع . وليس هذا من قبيل الدفاع عن المشير السيسي ، ولا من باب الذود عنه ، وإنما من باب استبيان المواقف ، وتحسس مواضع الأقدام . فأيام كان عضواً بالمجلس العسكري ، كان عضواً بصفته مديراً للمخابرات الحربية . صحيح أن المجلس يعد مسئولاً عن تصرفاته مسئولية تضامنية ، إلا أن الجريمة تبقي شخصية كذلك وبنفس القدر . ليس معني ذلك إعفاء المجلس العسكري، من مسؤليته عما جري في عهده ، إن ثبت بحكم قضائي نهائي بات مسئوليته عن ذلك . ولكن معناه أن يدور الكلام في فلك التعميم إن كان للكلام ضرورة ، وأن يبقي في إطار التصرف القضائي ولا يتعداه إلي غيره . فما بالنا لو كان السيد صباحي يعلم كشأننا جميعاً ، وكما أُعلن في حينه ، أنه كان هناك طرفاً ثالثاً في المعادلة ، يمثل الطرف الفاعل في القضية ، هذا الطرف الثالث كان يتغيب عن مظاهرات الإخوان ، ومن عُرفوا اصطلاحاً بالتيار الإسلامي ، بينما كان ينشط في غيرها علي نحو لافت ودموي . ولا ريب أن محكمة الإسماعيلية في حكمها الذي أصدره المستشار الشجاع خالد المحجوب قد كشف جانباً من هذا الشق الغامض في المعادلة . . وما مذبحة رفح ، ومذبحة بورسعيد الأولي والثانية ، إلا دلالة واضحة علي أسلوب من أساليب الضغط الذي كان يمارسه طرف ما علي المجلس العسكري في حينه حتي يسلم السلطة . ولعل أحداث قصر الإتحادية ، وأحداث مكتب الإرشاد ، إبان عهد مرسي ، قد أزاحت الستار قليلاً ، عما كان يجري في الخفاء وراء الكواليس ، في الأيام الخوالي . ولن نأخذ علي السيد حمدين وحزبه أنه قبل المشاركة في اللعبة رغم أنها مغموسة بدماء الشهداء ، سواء بالمشاركة في التحالف مع الإخوان لمجلس الشعب ، أو مشاركته في الإنتخابات الرئاسية . أما إذا كان كلام صباحي يتمحور حول الفترة ما بعد 30 يونية ، فإن السيسي خلال هذه الفترة لم يكن سوي مجرد وزيراً للدفاع من الناحية القانونية . وما قلناه بشأن وجوده في المجلس العسكري ، يصح أن يقال هنا كذلك . زد علي ذلك أن الدماء التي سالت في رابعة والنهضة ، بعد أن ثبت من خلال تقرير لجنة حقوق الإنسان ، أنها قد سالت في خروج فج علي السلطة الفعلية ، وأن هذا الإعتصام لم يكن سلمياً ، وإنما مسلحاً ، بل إنه كان نتوءاً صديدياً متقيحاً ، يستهدف خلق إمارة في قلب العاصمة ، تنازع السلطة القائمة شرعيتها ، حتي يتسني للخارج التدخل في الشأن الداخلي المصري . وأي سلطة عاقلة كان لابد لها من فتح هذه البؤرة ، وتصفيتها تمهيداً لتنظيفها ، فهل تتكافأ هنا الدماء ؟ . القدم السكرية علاجها بترها ، فهل نقتص ممن بترها بدعوي تكافؤ الدماء ؟ . حين نتحدث عن الدماء ، والعدالة الإنتقالية ، لا يصح أن نكافيء بين دمين ، دم سفك في سبيل الواجب والحق وحفظ كيان الدولة والمجتمع ، ودم قاطع طريق يروع المارة ويهدد السلم والأمن وكيان الدولة والمجتمع . ولا ندري كيف سيتصرف السيد صباحي لو جرت مقايضته علي تسليم شرعيته لشرعية مزعومة أسقطها الشعب وإلا تعرض هو والشعب لمخاطر الإرهاب وسفك الدماء ؟ . هل سيسكت حقناً للدماء ، ويسلم البلاد والعباد لعصابة تغتصب إرادته ، وتستلب عقله ، وتسوقه سوق الإبل في الفلاة ؟ . فأي محاكمة تلك التي يتحث عنها السيد صباحي ؟ . وأي دماء تلك التي ينتصر لها ، والإنتصار لإحداها يعني الإهدار للأخري . وبالقطع فإن السيد حمدين قد أفصح عن الدماء التي ينحاز لها بالضرورة ، بإفصاحه عن محاكمته للمشير السيسي . فهو يتحدث وعينه علي الإخوان ، بدليل أنه لا يعارض المظاهرات مطلقاً ، بينما الدولة قد أقرت قانون لتنظيم التظاهرات ، سواء قبلناه أو اعترصنا عليه ، فهو قانون واجب النفاذ ، والطعن علي دستوريته مكفول . ولا يحل للسيد حمدين بصفته الحالية الإعتراض عليه ، والدعوة إلي عصيانه . كما أنه لا يعترض علي إشارة رابعة التي تعني فيما تعني أن ثورة يونيه تمثل انقلاباً علي شرعية الإخوان المزعومة ، بالإضافة إلي قبوله مشاركة الإخوان في الحياة السياسية ، بما يتصادم مع موقف ثورة يونية من الجماعة ، وموقف الدولة منها باعتبارها جماعة إرهابية . ولا أدري كيف يزعم أنه مرشح الثورة مع مواقفه المتناقضة مع ثورة يونيه . ولا كيف يزعم أنه ممثل الثورة في انتخابات الرياسة لمجرد التفاف شرذمة من الشباب حوله ، بينما منافسه تلتف حوله الملايين ابتداءً بمجرد دعوتهم للنزول وتفويضه في محاربة الإرهاب والعنف المحتمل ، ودعوة هذه الملايين له بالترشح للرياسة . وقد كان من اللافت أن السيد حمدين في البداية كانت تصريحاته إيجابية حيال المرشح المنافس ، احتراماً له ، أو تهيباً من شعبيته . ثم بدأ يطلق أفراد حملته كي يناوشوا المشير، ويشاغبوا عليه . وقد كان هذا في اطار المقبول والممكن ، حتي في ظل ما التزمه المشير وحملته من صمت حيال ذلك . إلي أن تفاجأنا به يزعم أن الإخوان سينحازون للسيسي ، وهو كلام لا ينطلي علي أحد ، لأن الجميع يدرك ما يكنه الإخوان للسيسي ، من بغض وكراهية وصلت إلي حد التخطيط لإغتياله . وما وجد صباحي من تخريج لتصريحه ، سوي الزعم أنهم سيفعلون ذلك ، لترسيخ مفهوم بأن ما حدث كان انقلاباً . ولا ريب أنه تخريج مضحك لو جري أخذه بحسن النية ، أما الخبثاء فيذهبون إلي اعتباره بالونة إختبار لإمكانية حشر الإخوان في جملة مفيدة ، تمهيداً لأمر ما . وسرعان ما تكشف هذا الأمر في تصريحاته الأخيرة ، وهي تصريحات تضعه في الجانب الآخر من ثورة يونية ، وما جري خلالها ، وبعدها ، من أحداث . والواقع أنني لم أكن أنتوي تناول تصريحاته بشأن محاكمته للمشير السيسي حال فوزه بالرئاسة ، لأنني إعتبرت ذلك يجري في إطار الحملات الإنتخابية ، التي يشوبها ما يشوبها ، دون أن ينتقص ذلك من قدر أي من المرشحين أو قيمته ، لا للإعتبار الشخصي وحسب ، وإنما لاعتبار أن أحد المرشحين لابد وحتماً أن يكون رئيساً للجمهورية . وبغض النظر عن اتفاقي أو إختلافي مع أي من المرشحين إلا أنني سعدت بترشحهما ، حتي لا تجري اول انتخابات رئاسية بعد ثورة يونية مجري الإستفتاءات ، لأن من شأن ذلك الإنتقاص من قيمة هذه الثورة ، والإنتحاء بها ناحية التأسيس لديكتاتورية وليدة ، وإن كانت بنت شرعية لها . وكنت أضع يدي علي قلبي من سلسلة الإنسحابات التي وقعت من معظم من أعلن عن ترشحه لهذه العلة . وقد ملأت نفسي الرغبة في استمرار حمدين في السباق ، حفاظاً علي الظل الديمقراطي ، وتأسيساً له ، في أول استحقاق انتخابي رئاسي بعد ثورة يونية ، وفي ظل الشعبية الجارفة التي كان يتمتع بها المشير السيسي ، والتي نادته بحتمية الترشح ، باعتباره رجل المرحلة ، الذي يحوز شبه التوافق الوطني ، ولديه القدرة ، والخبرة الإدارية ، وملامح القيادة ، التي تعبر بمصر تلك الحفرة التي تعثرت بها . وكان لابد لحمدين بقدر من الشجاعة ، التي تدفعه لركوب جواد هذه المخاطرة ، وعبور الحاجز النفسي ، الذي صنعته رغبة الجماهير . وبغض النظر عن الموقف الذي اتخذته قلة من النخبة الإعلامية والسياسية من ترشح السيسي ، وقد كان موقفاً سلبياً ، مستنداً لدي البعض علي تفضيل بقاءه وزيراً للدفاع ، ولدي البعض الآخر من منطلق عدم الرغبة في عودة العسكريين إلي سدة الحكم ، ولدي بعض ثالث لأسباب متعلقة بتوجهاته الأيديولوجية ، وانتماءاته السياسية ، والأجندة التي يعمل وفقاً لها . إلا أن ذلك كله لا يحول دون رغبة الجماهير ، ولا يقف حائلاً دون ممارسة السيسي لحقه الدستوري امتثالاً لإرادة الشعب في معظمه ، وما دفعني للكتابه سوي انحياز حمدين البين للإخوان علي نحو يمثل خطورة داهمة علي المجتمع المصري ، حال العودة بهم إلي المشهد ، مع فرضية فوزه بالانتخابات . وهنا يحق لنا التساؤل : ما المقصود من استباق الأحداث ، واستباق المحاكمات علي نحو ما فعل السيد صباحي ولو علي سبيل التعريض ؟ . هل هي المتاجرة الرخيصة بالدماء من أجل مكاسب انتخابية محتملة ؟ . أم أنها مغازلة للإخوان وتوابعهم ، ودغدغة لمشاعر شباب الثورة من أجل ذات الهدف ؟ . أم كل ذلك جميعاً ؟ .
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة
(
Atom
)
0 تعليقات:
إرسال تعليق