دكتور عادل عامر
إن بناء الوعي الحي المحدّث للجماهير والنخب لا يمكن أن يتم جدياً من دون الثورة الشعبية. فالجماهير لا تعي ذاتها وواقعها وتاريخها ولا تبني واقعها إلا بالفعل التاريخي الثوري. فهي لا تتعلم ولا تكتسب وعياً حياً نابضاً إن ظلت مفعولاً فيه تشتغل عليه قوى خارجها، وإنما عليها أن تصبح ذاتاً جمعية فاعلة تاريخياً لكي تتعلم وتصنع وتبني. وها قد بدأت الجماهير العربية، بملايينها، تتحرك من أجل تحقيق مهمات تاريخية ديموقراطية عجزت النخب العربية وحدها عن تحقيقها على مدار قرن كامل من الزمان الحديث. إننا نشهد لحظة هيغلية عظيمة، لحظة تحول الموضوع إلى ذات، لحظة الحرية، لحظة مولد الذات، لحظة مولد الروح.
المغزى الأممي للثورة العربية الراهنة
هل هو من قبيل المصادفة أن الثورة العربية الراهنة قد اندلعت بعد ثلاث سنوات من تفجر الأزمة الاقتصادية العالمية غير المسبوقة، التي عصفت بالرأسمالية العالمية، والتي ما زالت تتفاقم وتتفاعل وتتنامى؟ من الصعب أن يكون الأمر كذلك، وخصوصاً في ضوء التبصر التاريخي، الذي يربط الثورات الشعبية بالأزمات الاقتصادية البنيوية. وهنا، ولفهم ما حدث وما يحدث، فإنه يمكن إجراء مقارنة جزئية بين الثورة العربية الراهنة والثورة الروسية عام 1917. ويمكن القول إنه، مثلما كانت روسيا هي الحلقة الأضعف في السلسلة الرأسمالية عام 1917، الأمر الذي أشعل فتيل الثورة فيها، فإنه يمكن القول إن الوطن العربي اليوم يمثل الحلقة الأضعف في السلسلة الرأسمالية الراهنة. وهنا يبرز السؤال: هل إن الثورة العربية الراهنة هي ثورة دائمة أفقياً وعمودياً، كما كان عليه الحال في روسيا عام 1917؟ من الواضح أنها ثورة دائمة أفقياً، حيث إنها اندلعت في قطر معين، هو تونس، ثم انتقلت شرقاً وغرباً إلى سائر أرجاء الوطن العربي، بل وتخطته صوب المحيط الإسلامي (إيران وكردستان وأذربيجان).
هل هي كذلك عمودياً أيضاً؟ وأعني بذلك: هل ستستمر الثورة بصورة دائمة، منتقلة من حزمة مهمات وطنية ديموقراطية إلى حزمة أعمق حتى تصل إلى تخوم المطالب والمهمات الاشتراكية؟ هل سيشكل تحقيق حزمة من هذه المهمات قاعدة للتحرك صوب مستويات مطلبية أعمق؟ هل ستتصاعد الثورة حتى تصل إلى نهاية مطافها، على غرار ما حدث ويحدث في فنزويلا وبوليفيا؟
لقد رأينا كيف أطاحت الجماهير الثورية في كل من تونس ومصر بالأسرة الحاكمة. ثم انتقلت بعد ذلك إلى التحرك الجدي من أجل كنس أجهزة الدولة من رجالات النظام البائد. ثم تحركت صوب تفكيك الأجهزة الأمنية، وتلت ذلك بالضغط من أجل محاكمة رموز النظام البائد. ومن الواضح أنها تسعى إلى إجراء تغييرات دستورية وتشريعية حقيقية. كما إن المطالب والإضرابات العمالية تتصاعد وتتنامى منذ اندلاع الثورة، وهذه جميعاً مؤشرات على أن هناك نزوعاً صوب الثورة الدائمة عمودياً أيضاً في الثورة العربية الراهنة، برغم ما يشوب الحراك الجماهيري من بطء الآن، بعد الفورة الأولى المذهلة في سرعتها.
من حالة الضياع هذه، انفجر الواقع العربي الإسلامي فجأةً بلا أي إرهاصاتٍ نهضويةٍ أو تداعياتٍ سياسيةٍ أو تطوراتٍ ثقافيةٍ، ومع أن آلاف المعدومين والمشنوقين والمعتقلين والمسحولين والمشوهين والمتعرضين للاغتصاب الجنسي من المناضلين لم يتمكنوا من زحزحة ذلك الواقع المكبل، إلا أن صفعةً واحدةً لبائعٍ يجرّ عربةً لبيع الخضار تمكنت من تفجيره، وكان ذلك الانفجار الصغير جدًّا شرارةً كافيةً جدًّا لإشعال ثورةٍ، بل وإسقاط طاغيةٍ؛ وعلى طريقة المسلسلات المصرية، انتشرت نار الثورات الربيعية التلفزيونية في هشيم الأنظمة السياسية الكاريكاتورية، وتساقطت على إثرها بعض الأنظمة الاستبدادية في سيناريوهاتٍ متفاوتة التفاصيل، وغير مرتبةٍ منطقيًّا، وغير مقنعةٍ للمراقب السياسي الموضوعي؛ وعلى الأرضية المتفحمة بانقشاع دخان الثورة أو "الفوضى المنظمة" بالأصح، كان الفراغ السياسي الذي سيحدث باقتلاع الأنظمة الحاكمة السابقة الفاشلة سياسيًّا، أو الامبراطوريات المالية الناجحة استثماريًّا، مثار تساؤلٍ من الجماهير العربية التي كانت- وما تزال- مذهولةً إلى درجة عدم الفهم، ولكن الحلول المعلبة كانت دائمًا جاهزةً عند أصحاب مصانع الكوكا كولا والليبتون والنسكافيه، إنها- هذه المرة- عند المناهضين والمناوئين الإسلاميين القدماء، الذين كانوا ذات يومٍ طرائد أو فرائس تقليدية للأنظمة القمعية البائدة؛ ولكن، لماذا اليوم إرهابيو الأمس؟ لعدة أسبابٍ: الأول؛ لأن وجود الإسلاميين على مشهد الثورة يمثل انتصارًا- ولو صوريًّا- لها، ويمثل إرضاءًا لعاطفة غالبية الجماهير التي قاست وسئمت من أنظمة الاستبداد حتى فقدت قناعتها بكل إيديولوجياتها الفارغة، والثاني؛ لإزالة الشكوك التي تحيط بالمشهد الثوري، والتي يحلو لأنصار فكرة المؤامرة اعتبار كلٍّ من واشنطن وباريس ولندن أيادٍ خفيةً، وقذفها بتهمة افتعال الأحداث وتحريكها، وهو نسقٌ دهائيٌّ كفيلٌ بإخفات مشاعر الغضب والكراهية لهذه الإمبرياليات الملطخة حتى الأمس بدماء الشعوب العربية والإسلامية وكرامتها، وتحويلها إلى مشاعر امتنانٍ وتقبّلٍ بعد أن أظهرت قناعها الجديد كقوىً مناصرةٍ وحليفةٍ ومحرِّرةً، وبذلك يمكنها أن تأخذ غدًا من المصالح ومن الثروات برضى الشعوب وإذعانها، ما كانت تأخذه بالأمس برضى الأنظمة المستبدة وإذعانها؛ والثالث؛ لأن فشل الإسلاميين، المرتفع التوقعات على المستقبل المنظور، في إدارة شؤون الحكم وفي اللعبة السياسية، سيمثل المسمار الأخير في نعش فكرة قيام دولةٍ إسلاميةٍ، وسيكون فرصةً نهائيةً وأخيرةً قبل إحالة مجرد التفكير ثانيةً في إحياء هذه الفكرة إلى متحف التاريخ. أي نموذج اقتصادي وتنموي يلبي آمال الشعوب الثائرة، هل هو نموذج التقدم والإنتاجية والمشاركة الذي يغلب مبدأ الاستقلال على ما عداه، دون أن يفرط بمقتضيات النمو والازدهار؟ وهو ما نجحت فيه بلدان عدة في آسيا وأميركا اللاتينية، تلك التي لم تندمج في نمط العلاقات الاقتصادية المعولم إلا بشروطها وبما يتوافق مع مصالحها الوطنية. أم تُعتمد الخيارات السهلة هنا أيضاً، فينصب اهتمام الدول على إحصاء ما لديها من أموال وأرصدة نهاية كل عام، حتى لو كان مصدرها المكرمات والمساعدات والقروض المشروطة وغير المشروطة. وفي ظل هكذا نموذج للتنمية، تكون الصدارة لأرقام ميزان المدفوعات وحركة الأموال الداخلة والخارجة، وموجودات المصارف، والتصنيف الائتماني للدولة الذي يبين قدرتها على الاقتراض، ونمو الناتج المحلي والقومي بغض النظر عن مصادره وطرق تحقيقه، وما إلى ذلك من مجملات اقتصادية ومالية عامة؛..في حين تنزلق إلى ذيل القائمة: إحصاءات الإنتاج الصناعي، والميزان التجاري، والاستثمارات الموظفة في مجالات حيوية، وحصة أنشطة المعرفة من مجموع الاقتصاد، وقيم الصادرات عالية التقية، وحجم رأس المال العلمي، وتطور الإنفاق على البحث والتطوير، ونسبة العمالة الماهرة الموظفة في الداخل من مجموع القوى العاملة.
لقد خرج من رحم تجارب دول الأسواق الناشئة وعي جديد بأن محرك التقدم يكمن داخل الدول لا خارجها، وان حسن استخدام الموارد الكامنة غير المستغلة هو أفضل بكثير من التفريط بها مقابل عوائد هينة وريوع سهلة. وتدلنا تلك التجارب الصاعدة أن أسلوب التنمية الناجح هو الذي يقوم على الانفتاح المتكافئ والندي والمشروط مع الغرب، وليس على أساس التبعية له والانصياع لقيوده.
إن واحداً من أبرز الأدوار التي يمكن للإسلاميين توليها، هو المساهمة في الرد على الأسئلة أعلاه، مستفيدين في ذلك من تاريخهم النضالي الطويل في مقارعة الاستبداد و مواجهة الهيمنة، ومن امتلاكهم حضوراً شعبياً ومؤسساتياً كبيراً، وبنية عقائدية متينة، كل ذلك يسمح لهم بأن يشاركوا بقوة في بناء تلك الديمقراطية العميقة المتصالحة مع أيديولوجيا التأسيس. إذ أن نبذ الايدولوجيا ووضعها في مقابل الديمقراطية يقوم على فهم خاطىء للأمرين معاً، فالأولى لا تعني دائما السيطرة الشاملة على الدولة والإطباق الشمولي على المجتمع، والثانية لا يمكن اختزالها بالتداول السطحي للسلطة، أما الجمع بين الأمرين فيعطينا فرصة نادرة للتغيير الجذري، فيتسع نطاق الحقوق الممنوحة للناس، ويكون للسياسة والاقتصاد وفي الوقت نفسه مسار عقلاني هادف، يعززه إجماع مؤسس على قضايا لا على انتماءات، وهذا يخفف من غلواء الانقسامات الأهلية التي تقف حجر عثرة أمام قيام الدولة الحديثة.
--
كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
عضو والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية
0 تعليقات:
إرسال تعليق