إيمان عزمي
وصلتنا معلومات عنه لنجد أن بينه و بين أصغرنا ما لا يقل عن خمسة و عشرون من الأعوام، صعقتنا المفاجأة التي أشعرتنا أنهم يخبرونا بطريقة ودية أنه حان وقت رحيلنا في صمت ليستعمر مكاتبنا المتهالكة مثلنا وافدين جدد. ولعشرة أيام منذ إعلان النبأ لم يكن هناك ما نتحدث عنه سوى حياتنا المشتركة في ذلك المكتب الذي سيندس فيه قريبا ليصبح زميلا لنا عليه مشاطرة حياتنا البائسة عنوة بحياته المفعمة بحيوية الشباب ليذكرنا دائما بشيخوختنا.
لم يكن أي من خمستنا يستطع تخيل الوافد الصغير بدون البنطلون الساقط عن الوسط الذي تبدو منه الملابس الداخلية للشباب و كأنهم يتفاخرون بها أو ذلك القميص المفتوح الصدر التي تظهر منه سلسلة فضية تذكرنا بأيام ذهبت و ذهب معها شبابنا الذي لن يعود أبدا. و كان شغلنا الشاغل أي الأماكن سيحتلها؟! و من منا سيتحمل الوافد الجديد كجار له سيجور بلا شك على علاقة اثنين منا دامت أكثر من خمسة و عشرين سنة ليشاطره هو تقلبات الحياة من فرح و حزن.
داخلنا شعور منذ علمنا بالخبر أن المياه الراكدة في مكتبنا تحركت لأول مرة منذ سنوات لتخرج عن الحديث عن الحياة القاسية و تدهور ثمننا كمواطنين ليزداد سعر أي منتج أمامنا حتى لو كان سعر نملة. و لوهلة فكرنا لو كان الوافد الجديد هو بداية لوافدين جدد آخرين. ماذا سيكون علينا أن نفعل؟ هل سننزوي في أحد الأركان لتستطيع المكاتب المجهزة بأجهزة كمبيوتر له و لغيره أن تستعرض عضلاتها أمامنا فتزداد مع ازدياد مكاتب الزاوية التي ستمثلنا حتما؟!
لم نفعل بعد إعلان المدير قـُرب انتهاء أوراقه سوى إضفاء مزيد من التصور على أحداث أيامنا معه كعجائز ربما نرى ضحكاته الساخرة علينا في عيونه التي ستكون حتما وقحة كعيون شباب اليوم. و انتظرنا رؤيته بشغف فتيات زمن كن فيه يرون أزاوجهن لأول مرة يوم الزفاف.
.~.~.
دخل عامل النظافة الذي كان يدخل يوميا مكتبنا للحديث عن الوافد الجديد لكنه تلك المرة فاجأنا بالقول:
_ لن تصدقوا الأمر. لقد اعتقدته ...
و بترت العبارة عندما اخترقها صوت المدير من خلفه، فاختفى العامل كأن لم يكن له وجود في المكان بينما ارتفعت عيوننا في اتجاه الباب حيث بدا لنا الوافد الجديد كظلٍ و هو يقف خلف المدير.
تطلعنا جميعا لرؤيته برؤوس ممطوطة للأمام و عيون يأكلها الفضول ثم أفسح المدير له الطريق و هو يعلن عن قدومه فاستقبلناه بشهقة واحده خرجت منا جميعا _ كأنها تخرج من حنجرة تنين مفزوع _ دون أن يسعفنا الوقت لكتمانها.
كان يملك أكثر الوجوه التي يمكن أن تقابلها شحوبا في حياتك.. حتى أن نظرة منك علي وجهه ستجعلك تقسم أن الشحوب قد خلق من أجله وحده. كنا نرى ملامحه كوجه ميت يتحرك وسطنا، فعلى عكس وجهه الشاحب كانت حركته متزنة، لا بطيئة بطء القبور و لا سريعة متهور.
انصرف المدير و ترك لنا حرية التعارف به بعد أن قدمه بجملة سمعناهما مسبقا من عامل النظافة:
_ سمير زميلكم الجديد خريج تجارة، فلتعتنوا به جيدا.
لم يكن التعرف عليه بالأمر الصعب بالرغم من هدوءه الملل، فقد جاوبنا علي أسألتنا الكثيرة التي تشمل معلومات عنه و التي كان أهمها هي كيف عمل معنا بدون أن يملك (واسطه) مما جعل مهرج المكتب يقول بضحكته الصاخبة:
_ يكفي أن يخبرهم أنه على وشك الموت ليوافقوا عليه دونها.
ثم أكمل ضحكاته المجنونة بينما لم يعلق هو، فزجرنا صديقنا ناعتين إياه بالعجوز المخرف. ثم انزويت بسمير لأريه مكتبه موضحا له ألا يزعج نفسه بتلك التعليقات فلا أحد يهتم بها سوا قائلها. لكني حقا كنت اهتم بهذا التعليق بل كنت حانقا جدا من أفصاح صديقنا له، فبسببه لم استطع أن أسأله يومها عن سبب شحوبه بل اضطررت أن أؤجل السؤال لأسبوع كان الفضول يراوغني خلاله و أخيرا شعرت أنه قد اطمئن إليَّ فانتهزت الفرصة و سألته.
كنت أتوقع أن يجاوبني بمرض شديد لكنه لم يقل أكثر من:
_ هكذا خلقت شاحب الوجه
بالطبع لم أصدق جملته بل أقسمت بيني و بين نفسي أنه يخفي سر كبير لكني لم أشأ أن أخسره بإلحاحي، فقد بدا مغايرا لتوقعنا حيث كان يضفي مزيد من الهدوء على المكان كلما مر الوقت و كأنه يصبغنا جميعا به.
ظل شحوبه طوال شهره الأول معنا هو محور حديث المكتب و كادت الأفواه أن تغلق حتى كان اليوم الثاني من الشهر الثاني حين دخل علينا بوجه أثبت أن شحوبه في اليوم الأول له معنا ما هو إلا البداية لموته الوشيك، فانفتحت كل الأفواه كأنها لن تغلق أبدا.
اندفعنا جميعا في اتجاهه بمجرد رؤيته و بدا لنا كالابن الذي ولده رحم مكتبنا. ووصل قلقنا ذروته و نحن نسأله بجزع جماعي عما حدث له، لكنه طمأننا بصوت رزين خلا من المرض أنه في أتم صحة و إلا ما حضر للعمل في موعده المعتاد و أننا سنعتاد على الأمر قريبا.
لم استطع تلك المرة أن أؤجل فضولي بل انتهزت مغادرته للمكتب و لحقت به لأعرف سر شحوبه الذي أشعرني تلك المرة أنه الشبح الذي رأى ميتخارجا توا من القبر. و على الرغم من أن علاقتنا لم يتعدى عمرها الشهرين إلا أني شعرت بالمسئولية اتجاهه لم أعرف سببها، فلم أتورع عن مراوغته لمعرفة الأمر لكنه كلما زدت في المراوغة رد عليّ بردود بسيطة مصحوبة بابتسامة هادئة تخبرك أنك تبحث عن سراب.
استمر الأمر بضعة أيام ثم عاد لدرجة شحوبه التي اعتدناها حتى أصبح الأمر يتكرر بصورة روتينية، ففي كل مرة يصبح وجهه كميت يسير مفتوح العينين ثم تعود ملامحه تهدأ لتصبح شاحبة شحوب المرض لكنه ما تذمر قط بل دائما ما يضحك ضحكاته الهادئة و يحدثنا عن وطننا المليء بالجمال و الذي يحتاج فقط لمن يشعر به.. أحاديث قليلة لكنها أقرب لعرض تأملات جذابة تشعرك أنه شاعر فيلسوف.
عام.. عامان.. ثلاثة.. خرج على المعاش من خرج و جاء من الوافدين الكثيرون و رحلوا جميعا دون أن يُخلّفوا أثرا في نفوسنا قط. أما هو فلم يمت كما توقعنا رغم تزايد شحوبه المرعب و الذي لم يؤخره يوما عن العمل المضني.. اليوم نحتفل معه بعيد مولده الثلاثين منتظرين أن تكشف لنا الأيام سر شحوبه قبل أن نترك له جميعا المكتب خاويا.
0 تعليقات:
إرسال تعليق