Ads

الدستور نجح انتخابيا.. بينماوطنيا وأخلاقيا سقط


بقلم المستشار /طه حسين أبو ماجد

مصر الجديدة تعيش إرهاصات النتائج المعلنة للاستفتاء على مشروع الدستور الجديد أنه سيمر في نهاية المطاف، سواء اتسع الفارق أم ضاق، فهنيئا إذن لكل من دفع في هذا الاتجاه بعد أن نالوا غايتهم في تمرير مشروع الدستور الذي لم يعد مجرد "مشروع"، بل صار حقيقة واقعة يتعين على مصر الجديدة أن تعيش وتتعايش معه خلال السنوات المقبلة. الآن آن لهم أن يهدءوا بالا ويهنئوا عيشا، وكيف لها بعد أن استطاعوا – بكافة الوسائل – أن يفرضوا رؤاهم تحت دعاوى "الكلمة النهائية للشعب"، وأن للنخبة مآرب أخرى، ولرموزها مقاصدهم الشخصية بخلاف المصلحة الوطنية.. إلخ. نعم نجح الدستور انتخابيا ولكنه سقـط وطنيـــا وأخلاقيا بغض النظر عن صحة الادعاءات بوجود تزويـــر أو انتهاكات جسيمة مثل غياب الإشراف القضائي التام من عدمه، وذلك لجملة أسباب منها ما يلي:
-إن الاحتكام للشارع "وحده" قد يصلح في كل الأمور عدا "الاستفتاء على الدستور".. تلك العملية  ليست انتخابات لأفراد أو جماعات أو أحزاب أو تيارات بل هي إرساء قواعد التعايش المجتمعي، ومن ثم فإنه من الأهمية بمكان أن يعهد – في المقام الأول - لأولى العلم والخبرة وحدهم بوضع "القواعد الرئيسية" التي تضمن مستقبل الوطن – أي تحديد أسس المجتمع ومقوماته وأولوياته وأهدافه.. إلخ -، وكذلك بما يضمن التداول السلمي الديمقراطي للسلطة. في هذا المقام لا يصح أو يصلح أن توجد "أغلبية" تستقوى بكثرتها على "أقلية" سواء أكانت تلك الأقلية دينية أو إثنية أو عرقية أو جغرافية أو حتى "متعلمة"، وهذه حقيقة يعرفها الطالب المبتدئ في دراسة السياسة أو القانون. 
2-ما حدث أن جمعية تأسيسية يحيط بتشكيلها الشكوك استأثر بها تيار واحد بعد انسحاب كافة القوى المدنية الأخرى هي التي تولت وضع الدستور، فصار استفتاء الناس على  مشروع بني على باطل! يضاف إلى ما سبق أن جموع القضاة- وهم أهل القانون وسدتنه - ساندهم في ذلك جماعة من الدبلوماسيين – قد رفضوا أن يشاركوا في عملية تم إطلاقها في مناخ سياسي غير إيجابي بالمرة أثار شكوكا قوية حول الحدود المؤطرة لدولة القانون في مصر. 
3-عندما تكون نخبة الأمة وطليعتها المتعلمة فىي وادٍ وباقي المجتمع في وادٍ آخر، فإن هذا ليس دليل صحة أو مؤشر عافية مجتمعية بل إن العكس هو الصحيح، فمصر الآن أشبه بجسد بلا رأس أو على الأقل رأس لا تملك التأثير الكافي على الجسد. نعم ارتكز من مرروا الدستور على حقيقة أن شعبنا "الغلبان" لم ينل حظه من التعليم أو الصحة أو الرعايـــة الاجتماعية، ومن ثم فإن كل مفردات خطاب النخبة أو المثقفين بدت كطلاسم يتعذر فك شفرتها. نعم لم تفلح النخبة أن تسجلب – رغم جهدها - من التأييد أكثر مما حشدته، لانفصالها المجتمعي أو الفكري أو الاثنين معا، عن واقع مؤلم أليم تسبب فيه نظام يوليو برمته. فإذا كان الدستور هو عمل "نخبوي" بالضرورة، وتوافقيا بين كافة المجتمع بامتياز، فإن ما حدث يدحض في صدقيته وشرعيته على الأقل من وجهتي النظر الوطنية والأخلاقية. 
4-كان الخلاف سياسيا بالدرجة الأولى بين النخب وأهل الحكم، فتحول بفعل فاعل إلى خلاف ديني بين من يتصورون أنفسهم حماة الشريعة والأكثر تدينا وبين كل القوى الشعبية الرافضة لتحكم وسيطرة تيار واحد على مصر ما بعد 25 يناير. نعم تحول تناقض الاختلافات السياسية إلى لعب بالمشاعر الدينية لاستجداء تعاطف البسطاء وتأييدهم عبر استخدام الشعارات – وأحيانا المساجد – وكل ذلك أمور لا يمكن أن تتسق مع مصلحة وطن وأخلاقيات أمة تبحث عن مكانة لها تحت الشمس. 
5-لا يوجد في الدنيا شئ يبرر أو يستسيغ أن نوافق حاليا على مشروع الدستور، على أن نعهد للبرلمان المنتخب بعد أشهر قليلة بتعديل بعض المواد توطئة لكي تطرح للتصويت العام مجدد! هذا هو هزل بعينه في محل الجد.. ولو خلصت النوايا لتم التأجيل شهر أو شهرين لحسم الخلافات أو على الأقل تجاوزها بما يؤطر لتوافق مجتمعي ينعكس على نسبة التصويت فتأتي أقرب ما تكون لثلثي المجتمع أو يزيد. إن الدفع هنا أن بعض الدساتير في دول العالم المتقدمة مثل فرنسا قد مرت بفارق بسيط بين المؤيدين والمعارضين لا يستقيم لسبب اختلاف الظروف كلية. ففرنسا ديمقراطية عريقة أما نحن فلازالنا نتحسس خطانا على أولى مراحل التطور المجتمعي والديمقراطي مما يستوجب حتمية حشد موافقة السواد الأعظم من الشعب، ناهيك عن اختلاف جملة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن مستوى التعليم والوعي السياسي.. إلخ. نعم قد يصلح فارق بسيط مثل الواحد في المائة لكي يتولى رئيس الدولة منصبه، ولكن هذا الفارق الضيئل، حتى لو بلغ عشرين في المائة، لا يتسق مع صالح مصر مرحليا التي تحتاج إلى ترسيخ قضبان دستور راسخ لدفع قطار الوطن قدما. 
أغلب الظن أن غياب الشرعيتين الأخلاقية والوطنية عن الدستور بكل ما حاق به من معطيات سياسية أوجدت انقساما مجتمعيا حادا، سيعمل مثل "السوس" الذي ينخر أعمدة الخشب من داخلها دون أن يرى بالعين المجردة.. نعم سيتواصل "النخر" – بوتيرة سيفرضها المناخ السائد خلال الفترة القادمة – حتى تأتي لحظة أخرى فارقة تستهدي فيها مصر كلها إلى الحاجة إلى وضع دستور توافقي أطهر غاية وأكثر اتساقا مع الصالح العام.

-->

0 تعليقات:

إرسال تعليق