لبنى ياسين
يقول فنسنت فان غوغ في رسالة لأخيه"وبدلاً من أن أدع اليأس يجرفني اتخذت طريق الكآبة النشطة ما دامت قادرة على النشاط. أو بكلمة أخرى، فضلت الكآبة التي تنتظر، وتسمو، وتبحث، على المهزومة، المشلولة، اليائسة.".
فان غوغ رسام مبدع ُتباع لوحاته بأسعار خيالية خلال مزادات علنية يتهافت عليها محبو الجمال والفن رغبة في اقتناء رائعة من روائعه، تتجاوز أسعار لوحاته الخمسين مليون دولار، وتسرق أحياناُ، وتزور، وتدّرس لوحاته في كليات الفنون الجميلة في جميع أرجاء العالم، هذا الرسام كان يبات جائعا لأيام طوال، وعانى من الفاقة الشديدة، ومن نوبات مرض عقلي (الصرع) قيل أنه قطع في إحداها أذنه، وُأرجح بعدها أن صديقه الفنان غوغوين المبارز الماهر هو من فعلها بعد خلاف دب بينهما أراد الأخير بعده أن يغادر المنزل الذي يتشاركان في سكناه، فلحق غوغ به، وتفاقم الخلاف، وقطع غوغوين أذن صديقه، ورمى السيف في نهر الرين، إلا أن غوغ فضل الصمت حفاظا على الصداقة التي بينهما.
كل منا – ما دام مخلوقاً حياً يحمل قلباً ينبض- يعاني من شيء ما، كبرت معاناته أم صغرت، اتسعت أو ضاقت، الأمر نفسه نخضع إليه جميعاً، فمن مريض، إلى فقير، إلى متملل، إلى ثكلى، إلى معاق، وأعمى، وضجر، ويتيم، وعاطل، وفاقد....وعددوا ما شئتم فهناك من المعاناة ما يفوق حدود تفكيرنا.
وكل معاناتنا- على قساوتها وبشاعتها، أو بساطتها..كلها دون استثناء تهون ما دام البال خالياً والضمير مرتاحاً، والواحد منا يعلم تماماً بينه وبين نفسه أنه لم يؤذِ أحداً ولا هو ظلم كائناً..على الأقل ليس بشكل مقصود.
وربما لو فكرت قليلاً صديقتي لتذكرت أن الإبداع يولد من رحم المعاناة، وأن أكثر المبدعين كان لديهم من الألم ما يفوق قدرتهم على التحمل، ففجروه ألواناً وكلمات أثمرت عن خروج أوجاعهم بشكل جميل، صفق له الجمهور طويلاً.
لا أعتقد أن فان غوغ استفاد من الملايين التي بيعت بها لوحاته، بعد أن جمعت تلك اللوحات من هنا وهناك، حيث كان يقايض خبزه بلوحة، وأجرة البيت بأخرى، إلا أنه ترك أثراً لا يمحى في ذاكرة الجمال، وصار اسمه يتردد بين العظماء والمشاهير، بينما عانى غيره وتألم وحزن وبكى ، ثم مات ولم يترك أي أثر ينبئ عن مروره في هذه الحياة.
فلم لا نحول معاناتنا..كبيرة كانت أم صغيرة..ونشحن قدرتنا التعبيرية في استخراج مشاعر الألم بشكل مميز يترك أثراً جميلاً، ويبقى دليلا على مرورنا العابر على الأرض، وهل هناك أجمل من أن نحول القبح جمالاً؟
"القضية" كما يقول الفنان غوغ :" تكمن في أن نخرج، بكل الوسائل، بشيء ما مفيد من هذه الانفعالات".
والسؤال الذي يجب أن نقف عنده طويلا كما يخبرنا نفس الفنان:"إنني أنفع لشيء ما، وهذا ما يسوغ لي حياتي. أعرف أن بإمكاني أن أصبح رجلاً مختلفاً تماماً. ُترى، لأي شي أنفع؟ أين أخدم؟ هل ثمة شيء في داخلي؟ ما هو؟".
هذا الفنان مات في السابعة والثلاثين من العمر، تاركا وراءه الكثير من الجمال، حيث كان يصطحب ألوانه معه أينما ذهب، ويرسم في كل مكان، في البيت والشارع، نهاراً وليلاً ، برداً أو حراً، ولكثرة ما كان يرسم كان ينهي لوحة في اليوم الواحد، وهو أمر لا يحدث عادة عند الفنانين التشكيليين بتلك السهولة، إذ أن اتخاذ القرار بإنهاء هذه اللوحة أو تلك...صعب جداً بالنسبة لأكثر الفنانين، وقد يستغرق شهوراً وهم يضيفون ويغيرون حتى يستشعروا لحظة انتهاء اللوحة ووضع التوقيع عليها.
هل هو من قبيل الصدفة أن الكثير من أصحاب الاحتياجات الخاصة أبدعوا في مجالات مختلفة في الحياة مثل أبو العلاء المعري، وبيتهوفن، طه حسين، وهيلين كيلر الكفيفة الصماء...وغيرهم الكثير؟ وهل من قبيل الصدفة أن يكون ثلاثة من أشهر المبدعين مصابين بذات الداء العقلي" الصرع"هم فان غوغ، وديستويفسكي، وفولبير. أم أنها حقاً المعاناة..وطريقة التعبير عنها واستخراجها من النفس؟
0 تعليقات:
إرسال تعليق