عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
عام 1856، بدأت الحرب الأهلية في أمريكا، بعد أن أعلنت إحدى عشرة ولاية من ولايات الجنوب انفصالها عن الولايات المتحدة وتأسيس كونفدرالية مستقلة. وبدأت أقدام البلاد تحاصر رؤوسها في مشهد عدمي بعد أن رفض الشماليون إعلان الانفصال والاعتراف بالفيدرالية الناشئة. ونشبت حرب همجية راح ضحيتها ما يزيد على الستمئة ألف مواطن يحملون نفس القسمات ويحاربون تحت رايات شتى.
في البداية، استطاع الاتحاد تحقيق بعض التقدم في حرب كرامازوفية دامية، لكنه سرعان ما انهار بعد استسلام لي جرانت قائد المتمردين عام 1853. وبدأ المنتصرون على جلودهم يقتحمون الولايات الشقيقة وأصابعهم توزع الطلقات وشارات النصر على جثث قتلاهم في الجنوب. لكن بعض المحظوظين هناك ممن ظلت هاماتهم فوق رقابهم حتى يأس اكتفوا بأساور من حديد وإهانات تترى. وسيق المنهزمون أفواجا ليدخلوا في بيت الطاعة الذي تمردوا عليه بليل. وكان على العائدين من منافي الكراهية أن يقسموا يمين الولاء أمام الجنرال بنيامين بتلر.
وبين هؤلاء البائسين، تململ جندي أسير ودمدم ساخطا. فسأله بتلر: "ماذا تقول بربك؟" قال الرجل وأنفه المدببة مرفوعة فوق أكتاف الجنرال المقددة: "أقول أننا هزمناكم شر هزيمة وسقيناكم كأس الذل في شيكاموجا." عندها رفع بتلر حاجبا وسبابة في وجه الأسير وقال حانقا: "إما القسم وإما الموت." عندها نظر الجندي مستسلما في عيني قابيله وردد في أسى يمين الولاء.
وبعد أن فرغ الرجل من تلاوة ورد العتق، قال لبتلر: "أعتقد أنني قد أصبحت مواطنا أمريكيا الآن يا سيدي الجنرال. أليس كذلك؟" هز الجنرال العجوز رأسه دون أن يتكبد عناء النظر إلى وجه الجندي الشاحب. لكن عنجهية بتلر لم تلجم لسان الجندي الذرب، فقال مسترسلا: "يجب أن أعترف الآن بصفتي مواطنا أمريكيا أن المتمردين هزمونا شر هزيمة وسقونا كأس الذل في شيكاموجا."
في شيكاموجا التقى الأخوان بسيفيهما، فتقاتلا على قسم بائس بالولاء لأي راية تنصر. وفي شيكاموجا، سالت دماء الأخوين وتلاقحت لتصنع خليطا من الألم في خاصرة وطن. وهناك عند الحدود المتشابكة، تربصت العيون بالصدور، وتفلتت الرصاصات الغادرة من ثغور البنادق لتترك فوهات حارة في صدور تصفر فيها الريح. هناك، عند أقصى حدود الجهالة، وضعت الأصابع بصماتها فوق زناد أعمى لا يفرق بين أخ وأخ إلا بلون البزات واتجاه الريح.
ما أسوأ الشعوب التي تدفن أغلى ثرواتها من أجل راية أو نشيد! وما أقبح الرايات المغروزة في جسد وطن تمزقه الحدود والأسلاك الشائكة إلى شمال وجنوب! وما أتعس الأغبياء المنتصرين والبؤساء الممتهنين عن حدود شيكاموجا. فالكل مقتول والكل قاتل، والسقوط من فوق السرج سقوط لوطن يفقد براءته مع كل نقطة دم تراق في سبيل راية أو قسم.
لو علم المتحاربون فوق تراب شيكاموجا أن الفرق بين نصر وهزيمة يمين ولاء! ولو علم الممزقة أشلاؤهم فوق أسلاك الكراهية أن حروبهم المقدسة ليست من أجل وطن بقدر ما هي من أجل يمين ولاء، لانفض الجمع على جانبي الكراهية وأعلنوا استسلامهم لنشيد واحد يحقن دماءهم ويحفظ ماء وجوههم. ولو علم الذين يفرجون بين سبابة الكف ووسطاها فوق أجداث رفاق الهم أن يمين الولاء ليس نصرا لأحد، وأن انتماء المرء لا تسطره كلمات نشيد تفرضه الفئة الغالبة! لكن تاريخ الغباء في الأرض واحد وإن تعددت فصوله وتنوعت خرائطه.
0 تعليقات:
إرسال تعليق