Ads

خريف حول الميادين


عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات


عام 1956، ذهبت إليزابيث ذات أحد لحضور قداس في وارسو، وكانت بولندا آنذاك تحت الوصاية الروسية، وكان الفكر الشيوعي أكثر رواجا من تمر الجزيرة في الجاهلية. لكن المرأة لم تجب شوارع فرصوفيا وحدها، إذ كان البروتوكول الأيرلندي يقتضي أن يصطحبها أحد أقطاب الشيوعيين إلى هناك. 
نظرت المرأة نحو مرافقها بإخمص لحظها وسألت: "هل أنت كاثوليكي؟" قال الرجل دون أن ينظر إليها: "مؤمن نعم، لكنني غير ممارس." توقفت المرأة للحظات حتى تتمكن من هضم عبارته المستفزة، وحدقت فيه بكامل وعيها، وتابعت: "تريد أن تقول أنك شيوعي إذن؟" فأجاب الرجل ببساطة كمن تعود على أسئلة من هذا النوع: "أمارس الشيوعية سيدتي، لكنني غير مؤمن بها."
كان سؤال المرأة تقليديا للغاية، جديرا بمقدمة برامج في فضائياتنا التافهة، لكن الإجابة كانت صريحة بامتياز، مما استدعى المرأة المندهشة إلى إلحاق حافر سؤالها الثاني ببطن قدم سؤالها الأول. لكن سؤالها لم يرتق تلك المرة أيضا إلى مستوى الرفيق، مما استدعى إجابة غير اعتيادية من رفيق غير اعتيادي. 
وهو نفس الخطأ أو نفس الخطيئة التي سقط فيها إعلامي تافه حين وجه إلى رأس أيزنهاور الكبيرة حين أعلن عن نيته الترشح لانتخابات الرئاسة الأمريكية سؤالا يقول: "هل أنت جمهوري أم ديمقراطي؟" يومها أجاب الرجل ببراءة غير مفتعلة: "أمريكي يا صديقي."
في بولندا، فرق الناس بين الدين والتدين، وبين الإيمان والعمل. فهناك، ذهب الناس إلى الكنائس ومارسوا الشعائر وحضروا القداسات، لكنهم في أعماقهم أدركوا أنهم شيوعيون جدا، وأن التمسح بالمقدسات لا يغني من الحق شيئا. أدرك الناس في بولندا وهم يهرولون نحو دور العبادة أنهم يقولون ما لا يفعلون، ويمارسون في الواقع ما يصطدم مع روح إيمانهم العميق. وعلموا أن البون بين الممارسات والشعائر جد شاسع، وأنه لا حاجة بهم لطمر الحقائق أمام الزائرات. 
وفي أمريكا، لم يجد الرجل المتقدم فوق أقرانه المرشحين وقرونهم حرجا في إعلان عقيدته الثابتة أمام أعين الكاميرات المشدوهة، لأنه كان يعلم يقينا أن لا حاجة للواثقين من عقائدهم في التجمل أمام الكاميرات أو تكرار الإجابات الفصيلية المتبجحة أمام المشاهدين المتربصين بالحروف. 
أما في بلادنا التي لا تغيب عن ميادينها الربيعية أقدام الثائرين، فلا نمتلك جرأة الاعتراف بأننا متدينون بلا شواهد، ومؤمنون بلا دليل. وأننا ديمقرطيون بلا عقيدة وليبراليون بلا انتماء. في بلادنا المغلوبة على أحزانها، لا يجد المتدينون ما يزدهون به إلا لحى طويلة وسراويل قصيرة، تناسب فلكلورية المليونيات المطالبة بتطبيق الشريعة. ولا يجد الليبراليون حرجا في مهاجمة من ينزل إلى ساحات الميادين الربيعية دونهم، ليتهموه بكل نقيصة مخالفين أبسط مبادئ الحريات التي يصمُّون بها آذاننا ليل نهار.
في شوارع مدننا الربيعية جدا، يغيب الله عن نداءاتنا وشعاراتنا، ويغيب الدين عن فعالياتنا وممارساتنا، وتغيب الديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية. وحول مياديننا الحرة جدا، تلتف أعداد غفيرة من الأطفال المشردين والأسر البائسة. وأمام استوديوهاتنا الفارهة يقف التاريخ متعجبا من شعب بلا هوية ودين جديد يبشر به القادمون من أقصى الجراحات القديمة.    
وسط الميادين وحولها، تلتئم الأقدام تارة وتختلف تارة، في انتظار موسى الذي ذهب بالألواح إلى جبل الطور ولم يعد. وسط الميادين تصنع كل فرقة طوطما تحج إليه وتناديه في سعيها الحثيث نحو التيه. وحول الميادين يستمر الباعة الجائلون يصرخون بنبراتهم، الحادة ليلفتوا أنظار المتدينين جدا والليبراليين للغاية إلى أوجاعهم وإلى أياديهم المعروقة ووجوههم البائسة علهم يعودون من الربيع بقصاصة من أمل إلى أطفال أنهكهم الجوع واليأس والمرض.

-->

0 تعليقات:

إرسال تعليق