عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
توقف ونستون تشرشل الخطيب المفوه والسياسي البارع عن الاسترسال في كلمته حين قاطعه صوت معارض: "تريدني أن أنتخبك أنت؟ والله لو كان الشيطان خصمك لاخترته." وعندها توقف المهللون عن التصفيق والصفير وتعلقت الأبصار بحنجرة الرجل وشفتيه، وخيم الصمت على المكان حتى انفرجت أسارير تشرشل وداعب لسانه حلقه في تلقائية مدهشة ليفحم الممتنع عن التصويت برصاصة غير طائشة: "طالما أن صديقك ليس لي خصيما، يمكنك أن تصوت لي."
ليس للمبطلين صوت في معادلة حداها تشرشل والشيطان إذن، ولا خيار في ورقة الصمت يمنحنا فسحة من الأمل لتداول كبسولات الحرية. وطالما أن الذاهبين إلى صناديق الاستقطاب لا يملكون رفاهية كتابة سيناريو الحرية، عليهم أن يقرروا قبل وضع رؤوسهم في سلة الخيارات أن يختاروا القيد الأنسب لمعاصمهم. يمكننا أن ننحاز لتشرشل أو نختار الشيطان، فكلاهما خياران بائسان في أسواق الحرية الكاسدة.
وعلى القادمين من الشتات التوجه صوب اليمين أو نحو اليسار، فليس في ساحاتنا ثمة خيار ثالث - فقط هناك طرف ثالث ينفث في عقد التاريخ ليمزق شرايين الجغرافيا ويوزع أفراد الهم الواحد إلى فريقين خيرهما التشرشليون. ليس هناك ثمة مساحة بين النعم واللا إلا السقوط، وليس ثمة مكان لإقامة خيمة مشتركة توزع الأمل على البسطاء في عالم نسي قدميه وتقدم فوق عربة التناحر نحو هاوية مستحقة.
وليس هناك ثمة حاجة لتبرير العداء، فالعداء واجب في سنن الحروب، والكيد والتنابز بالألقاب والتاريخ شريعة النصال. ليهنأ المصفقون والرافضون بما كسبوا من أرض يابسة كغصة في حلق الوطن، وليخسأ الواقفون بين معسكري البذاءة والقبح والدموية. فلا معنى للوقوف في زمن الكراهية فوق حد رفيع كشفرة الموسى ليصبح المرء عرضة لسهام تشرشل ورماح الشيطان.
قديما، كان الذاهبون إلى الحرب يعرفون الفارق بين كعب البندقية وفوهتها، لكننا اليوم نحمل رؤوسا معرضة للانفجار من أي خلف ومن كل أمام. ما الفارق بين موتة وأخرى طالما أننا على أي جنب من جوانب الخزي شهداء؟ منا شهيد ومنهم شهيد، هكذا تفرض الحروب خسائرها على المقترعين بنعم أو الموقعين بلا. فباسم تشرشل أو باسم الشيطان، سيقيم الموت مملكته فوق جماجم البسطاء الذين أنهكهم الصمت عقودا حزينة.
وباسم الحرية سنتقاتل، ويطارد بعضنا بعضا فوق جبال التخلف وفوق سهول الأحزان. وسنحمل أكفاننا باسم تشرشل أو باسم الشيطان لنمضي قدما نحو الموت رافعي الرؤوس كمن انتصروا على ظلالهم في شعاب الكراهية. إلى صناديق الاقتراع سنمضي مهتدين بأحقادنا وسخائم قلوبنا، وسننتصر على الفراغ والبلادة بعلامات فوسفورية تحمل الحبر نفسه وإن كانت لا تحمل الأناشيد نفسها. لكل فرقة إذن كأس وحسناء، وللشعب البائس الصبر والسلوان في أمل انشطر إلى قوسين معكوسين فوق خارطة الوطن.
يوم عاد الشاعر فيليب توماس من الحرب العالمية الأولى كث الشعر مغبر الجبين، سأله قومه: "عن أي شيء كنت تقاتل يا فيليب؟" عندها انحنى المأسوف على خياراته وأمسك بعض القاذورات بيديه وفركها بين أصابعه، ثم رفع رأسه ليقول: "عن هذا."
0 تعليقات:
إرسال تعليق