عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
كان الفنان جيمس آرنس من الفئة المغبونة التي قُدِّر عليها أن تكون طرفا في حرب لا ناقة لها فيها ولا أرنب. فيوم نفخت الحرب العالمية الثانية أبواقها، وجد الرجل نفسه رقما في طابور طويل بين جنود المشاة الذين لا يعرفون هدفا لأقدامهم. ولحظه العاثر سقطت الطائرة التي كانت تقله ورفاقه فوق إحدى الشواطئ القريبة. يومها ظن الجند أنهم مدركون، وأمسكوا بتلابيب الرجل مناشدين إياه كي يقود هياكلهم الواهنة نحو أي خلاص.
أجمعت الكتيبة يومها على اختيار آرنس زعيما واصطفوا خلفه في مشهد مثير كما اصطفت إماء عبس ذات رعب خلف زند عنترة. الغريب أن الرجل لم يكن حتى ذلك الحين معروفا بين رفاقه إلا بقامته الطويله وساقيه النحيلتين، وهو ما أهله ليكون مثار سخرية الرفاق كلما أرادوا أن يسمروا. صحيح أنه كان ذرب اللسان متحذلقا، يجيد نفخ حنجرته ورفع عقيرته كأوبرالي من الطراز السمين، ويحترف تقليد القادة وإلقاء النكات ويستطيع أن يقنع القرد بالمواء، إلا أنه لم يكن يتحلى بأي قدر من الحكمة أو الشجاعة أو حسن التقدير. فلماذا ألقيت كل الأصوات في صندوقه يومها يا ترى؟
طول القامة كان مؤهل الرجل الوحيد لقيادة وحدة من المشاة ذات حرب لأن مياه المستنقعات التي كان على الجند اجتيازها عميقة، وكان على الرجل أن يعمل مسبارا يجس الأعماق ليقي قصار الجند من غرق محتوم.
هكذا يكتشف القادة أنفسهم ذات هزيمة، فيتقدمون الصفوف ويخوضون غمار الفوضى لا لمؤهلات عقلية ولا لفرادة روحية ولا لحنكة سياسية ولا لولاء أو انتماء. مقياس القيادة ساعة الهزيمة جد مختلف يا سادة، والقادمون من الصفوف الخلفية ليسوا بالضرورة أفضل المنكوبين، لكنهم حتما الأكثر حظا بين التعساء.
آن أن يكتشف قادة الربيع المصري أنفسهم بعد تحطم سفينة الثورة على صخور الحقائق الدميمة. وآن أن يصفق الجميع لأي قادم من الخطوط الخلفية للحلم ليتقلد صهوة الثورة الجموح نحو أي انتحار. فمؤهل الزعيم الملهم قائد الزوابع الثورية ملهم الحشود اليوم يتمثل في قدرته على حشو فمه بالإساءات والبذاءات للرئيس وجماعته؟
حدث الشيء نفسه إبان ثورة فبراير 1848 الفرنسية، حين حاول ألكسندر روان اختراق صفوف الجند والالتحاق بالجماهير الغاضبة. إذ استوقفه أحد الجنود عند أحد الحواجز، فصاح في وجهه: "أريد أن ألحق بهم، فأنا قائدهم." لكن القادة الذين يأتون متأخرين يركبون حمار الثورة بالمقلوب فيجعلون الثورة أضحوكة ويحولون الثوار إلى جوقة من المهرجين الذين لا يجتمع الناس حول وجوههم إلا لمساحيقهم الصارخة وألوانهم المتنافرة.
حين ينظر المرء اليوم إلى من يعتلون منابر الثورة ويتحدثون باسمها، يشعر بالغثيان والمرارة. ألمثل هؤلاء النفر قامت ثورتكم أيها الثائرون؟ لكنها الفتنة العمياء التي أطاحت بما تبقى لديكم من حكمة فأصبحتم لا تميزون بين ثائر وثور. اليوم لا يملك المرء إلا أن يضع يده فوق فمه كي يكتم صرخة الدهشة والألم وينسحب من المشهد الساخر في حسرة بالغة، وهو لا يكاد يصدق ما يرى، وصوت آبي هوفمان يتردد صاخبا في جنبات روحه الكسيرة: "أول ما يتوجب على الثائر فعله أن يفر من ثورته."
كان الفنان جيمس آرنس من الفئة المغبونة التي قُدِّر عليها أن تكون طرفا في حرب لا ناقة لها فيها ولا أرنب. فيوم نفخت الحرب العالمية الثانية أبواقها، وجد الرجل نفسه رقما في طابور طويل بين جنود المشاة الذين لا يعرفون هدفا لأقدامهم. ولحظه العاثر سقطت الطائرة التي كانت تقله ورفاقه فوق إحدى الشواطئ القريبة. يومها ظن الجند أنهم مدركون، وأمسكوا بتلابيب الرجل مناشدين إياه كي يقود هياكلهم الواهنة نحو أي خلاص. أجمعت الكتيبة يومها على اختيار آرنس زعيما واصطفوا خلفه في مشهد مثير كما اصطفت إماء عبس ذات رعب خلف زند عنترة. الغريب أن الرجل لم يكن حتى ذلك الحين معروفا بين رفاقه إلا بقامته الطويله وساقيه النحيلتين، وهو ما أهله ليكون مثار سخرية الرفاق كلما أرادوا أن يسمروا. صحيح أنه كان ذرب اللسان متحذلقا، يجيد نفخ حنجرته ورفع عقيرته كأوبرالي من الطراز السمين، ويحترف تقليد القادة وإلقاء النكات ويستطيع أن يقنع القرد بالمواء، إلا أنه لم يكن يتحلى بأي قدر من الحكمة أو الشجاعة أو حسن التقدير. فلماذا ألقيت كل الأصوات في صندوقه يومها يا ترى؟ طول القامة كان مؤهل الرجل الوحيد لقيادة وحدة من المشاة ذات حرب لأن مياه المستنقعات التي كان على الجند اجتيازها عميقة، وكان على الرجل أن يعمل مسبارا يجس الأعماق ليقي قصار الجند من غرق محتوم. هكذا يكتشف القادة أنفسهم ذات هزيمة، فيتقدمون الصفوف ويخوضون غمار الفوضى لا لمؤهلات عقلية ولا لفرادة روحية ولا لحنكة سياسية ولا لولاء أو انتماء. مقياس القيادة ساعة الهزيمة جد مختلف يا سادة، والقادمون من الصفوف الخلفية ليسوا بالضرورة أفضل المنكوبين، لكنهم حتما الأكثر حظا بين التعساء. آن أن يكتشف قادة الربيع المصري أنفسهم بعد تحطم سفينة الثورة على صخور الحقائق الدميمة. وآن أن يصفق الجميع لأي قادم من الخطوط الخلفية للحلم ليتقلد صهوة الثورة الجموح نحو أي انتحار. فمؤهل الزعيم الملهم قائد الزوابع الثورية ملهم الحشود اليوم يتمثل في قدرته على حشو فمه بالإساءات والبذاءات للرئيس وجماعته؟ حدث الشيء نفسه إبان ثورة فبراير 1848 الفرنسية، حين حاول ألكسندر روان اختراق صفوف الجند والالتحاق بالجماهير الغاضبة. إذ استوقفه أحد الجنود عند أحد الحواجز، فصاح في وجهه: "أريد أن ألحق بهم، فأنا قائدهم." لكن القادة الذين يأتون متأخرين يركبون حمار الثورة بالمقلوب فيجعلون الثورة أضحوكة ويحولون الثوار إلى جوقة من المهرجين الذين لا يجتمع الناس حول وجوههم إلا لمساحيقهم الصارخة وألوانهم المتنافرة. حين ينظر المرء اليوم إلى من يعتلون منابر الثورة ويتحدثون باسمها، يشعر بالغثيان والمرارة. ألمثل هؤلاء النفر قامت ثورتكم أيها الثائرون؟ لكنها الفتنة العمياء التي أطاحت بما تبقى لديكم من حكمة فأصبحتم لا تميزون بين ثائر وثور. اليوم لا يملك المرء إلا أن يضع يده فوق فمه كي يكتم صرخة الدهشة والألم وينسحب من المشهد الساخر في حسرة بالغة، وهو لا يكاد يصدق ما يرى، وصوت آبي هوفمان يتردد صاخبا في جنبات روحه الكسيرة: "أول ما يتوجب على الثائر فعله أن يفر من ثورته."

0 تعليقات:
إرسال تعليق