Ads

ثقافة الاختلاف في زمن (التخوين) !


دراسة تحليلية بقلم المستشار/ أحمد أبوزيد
نقيب مستشاري التحكيم الدولي بقنا

إن نظرة الإسلام إلى الحوار نظرة موضوعية تقوم على احترام الرأي الآخر، ونبذ كل تعصب أو تنطع في الرأي، وتتبين موضوعية نظرة الإسلام في أن موقفه من الجدل العقيم، هوهو، سواء كان المجادل مؤمناً أو غير مؤمن . 
ففي نبذ الجدال غير المجدي الصادر عن طائفة مؤمنة، يقول الحق سبحانه: {كما أخرجك ربّك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون *يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون} (سورة الأنفال، الآيتان: 6-5) . 
وفي نبذ الجدل العقيم أو العصبي الصادر عن طائفة غير مؤمنة، يقول الحق سبحانه: {ولما ضُربَ ابنُ مريمَ مثلاً إذا قومك منه يصدون* قالوا أآلهُتنا خير أم هو ماضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خَصمون* إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل} (سورة الزخرف، الآيتان: 58-57) . 
بل إن القرآن الكريم يمضي بعيداً في نبذ الجدل بالباطل، فيقول تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} (سورة الأنعام، من الآية:121) . 
الاختلاف لا يتضمن معنى المنازعة
الاختلاف لايحمل معنى المنازعة، وإنما المراد منه أن تختلف الوسيلة مع كون الهدف واحداًً، وهو مغاير للخلاف الذي ينطوي على معنى الشقاق والنزاع والتباين في الرأي دون دليل . 
وقد أوضح العلماء الفرق بين الاختلاف والخلاف في أربعة أمور: 
1. الاختلاف هو أن يكون الطريق مختلفاً، والمقصود واحداً، والخلاف هو أن يكون كلاهما ـ أي الطريق والمقصود ـ مختلفين . 
2. والاختلاف: مايستند إلى دليل. والخلاف: ما لايستند إلى دليل . 
3. والاختلاف من آثار الرحمة ...، والخلاف: من آثار البدعة . 
4. ولو حكم القاضي بالخلاف، ورفع لغيره يجوز فسخه بخلاف الاختلاف، فإن الخلاف هو ما وقع في محل لايجوز فيه الاجتهاد، وهو ماكان مخالفاًً للكتاب والسنة والإجماع .
أهم أسباب الاختلاف
 إن احترام قواعد الحوار ومنهجه على النحو السالف قد لا يصل إلى توحيد الرأي والتقاء الفكرة حول المسألة موضوع الحوار، وهكذا فإن الأمر قد يفضي إلى اختلاف بين أوجه الرأى، لأن الاختلاف من طبائع العقول، وقد كان الفقهاء والمحدثون يختلفون دون أن يكون لاختلافهم أي أثر في العلاقات الطيبة القائمة بينهم، ودون أن يزدري أحد منهم صاحبه؛ بل إن الاختلاف لم يزدهم إلا محبة وتلاحماً أكثر .
وما ذلك إلا أن أسباب الاختلاف بينهم لم تكن أسباباً شخصية قائمة على أمور ذاتية، بل إنها كانت تقوم على أمور موضوعية؛ وكتب الأصول زاخرة بأسباب الاختلاف، وبتتبعها يتضح أن تلك الأسباب ترجع إما إلى اختلاف في معنى النص عندما يحمله البعض على الحقيقة، ويحمله البعض الآخر  على المجاز، أو في مدى ذلك النص حينما يحمله البعض على العموم، ويحمله البعض الآخر على الخصوص، أو يعتبره البعض مطلقاً ويقيده البعض الآخر، وهكذا . 
من آداب الاختلاف
من ثوابت آداب الاختلاف في الإسلام:
1. أن الاختلاف رحمة وتوسعة، إذ اختلاف الأمة في أحكام الحوادث والنوازل يسر ورحمة، قال الذهبي:"وبين الأئمة اختلاف كبير في الفروع وبعض الأصول، وللقليل منهم غلطات وزلقات ومفردات منكرة، وإنما أمرنا باتباع أكثرهم صواباً، ونجزم بأن غرضهم ليس إلا اتباع الكتاب والسنة، وكل ما خالفوا فيه القياسٍ أو تأويل. وإذا رأيت فقيهاً خالف حديثاً أو حرّف معناه فلا تبادر لتغليطه، فقد قال علي كرم الله وجهه: ( لمن قال له: أتظن أن طلحة والزبير كانا على باطل): يا هذا، إنه ملبوس عليك، إن الحق لايعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله" .
2. أن الاختلاف في المسألة لايعني أن أحد المختلفين خاطىء، قال الطحاوي "المراد: أن ماذهب إليه إمامنا صواب عنده مع احتمال الخطإ، إذ كل مجتهد يصيب ويخطىء في نفس الأمر، وأما بالنظر إلينا فكل واحد من الأربعة مصيب في اجتهاده، فكل مقلد يقول هذه العبارة لو سئل عن مذهبه على لسان إمامه الذي قلده، وليس المراد أن يكلف كل مقلد اعتقاد خطإ المجتهد الآخر الذي لم يقلده" .
3. التأدب مع المخالف، لأن الخلاف إنما هو ناشىء عن اختلاف النظر لاعن اختلاف الهدف، فالمختلفان مختلفان في الأفكار متفقان في القلوب وفي الهدف .
الإسلام ينهى عن الجدل العقيم
قال أبو بكر بن العربي: عند قوله تعالى: { ومن الناس من يعجبك قولُه في الحياة الدنيا وُيشهدُ اللَّه على ما في قلبه وهو ألدُ الخِصامِ } (سورة البقرة، الآية: 204) مانصه في قوله تعالى "وهو ألد الخصام": يعني ذا جدال إذا كلمك وراجعك رأيت لكلامه طلاوة وباطنه باطل، وهذا يدل على أن الجدال لايجوز إلا بما ظاهره وباطنه سواء .
وقال عند قوله تعالى: { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} (سورة الأنعام، من الآية: 121) مانصه في قوله تعالى "ليجادلوكم": المجادلة دفع القول على القول على طريق الحجة بالقوة، مأخوذ من الأجدل، طائر قوي، أو لقصد المجادلة، كأنه طرحه على الجدالة، ويكون حقاً في نصرة الحق وباطلاً في نصرة الباطل .
وقد روى البخاري وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: أبغض الرجال إلى اللَّه الألدُّ الخَصِم ، وقد كانت للنبي عليه الصلاة والسلام ، مجادلات مع المشركين، ومع أهل الكتاب، وآيات القرآن في ذلك كثيرة، وهي أثبت في المعني .
وقد قال صلى الله عليه وسلم لليهود بنص سورة البقرة: { إن ْكانت لكمُ الدارُ الآخرةُ عند اللَّه خالصةً من دون الناسِ فتمنوا الموتَ إن كنتم صادقين * ولن يتمنَّوهُ أبداً بما قدَّمتْ أيديهم } (سورة البقرة، من الآيتين: 95-94) ، فما أجابوه جواباً .
وقال صلى الله عليه وسلم بنص سورة آل عمران: { إن مثلَ عيسى عند اللَّه كمثل ِآدَم خَلَقهُ من تُرابٍ } (سورة آل عمران، من الآية: 59) ، أي إن كنتم عبدتم ولداً من غير أب فخذوا ولداً دون أب ولا أم .
وقال صلى الله عليه وسلم بنص سورة آل عمران أيضا: { يا أهل الكتاب تعالوْا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبدَ إلا اللَّه ولا نشرك به شيئاً } (سورة آل عمران، الآية: 64) .
ذلكم هو منهج الإسلام في الحوار وموقفه منه وأدبياته بشأنه ، وإذا كان لنا أن نختتم هذه الكلمة بنموذج حي من كلام سلفنا من العلماء في أسس ومنهجية وأدب الحوار في الإسلام ، فإن أحسن مثال لذلك قول الإمام الشاطبي في مقدمة كتابه الموافقات :" إياك وإقدام الجبان، والوقوف مع الطرق الحسان، والإخلاد إلى مجرد التصميم من غير بيان، وفارق وهن التقليدي راقياً إلى يفاع الاستبصار، وتمسك من هديك بهمة تتمكن بها من المدافعة والاستنصار، إذا تطلعت الأسئلة الضعيفة والشبه القصار، والبس التقوى شعاراً، والإنصاف بالإنصاف دثاراً، واجعل طلب الحق لك نحلة، والاعتراف به لأهله ملة، لاتملك قلبك عوارض الأعراض، ولاتغر جوهرة قصدك طوارق الأعراض، وقِفْ وقفةَ المتخيرين لا وقفة المتحيرين، إلا إذا اشتبهت المطالب  ولم يلح وجه المطلوب للطالب، فلا عليك من الإحجام وإن لج الخصوم، فالواقع في حمى المشتبهات هو المخصوم، والواقف دونها هو الراسخ المعصوم، وإنما العار والشنار على من اقتحم المناهي فأوردته النار، لاتدر مشرب العصبية، ولاتأنف من الإذعان إذا لاح وجه القضية، أنفة ذوي النفوس العصبية، فذلك مرعى لسوامها وبيل، وصدود عن سواء السبيل".

0 تعليقات:

إرسال تعليق