د.صهباء محمد بندق
كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه عالماً يفيض علمه ولا يغيض ... وفقيهاً ؛ يرجع إليه الصحابه في القضايا المُعضّلات فيحيلها حقائق واضحات .. ومع ذلك رفض أن يتولى منصب القضاء في عهد الخليفة الراشد ( عثمان ابن عفان ) ..!!
فقد أراده عثمان بن عفان لتولي القضاء ؛ فأرسل إليه ليشغل منصـب القضـاء ولكنه أبى ذلك ؛ واعتذر واستعفاه منه، خشية أن يظلم أحدا، أو يجور على حق أحد ؛. وكانت وظيفة القضاء من أرفع مناصب الدولة والمجتمع، وكانت تضمن لشاغرها ثراء، وجاها، ومجداً .
وكان قرار الخليفة : " إذهب فكُن قاضياً " قراراً مُسيلاً للعاب كثير من العلماء والفقهاء ؛ ولكن ليس ابن عمر .. فعندما قال عثمان لعبد الله بن عمر:
اقض بين الناس.
فقال :
لا أقضي بين اثنين ولا أؤم اثنين.
وعندما ألح عليه عثمـان رضي الله عنه ؛ أصرّ على اعتذاره ، فسأله عثمان مندهشاً :
أتعصيني ؟!!
فأجابه ابن عمر:
لا ولكنه بلغني أن القضاة ثلاثة : قاض قضى بجهل فهو في النار ؛ ورجل حاف ومال به الهوى فهو في النار ، ورجل اجتهد فأصاب فهو كفاف لا وزر ولا أجر ، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من كان قاضيّاً بِجَوْر كان من أهل النار .. ومن كان قاضياً يقضي بجهلٍ كان من أهل النار .. ومن كان قاضياً يقضي بالعدل فبالحرى أن ينقلب كفافاً ".. فما أصنع بهذا ؟ ! .. وإني لسائلك بالله أن تعفيني.
فقال عثمان :
فإني أعزمُ عليك .
فقال :
لا تعجل عليّ ..
فقال عثمان محاولاً إقناعه :
فإن أباك كان يقضي .
فأجابه :
إن أبي كان يقضي فإذا أشكل عليه شيء سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أشكل على النبي سأل جبرائيل ، وإني لا أجد ؛ فمن أسأل أما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
'من عاذ بالله فقد عاذ بمعاذ ..!'
فقال عثمان:
بلى .
فقال:
فإني أعوذ بالله أن تستعملني... أو يُعفيني أمير المؤمنين ؟!
فأعفاه عثمان وقال:
لا تخبر بهذا أحدا.
وقد أعفاه عثمان بعد أن أخذ عليه عهداً ألا يخبر أحداً برفضه ولاية القضاء ، لأنه يعلم مكانة عبد الله بن عمر في قلوب الناس ؛ وخشي إن عرف الأتقياء الصالحون عزوفه عن القضاء أن يتأثروا برأيه ويتبعوه وينهجوا نهجه ؛ فلا يقبلوه ؛ وعندئذ لا يجد قاضيا تقيا صالحا يتولى القضاء في خلافته... وقد تحسّب عثمان رضي الله عنه لذلك لأنه كان يعلم مكانة ابن عمر في أفئدة الناس، وثقتهم بدينه وعلمه وتقواه.
وبعد مقتل عثمان بن عفان، جاءه عدد من الصحابة يبايعونه خليفة للمسلمين لدينه وعلمه، وفقهه وعدله، لكنه رفض. وترك المنازعة في الخلافة مع كثرة ميل أهل الشام إليه ومحبتهم له .
وعندما كلفه عليّ بن أبي طالب- بعدما بايعه الناس- بالذهاب إلى الشام ليتولى إمارته ، اعتذر له و ترجاه بأن يعفيه ، فلم يقبل منه ، فظل ابن عمر يبحث عن المعاذير و استعان عليه بأخته أم المؤمنين حفصة–رضي الله عنها- ثم خرج ليلا إلى مكة فاراً دون علم من عليّ ، فلما سمع بأمره سكن وتوقف عن محاولات الضغط عليه لتولي أي إمارة من الإمارت.
قال ابن عمر: بعث إلي عليّ:
إنك مطاع في أهل الشام، فسر، فقد أمرتك عليهم
فقلت:
أذكرك الله وقرابتي من رسول الله وصحبتي إياه إلا ما أعفيتني
يكمل ابن عمر قائلاً : فأبى عليّ، فاستعنت عليه بحفصة، فأبى، فخرجت ليلاً إلى مكة، فقيل له: ' قد خرج إلى الشام' فبعث في أثري، فأرسلت إليه حفصة: ' إنه لم يخرج إلى الشام، إنما خرج إلى مكة.'
سبحان الله !!
وأين مثل ابن عمر في دينه، وورعه وعلمه، وتألهه وخوفه، من رجل تعرض عليه الخلافة فيأباها، والقضاء من مثل عثمان فيرده ونيابة الشام لعلي فيهرب منه ؟!!
فالله يجتبي إليه من يشاء، ويهدي إليه من ينيب .. ولهذا كان ابن عمر رضي الله عنه بعيداً عن مناصب الدنيا ؛ لأنه بن الآخرة ..
ولئن فاز غيره بالرئاسة والملك فقد فاز هو بمكانة العالم التقي الثقة، يتبادر الناس إلى سؤاله، ويتطلعون إلى أعماله، ويحفظون كلماته لا خوفاً ولا طمعاً، وإنما صحبة خالصة لله وهي منزلة أرفع وأسلم في الدنيا والآخرة وعند الله والناس.
وقد عرف المحيطون بابن عمر مكانته العلمية وزهده في الدنيا وإقباله على الله تعالى وحبه لرسول الله واقتدائه به وتعلقه بالدار الآخرة فأحبوه وارتفع قدره في نفوسهم وقلوبهم . وكان ابن عمر يعرف محبة الناس له ويتحدث عنها، قال مجاهد: كنت مع ابن عمر فجعل الناس يسلمون عليه حتى انتهى إلى دابته، فقال لي ابن عمر: يا مجاهد، إن الناس يحبونني حباً لو كنت أعطيهم الذهب والورق ما زدت !.
0 تعليقات:
إرسال تعليق