لم ينته المشهد الدموي في أوكرانيا بعد، وإن انحنت الهياكل المدنسة بدماء ثمانين ثائر حر عند أعتاب الميادين. ولن تمحو الكلمات المبللة بدموع التماسيح أكبادا رطبة ذاقت مرارة الفقد على من رحل دون وداع. وعلى الواقفين حول خواصر الميادين الأوكرانية المحررة أن يؤجلوا زغاريد الفرح وأهازيج النصر حتى تكشف الأيام القادمة عن ساقها. فرقعة الشطرنج هناك لم تغلق مربعاتها أمام كافة الاحتمالات القادمة من شرق وغرب، والجالسون عند أطراف الرياح الباردة لا يزالون يمسكون بقطعهم الأخيرة في انتظار صافرة التاريخ.
الثوار قادة غير محترفين، ولهذا تراهم يعدون معاركهم الصغيرة حروبا، ويطالبون التاريخ بالانحناء أمام قبضاتهم المتشنجة كما فعلت الشرطة الأوكرانية ذات اعتذار، لكنهم لا يدركون أن رقعة أوكرانيا ليست حكرا على برلمانها وأن رئيسها الهارب "فيكتور يانوكوفيتش" لا يقف وحده أمام قصره المغتصب رافعا رمحه كما فعل رمسيس الثاني ذات تاريخ، وأن وراء أكمة أوكرانيا ما وراءها.
هل يسحب أوباما جنده ويتراجع مخلفا فراغات هائلة في مسام الخريطة أمام دب يكتشف مخالبه؟ وهل يستطيع بوتين بما أوتي من تهور أن يتجاوز حدود استدعاء السفراء وإلقاء العصابات المسلحة فوق خاركيف، وأن يضع يده في عش التاريخ ليوقظ زنابير الأحلام الراقدة ويدق أجراس الحرب الباردة بالتدخل المباشر في أوكرانيا؟
لم تكن استغاثات أهل القرم، ولا لافتاتهم سببا كافيا لإقدام الدوما على منح تفويض لبوتين بالتدخل المباشر في بلاد كانت رفيقة قهر شيوعي قديم، ولم تكن المظاهرات المفتعلة المطالبة بالحماية عذرا كافيا لتحليق أسراب الطائرات الروسية فوق عاصمة الثورة، لكنها حرب الدماء الدافئة في العروق الباردة، وحرب الصاع بالصاع والعين بالعين. ولأن أوباما "أكثر زعماء الأرض سذاجة" باعتراف ماكين، فماذا يضير دب القوقاز لو تقدم فوق رقعة التهور مربعا أو مربعين، لا سيما بعدما اختبر تهديدات خصمه الهزيل فوق الحلبة الدمشقية المشتعلة، ووجده لا حول له ولا مارينز؟
منذ قرن، تقدمت بعض الخوذات الغبية نحو حرب كونية وهي لا تدري في أي مستنقع بائس ستلقي بملايين البشر، وفي طريقها نحو الأسلاك الشائكة، داست كل شيء دون أن تنظر مواقع أقدامها أو نهاية النفق. لكن حربها الأولى لم تكن الأخيرة، وبين الحربين تبدلت المواقع وتغيرت رايات النصر وأهازيجه. لكن خيطا عميقا قرمزيا ظل يربط بين الحربين، وأنات ثكلى لا تحتاج إلى ترجمة ظلت قاسما مشتركا بين الفريقين ذات اليمين وذات الشمال.
في مصر، وضع ثوار التحرير أصابعهم في أفواههم، وعضوا الأنامل من الحسرة وهم يرون ثوار كييف يرفعون هاماتهم عاليا ويهزجون بأناشيد الثورة، ومنهم من تمنى لو غير الربيع روزنامته، وزار رواد ميادين كييف قبل أن يسيح في ميادين المحروسة. لكنهم لا يدركون أن هروب يانوكوفيتش لم يمثل نهاية الثورة، فيانوكوفيتش ليس زين العابدين، والقاهرة ليست كييف، ولاعبوا الشطرنج من وراء الحدود لم يعلنوا نهاية للثورة الناشئة هناك بعد. وإذا كان ثوار كييف قد استولوا على البرلمان ذات إرادة، فمسلحو روسيا قادرون على انتزاع برلمان القرم في لحظات.
ثورة كييف لم تنته بعد كما يأمل الحالمون، وبوتين قادر على حماية مكتسباته في أرض كان يانوكوفيتش يحكمها بالوكالة حتى حين. والطائرات الروسية قادرة على الوصول إلى أبعد مدى من أجل نفخ الروح في الجسد الروسي المتخشب منذ سنوات في ثلاجات التاريخ. تبقى الكرة الآن في ملعب أوباما ومجالسه. فهل يحتفظ الرجل برزانته المعهودة ويلجأ لتفاهمات مهينة وصفقات مخجلة، أم يضطره الجمهوريون للتخلي عن سذاجته وارتداء زي حربي أكبر من هيكله الصغير؟ ربما يقرر أوباما أن يتقدم على رقعة الشطرنج خطوة كما فعل خصمه، ليكشف عن ساق أمريكا التي لم تختبر إلا في بلادنا العاجزة، وعندها يمكننا أن نتوقع خروج الشمس من مغربها وأفول نجم الإنسان فوق كوكب لم يعد آمنا أبدا.
عبد الرازق أحمد الشاعر
0 تعليقات:
إرسال تعليق