Ads

الحدود


عبد الرازق أحمد الشاعر

في مارس عام 1904، هدأت الثارات بين الأرجنتين وتشيلي، وبدأت الأصوات المبحوحة في التخاذل أمام اتفاقيات أبرمتها الخارجية هنا وهناك لتكريس السلام بين الجارتين اللدودتين. واستطاعت التجارة أن تخرق ثغرات عدة في جدار العداء بينهما. وتعبيرا عن حسن النوايا، قام دعاة السلام على الجانبين بصهر عدة مدافع رشاشة تحمل نفس الفوهات لكنها لم تلق حممها في قبلة واحدة أبدا. ومن الرصاص والحديد المذاب، صنع الفريقان تمثالا للمسيح، وتحت قدميه المعدنيتين، أقسم زعيما الحرب والسلام على دعم أواصر الهدوء عند الأسلاك الشائكة.
لكن ما إن وطئت قدما التمثال المسافة الفاصلة بين حرس الحدود هنا وهناك، حتى عاد الصخب وعلت الجلبة وكاد زعيما البلدين أن ينسيا حبرهما المقدس ويحنثا بيمين لا زال صداه يتردد في ثكنات الجند هناك، والسبب تحفظ تشيلي على وقفة مسيح الرصاص الذي أدار وجهه نحو الأرجنتين وأدار للتشيليين ظهره. ولم تفلح الصحافة التشيلية في إقناع جماهير الغاضبين هناك بأن المسيح يدير وجهه نحو الأرجنتين ليراقب شعبها الخطاء، وأنه قد أدار ظهره للتشيليين لأنه يأمن مكرهم. وتحرك التمثال أخيرا ليحقن ما تبقى من غصات في قلوب اكتفت بنصف مسيح ونصف هدنة.
لكن مسيح الرصاص لا يمكن أن يظل واقفا على الحدود بين أسلاك الكراهية الشائكة إلى ما لا نهاية. ولن تفلح الاتفاقيات الموقعة بين بلدين لم يربطهما إلا ذكريات سوداء وثأر لم يتم في كبح جماح البغضاء والمقت المستشري على الحدود بينهما. ولن تصلح التجارة ما أفسدت الحرب وإن أجبرت الحاجة إحدى الطائفتين أن تخفض رأسها وصوتها وتقبل بالفتات من المساعدات حتى حين. 
يخطئ من يظن أن قسما تحت ساقين من رصاص قادر على صناعة تاريخ مشترك ونشيد واحد بين أهل القتيل والفئة الباغية، أو بين صانع تاريخ وسارقه. فالتاريخ أوعى من ذكريات القادة وتعهداتهم الطوباوية أمام نويل الجوائز والهدايا الملونة والمنح التي ترد أضعافا مضاعفة من مصير وطن ومستقبل ساكنيه. 
يستطيع قادة الأرجنتين وتشيلي أن يوقعا عن الشعوب ما يشاؤون من اتفاقيات ومعاهدات وأن يقسموا بوكيد الأيمان تحت هياكل الرصاص أنهم سيحفظون الود والسلم والأمن ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. لكن ليعلم الواقفون هناك والراضون بنصف إله ونصف وطن أن الشعوب وحدها، لا آلهة الرصاص ولا قوات حفظ السلام، هي القادرة على التصديق على اتفاقيات الحرب وتحمل تبعة القسم. الشعوب وحدها باقية على جانبي التاريخ، ويوما ستفقد الجزرة رونقها وتقع ورقة التوت عن تمثال الرصاص، وستعرف الأقدام طريقها نحو الحدود عندما يتجاوز الواقفون على ثوابتها الحدود. 
يوما سيرحل الموقعون وتأكل الأرضة اتفاقيات الحصار، وينسى التاريخ خطب الذين اقتسموا جوائز نويل وتاريخ الخطيئة، وساعتها لن تستطيع تماثيل الأرض أن تحمي المعتدين على الأرض والعرض والتاريخ والجغرافيا من غضبة شعوب لم تقسم على سلام ولم توقع على اتفاقيات تجارة. يوما ستكتب الشعوب تاريخها وتمزق بسيف قطزي كل شروط صناديق الدين وتلقي بصك النخاسة في وجوه المشترين لتعلن أن أهل البلاد أولى بحدودها وأنهم وحدهم يقررون مصير التماثيل الواقفة عند حدود اليأس هناك.

-->

0 تعليقات:

إرسال تعليق