Ads

مستقبل القوي الدينية في مصر في المرحلة المقبلة


دكتور عادل عامر

إن الحاضن للثورة المصرية مرتبط بتغيير كبير طرأ على سيكولوجية الشعب المصري، الذي انتقل من السلبية إلى المبادرة، وذلك بصفته مصدر الشرعية ومصدر الحكم الرئيسي. هذا الانتقال يجعل الشبان في الميادين أكثر قدرة في المرحلة الراهنة على تحريك الناس وكسب الأنصار لمطالبهم، وهم لهذا يمثلون جوهر حراك المجتمع المصري الجديد بعد الثورة. هناك نبض في الشارع المصري يستشعر به الثوريون ويسعون لترجمته في صورة مطالب تطرح في الميادين. وتعيش مصر في المرحلة الانتقالية بين ثلاثة تناقضات: فهناك المجلس العسكري الذي يدير المرحلة الانتقالية بتحفظ بينما تنقصه الخبرة السياسية، وهو المجلس الذي يمثل سلطة الجيش التاريخية في مصر، وهناك من جهة أخرى الثوريون ممن حركوا ثورة يناير وممن يسعون لتحريك المجتمع نحو مركزية المطالب التي يميل إليها الشارع وتعبر عن ثورته وحالته الجديدة، وهناك أيضاً حكومة عصام شرف التي تقف في الوسط بين المجلس العسكري وبين الثوار المجددين، هذه الحكومة الانتقالية لديها بعض التأثير وهي خليط من الجديد ومن النظام السابق. ولكنها تملك جزءاً من القرار وتعيش وسط العاصفة. لا يعنى استمرار هذه الملامح أن النظام لم يشهد أي تغير في توجهاته. فقد عرف نظام يوليو أطوارًا عدة نتيجة تفاعله مع مصالح مختلفة وتعاطيه مع بيئة دولية متغيرة. ففي الطور الأول من حياة هذا النظام تم تطويع الدولة لتحطيم الأساس المادي لهيمنة كبار الملاك على الحياة السياسية عن طريق قوانين العزل السياسي والإصلاح الزراعي، ثم التوسع في دور الدولة في الحياة الاقتصادية بهدف تنمية سريعة ومعتمدة على الذات تلحق بالمراكز الرأسمالية المتقدمة. وعبّر هذا الميل عن نفسه بخليط أيديولوجي تبنى "الاشتراكية العربية" شعارًا. هذا الميل أدى إلى نمو مطرد للطبقة الوسطى أو تشكيل طبقة وسطى جديدة نتيجة التوسع في التعليم والتمدن هذا بالإضافة لتعاظم دور الشرائح العليا من البيروقراطية وقطاعات البرجوازية الصغيرة والمتوسطة المرتبطة بأنشطة الدولة الإنتاجية. كذلك تعاظم دور متوسطي الملاك الزراعيين وأعيان الريف وبيروقراطية الاتحادات العمالية والنقابات المهنية في عملية الإدارة اليومية نتيجة بروز الطابع الزبوني للنظام. أما نخبة الحكم فقد ظلت متمحورة في المقام الأول حول حلقة ضيقة من قيادات البيروقراطية الأمنية والعسكرية تربطها علاقات شخصية وغير رسمية مع رأس النظام مباشرة.

إنّ المتابعة الدقيقة للإخوان المسلمين وخطابهم السياسي خلال الأسبوع الأوّل من أيام الثورة المصرية لا تستطيع أن تنكر مستوى من الوعي والنّضج , إذ اعتمد خطابهم العام على أنهم مكوّن من مكونات الشّعب الثائر, لكنهم ليسوا التعبير الوحيد عنه. فالشعارات التي رفعوها كانت منحازة إلى التغيير والحرية والعدالة الاجتماعية، ولم تسلك طرائقهم المعروفة في رفع المصاحف أو رفع شعارات، مثل "الإسلام هو الحلّ". وقد كان هذا الأداء مرتبطاً بعدم وجودهم في التّظاهرات باعتبارهم تيارا سياسيا واضحا إلاّ يوم جمعة الغضب في 28 يناير، بينما كان وجودهم السابق خجلاً ومتوارياً، وربما يعبّر عن إرادات شخصية وليس عن تعليمات تنظيمية، وخصوصاً أنّهم خضعوا لتهديدات النظام بعدم المشاركة في الدعوة التي أطلقها الشباب لإعلان الغضب في 25 يناير. لكن هذا الأداء السياسي للإخوان لم يُقنعْ النّواة الصلبة للدولة المصرية في مؤسّساتها المختلفة بوزنهم الهامشي في تصعيد الأحداث، مستندين في ذلك إلى عقود من المواجهة بين الطرفيْن، وإلى ملاحظة أن عمليات إحراق أقسام الشرطة ومباني أمن الدولة قد تمّت في توقيت واحد في جميع المحافظات, فضلاً عن تأمين الإخوان جزء مهم من الإمدادات اللوجستية في ميدان التحرير. وقد ساعد على ترسيخ هذا التقدير من جانب الدولة المصرية والنخب المدنية الإشارات المتراكمة التي أرسلها الإخوان اعتباراً من جمعة الرّحيل في 4 فبراير , والتي بدا أنّهم تجاهلوا ما أثمرته الثورة من معادلات جديدة على السّاحة المصرية, وانغمسوا كالعادة في حساباتهم الضيّقة والخاصّة بالجماعة بغضّ النظر عن تأثير هذه الحسابات في المسار الوطني العام، وعن دورها في كبْح آمال الثوار في الوصول بمصر إلى محطة الديمقراطية الحقيقية. يمكن رصدُ ملامح هذا التغير في تنظيم تظاهرات إخوانية منفصلة ترفع شعاراتهم الدينية في كل من الإسكندرية وأسيوط في الصعيد, علاوة على حوادث منفردة لرفع المصاحف في ميدان التحرير. وهو ما يمكن تفسيره، على الأرجح، في إطار رغبة الإخوان في معرفة مدى استعداد التربة المصرية في أثناء الثورة لتقبل دولة دينية في مصر. وكان مما ذكر: «أن الجماعات الإسلاميَّة في مصر وتونس مثلاً سرعان ما بدأت تعاني أزمات وانفجارات داخلية ورؤى مختلفة عمّا اعتادته، ولاسيما بعد نجاح المتظاهرين الذين يمثلون اتجاهات فكرية وسياسية ودينية مختلفة؛ حيث لم يعد بإمكان الخطاب السياسي الديني التقليدي المطالبة بسلطة الدولة الدينية، وراحت هذه الجماعات تشهد الانقسام تلو الانقسام، بسبب الاصطدام بخطاب الأغلبية السياسي الذي يدعو إلى رفض الدولة الدينية ويدعو إلى الدولة المدنية والعلمانية وسيادة القانون وحقوق الإنسان». ولم تشهد العلاقة بين الحركات الإسلاميَّة والسلطة الحاكمة أي نوع من الوفاق أو التقارب إلا في فترات بسيطة كان المتحكم فيها والممسك بأطرافها السلطة الحاكمة، وكانت بغرض توظيف هذه الحركات لتحقيق أهداف ومصالح معينة، أو بغرض إحداث نوع من التوازن بين القوى الفكرية والثقافية في المجتمع، ثم لا تلبث تلك السلطة أن تنقلب على تلك الحركات بعد تحقيق مصالحها وأهدافها،يمثل الإخوان المسلمون كبري الحركات الإسلامية الحديثة، وقد أنشأها الشيخ حسن البنا في الإسماعيلية 8291. وهي بتعبير الشيخ حسن البنا منشئها، فكرة جامعة تضم كل المعاني الإصلاحية فهي "دعوة سلفية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية". ومثل أي جماعة دينية أخري، انطلقت حركة الإخوان من مقولة "إن السر في تأخر المسلمين ابتعادهم عن دينهم، وإن أساس الإصلاح العودة إلي تقاليد الإسلام وأحكامه، وإن ذلك ممكن لو عمل له المسلمون، وإن فكرة الإخوان تحقق هذه الغاية".ولتحقيق كل هذه الأهداف، لابد من إقامة الحكومة الإسلامية التي تطبق قواعد الإسلام، كما أراد الإخوان إحياء الخلافة، ومفهوم الجامعة الإسلامية، تحقيقا لوحدة المسلمين وتضامنهم. وهكذا، فإن جماعة الإخوان المسلمين تتخذ من الإسلام منهاجا لها، وتتسم بالشمول. فهي تتبني الرؤية القائلة إن الإسلام قدم نظاما شاملا للحياة في مختلف مجالاتها. "ان التصويت على مشروع الدستور في ظل غياب أكثر من ثلثي الشعب المصري، وبموافقة 63 % من ثلثه الذي حضر ليس إلا دلالة واضحة العيان على أن مشروع الدستور، وأجواء إصداره، والاستقطاب الحادث حوله لا يرضي معظم المصريين، ولا يعبر عنهم"، داعيا مؤسسة الرئاسة لرأب الصدع الذي حدث في الشارع المصري والوفاء بالتعهدات الخاصة بالوثيقة الإلزامية لتعديل المواد الخلافية . إن نجاح الثورات في الانتقال نحو مجتمع ديمقراطي يتطلب سرعة في بناء أساسيات الحكم الديمقراطي والرشيد، وهذا بطبيعة الحال أصعب من صناعة الثورة نفسها. ولو استرجعنا التاريخ لوجدنا أن على مدى ألوف السنين تعودت مصر على أنظمة استبدادية وأنظمة لا تساءل وعلى عسكريين يحكمون البلاد من دون أن تحدهم دساتير أو قوانين أو إجراءات. كما اعتادت مصر على قادة يحتكرون السلطة والاقتصاد ولا يهتمون إلا بأزلامهم وأتباعهم المباشرين. إن الأساس في تاريخ مصر والتاريخ العربي (مع استثناءات قليلة) هو فردية وعليائية السلطة. إن الانتقال نحو حوكمة حقيقية تتضمن شفافية وتحديداً لصلاحيات السلطة سيتطلب الكثير من الجهد والعمل. ومن بعد إقرار الدستور وأصبح أمرا واقعا ولعل ذلك يجعل مصير الثورة المصرية في أيدي مؤسستين التحقتا بقطار الثورة لأهداف وغايات محددة جماعة الإخوان المسلمين -التي أثارت الجدل حولها طوال المرحلة الانتقالية بسبب برغماتيتها السياسية وميلها لعقد الصفقات السياسية- فإنها محل شك وريبة من قبل القوى الثورية المصرية. واستناداً إلى تلك التطورات التي شهدتها الساحة المصرية منذ رحيل مبارك، فإن الثورة لم تبلغ منتهاها بعد، وهي لا تزال مستمرة. وسوف يظل ميدان التحرير بمثابة القوة السياسية الضاغطة التي تؤثر على مسار التطورات السياسية في مصر خلال المرحلة القادمة.



--
كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
 عضو  والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية
-->

0 تعليقات:

إرسال تعليق