الدكتور عادل عامر
في كل مجتمع ثمة نوعان أو مستويان للسلوك الإنساني الأول: السلوك المثالي الذي ترسمه شريعة المجتمع وأنظمته، ويمثل ما يجب أن يكون عليه العمل، والثاني: السلوك الواقعي الممارس فعلاً في المجتمع، ويمثل ما عليه العمل في الحقيقة، وغالباً ما يعتريه نقص عن النوع الأول المثالي، فإذا جاوز هذا النقص الحد المسموح به اجتماعياً أو نظامياً صار انحرافاً يستوجب نوعاً من العقوبة.
وهذا يعني أن ليس كلُّ نقصٍ عن المثالي يستوجب عقاباً، فالكثيرُ من المخالفات المحدودة تكون ضمن الحدِّ المسموح به اجتماعيّاً ونظاميّاً، كما أنَّ العقاب الذي قد يستوجبه الانحراف عن الأمثل في الغالب لا يكون متساوياً في نوعه أو في درجته من حيث الشدة أو اللين.
هذه الثنائية في الحياة الواقعية بجميع أبعادها وأشكالها والمتغيرات الداخلة فيها هي ميدان الظواهر التي تشكل موضوعاً لشتى التخصصات والدراسات في فروع العلوم المختلفة، ومنها ظاهرة التقاضي، فمما لا شك فيه أن القاضي يجد فرقاً بين القضاء المثالي والقضاء الممارَس، فالجانب المثالي ليس مرتبطاً بنقص الموارد والقدرات، أما الجانب الواقعي الممارس فهو مقيد بالإمكانات والقدرات، والتقاضي كظاهرة اجتماعية يتم حسب قواعد ومتطلبات تتحكم فيه، ومن سمات هذه الظاهرة وجود حالة من الثنائية السلوكية، تتمثل في الفرق بين القضاء المثالي، والقضاء الممارَس، فلا يوجد إنسان لديه تمام القدرة على تحصيل الصورة المثالية للعمل، فالصورة المثالية للعمل تتطلب أن يكون لدى المكلَّف معرفة تامة وفهم كامل وقدرة على التحكم بالبيئة المحيطة به؛ لذا فهو مستحيل، فلا بد من حصول فرق بين المثالي والواقعي؛ لذا لا يمكن الاحتراز من الفرق اليسير بين المثالي والواقعي، ولا تكون هذه الحقيقة عذراً لتبرير الابتعاد المتعمد عن المثالي بتقصير أو نحوه بحجة أن المثالي مستحيل، فالحق المقدور عليه لابد من إتيانه والسعي لتحصيله قال العز بن عبد السلام: "لا يُترك الحقُ المقدور عليه من أجل الباطل"، كما أن التحصيل المطلوب يكون حسب الاستطاعة،
قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) متفق عليه من حديث أبي هريرة. واختلاف الاستطاعة ونقصها عن القدرة التامة هي سبب في وجود ثنائية وفرق بين المثال المطلوب والتطبيق الواقع، وذلك يمثل فجوة سلوكية يجب ردمها، ومع ذلك فإن تحقيق وحدة التقاضي ممكن ومن باب أولى عند المسلمين حتى وإن كان كل إنسان بنفسه لا يستطيع أن يكون مثالياً بصفه تامة أو دائمة ويمكن تدارك جوانب القصور عبر تعلم العلم النافع وتعود العمل الصالح، ثم إن طبيعة وجود هذه الثنائية في ظاهرة التقاضي وكيفية التعامل معها وتعدُّ من أهم الموضوعات التي يدرسها علم اجتماع القانون،
وهي موضوع هذا العمل الذي سيتطرق إلى بيان أهم العوامل والمعطيات الاجتماعية التي تكمن وراء الانحراف عن الصورة المثالية الموصوفة في الأحكام القضائية والأنظمة المرعية. وهكذا أصبح تجريم الأفعال ضد الإنسانية تدريجيا وقيما نبينه لاحقا – من المعطيات الثابتة التى استقرت في مبادئ القانون الدولي والتي أصبحت محسومة ولا مجال لأي خلاف حولها، والتي تشكل التزاما آمرا في القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي العام.. وتنطلق مشروعية تجريم الأفعال التي تنتهك الإنسانية من تواري مجالات الشئون الداخلية التي يحرم ميثاق الأمم المتحدة التدخل الخارجي فيها مع النمو المضطرد للتعاون الدولي في كل المجالات مما جعل مفهوم ال interdependence يطغي علي مبدأ الاستقلال dependenceالأمر الذي ضيق كثيرا من نظرية السيادة الوطنية بصفة عامة وفي مجال حقوق الإنسان بصفة خاصة بحيث الذي لم يعد انتهاك حقوق الإنسان في داخل الدولة محصنا بمبدأ السيادة وعدم التدخل في الشئون الداخلية فلم يعد الحكام في مامن من الملاحقة والمحاسبة والمساءلة عما يرتكبونه من انتهاكات لحقوق شعوبهم الإنسانية من المجتمع الدولي، ولم يعد مقبولا الاحتماء بمقولة أن هذه الانتهاكات هي من صميم الشئون الداخلية ومن ثم يمتنع علي المجتمع الدولي ملاحقتها.
وليس هذا بغريب عن الفكر الإنساني فطالما تواردت أحلام الفلاسفة والكتاب منذ قرون عن وجود عالم موحد تسوده مكارم الأخلاق (المدينة الفاضلة يوتوبيا عند افلاطون وتوماس مور) وكتابات القديس توماس مور في لقرن الخامس عشر. وليست فكرة المدينة الفاضلة فكرة غربية خالصة، بل هي فكرة لها تاريخ في الفلسفة الإسلامية، لا سيما مع الفارابي في القرن الرابع الهجري وكتابه “آراء المدينة الفاضلة” الذي طرح فيه فكرته عن المعمورة الفاضلة كأعلى أشكال الاجتماع الإنساني.
وقد تحققت أحلام هؤلاء الفلاسفة اعتبارا من عام بإنشاء عصبة الأمم التي تطورت الى منظمة الأمم المتحدة وهي التي انتزعت صلاحيات أوسع بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945. ومنذ ذلك اليوم لعبت المنظمة الدولية دوراً بارزاً في تنظيم العلاقة بين دول العالم لاسيما في حفظ السلام. ومع تسارع التطور في عالم متغير نحو التقارب وتلاقي المصالح، تزايدت صلاحيات هذه المنظمة الدولية،
ونمت الحاجة الى دور المجتمع الدولي اكثر فاكثر، ليس في حفظ السلام ومنع الحروب بين الدول فحسب، بل وتوسعت صلاحياتها وخاصة في الفصل السابع من ميثاق المنظمة الدولية الى حماية الشعوب من حكامها. وهذه في الحقيقة نقلة نوعية في الحضارة البشرية لصالح الشعوب المضطهدة من قبل حكامها. فلا سيادة وطنية كاملة الا في ظل حكومة شرعية أي منتخبة من قبل الشعب. ومعظم الحكومات المستبدة هي حكومات غير شرعية بالمعنى العصري ولذلك فلا سيادة حقيقة لها أصلاً لكي تدعي انتهاكها،
لأن هذه السيادة الوطنية هي بالأساس منتهكة من قبل الحكومات المستبدة. برزت بعض القواعد والعادات والتي تبلورت في قواعد قانونية مكتوبة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ويعد تصريح باريس الصادر في 16إبريل 1856 أول وثيقة دولية مكتوبة تنظم بعض الجوانب القانونية للحرب البحرية.
وجاء إعلان سان بيترسبورج بشأن حظر استعمال المقذوفات في وقت الحرب والموقع في 11ديسمبر 8681، ليعلن أن التقدم الحضاري يجب أن يخفف قدر الإمكان من نكبات الحرب، وأن الهدف المشروع الوحيد الذي يجب أن تسعي إليه الدول أثناء الحرب هو إضعاف القوات العسكرية للعدو مع مراعاة المبدأ الأساسي الذي يقضي بأن حق أطراف أي نزاع مسلح في اختيار أساليب ووسائل القتال ليس حقًا لا تقيده قيود، بحيث يحظر استخدام القوة العسكرية فيما يتعدى الضرورات الحربية بهدف إضعاف قوة المعتدي. يمثل علم اجتماع القانون أداة مفيدة ووسيلة مؤثرة للذين يهدفون إلى إصلاح الأنظمة القضائية أو التصرف فيها، وعلى العكس من السابق حيث كان الداعون إلى إصلاح الأنظمة القضائية وحتى المناضلون من أجلها، ينظرون إلى الواقع من خلال بروج عاجية بعيدة عن عالم التجربة، فيجعلون -على سبيل المثال- عدم التقنين المُلْزِم هو السبب الوحيد لاختلاف القضاة في الحكم على القضايا المتشابهة، وفاتهم أن الاختلاف موجود تاريخياً مع وجود التقنين، ومصاحب له، ويزيد بزيادته، ولأجل ذلك فإن علم اجتماع القانون -كما سبق عرضه- يأتي كسلاح لطيف في يد دعاة الحقوق المدنية والإصلاحات،
وكل من أراد أن يبني إصلاحه على الواقع المعاش والحقائق الثابتة، وليست القضايا المثالية التي ربما لا يكون لها صور واقعية؛ لذا فعلم اجتماع القانون يمثل أداة مفيدة ووسيلة مؤثرة لإصلاح الأنظمة القضائية، وتقويم النظر القضائي، وهذه الأداة على عكس ما كان عليه الأمر في السابق في علم اجتماع القانون، حيث كان دعاة الإصلاح ينادون بأفكار جيدة الصياغة ولكن غير قابلة للتطبيق لعدم وجود أدوات وإجراءات تطبيقية عملية، بينما علم اجتماع القانون في مرحلته الحالية يأتي بأدوات تضبط وتقيس جانبي الممارسة والتطبيق. وتتميز هذه الأدوات بأنها لا تتطلب تدخلاً في عمل القاضي، فجميع المعلومات التي يتطلبها تقويم أداء القاضي والنظر القضائي يمكن إدخالها في إجراءات التقاضي،
بحيث تُرصد وتُجمع ثم تُعالج دون سؤال القاضي أو معاونيه أو مراقبتهم من قبل مفتشين قضائيين؛ لذا فالفوائد العملية تحصل دون أن تتطلب رضا العاملين أو المتعاملين مع القضاء لِما أن العملية بكاملها تتم بتلقائية وعفوية لا يشعر معها المراَقَبُ بالرقابة مما يتيح له كامل المجال في التركيز على العمل المناط به والتفرغ له.
وعلى العكس من استنتاجات علم اجتماع المعرفة -على سبيل المثال- حيث تحقيق الفوائد العملية يعتمد على قبول الأطراف المعنية لتلك النتائج، فإن استنتاجات علم اجتماع القانون والتناقض البارز بين المثالي المجمع عليه والواقع الحالي الذي يماط اللثام عنه لا يترك مجالاً أمام أحد ويواجه الجميع بالحقائق المُرة التي قد تُخل بسلامة المجتمع المدني؛ على أقل تقدير. تحتاج منظومة تحقيق العدالة إلى كفالة احترام مبدأ سيادة القانون وكفالة الحق في التقاضي، والتزام الدولة بتوفير الوسائل الفعالة لتمكين تمتع الأفراد غير القادرين -بالإضافة إلى القادرين- من اللجوء إلى القضاء، لطلب الحماية القضائية إذا تم الاعتداء على حقوقهم من خلال آليات كثيرة أهمها نظام المساعدة القانونية لغير القادرين.
وطبقا لفلسفة القانون العام، يتكون مبدأ سيادة القانون من شقين هما: الشق الأول: الشق الموضوعي، ويشير إلى أن كل ما يصدر من السلطات في الدولة يجب أن يكون متفقا مع القواعد النافذة في الدولة. والشق الثاني: شق شكلي، ويشير إلى ضرورة احترام مبدأ تدرج القواعد القانونية؛ بحيث إن القاعدة الأدنى يجب أن تكون متفقة مع القاعدة الأعلى وهكذا، بمعنى أنه يجب أن يحترم كل نص قانوني النصوص القانونية الأقوى منه، فالقواعد القانونية يجب أن تحترم القواعد الدستورية.
وقد تقرر هذا المبدأ منذ العصور الوسطى كمبدأ دستوري في النظام الإنجليزي، على أساس أنه يوجب على السلطة التنفيذية أن تقيم تصرفاتها على أساس من القانون، والذي يتمثل في التشريع والقانون القضائي ولكن هذا لا يعني أن المجتمعات القديمة قبل العصور الوسطى لم تعرف سيادة القانون. يعمل بمبدأ سيادة القانون في الأنظمة القانونية المعاصرة على اختلاف أشكالها؛ إذ تواتر الأمر بأنه يجب أن يستند كل تصرف أو عمل قانوني -سواء أكان عاماً أو خاصاً- إلى قاعدة قانونية مجردة وسابقة على التصرف أو العمل، وأن يخضع جميع الأفراد في علاقاتهم القانونية بعضهم ببعض، وفي علاقاتهم القانونية بالدولة وهيئاتها المختلفة لحكم القانون؛ إذ لا يكفي أن يخضع الأفراد وحدهم للقانون؛ بل يجب أن تخضع الهيئات الحاكمة في الدولة للقانون، انطلاقا من أن جوهر المشروعية في الدولة يكمن حقيقة في سيادة حكم القانون بين الفرد والدولة.
والفكرة الجوهرية من وراء مبدأ سيادة القانون هي كفالة الحماية من السلطة الغاشمة، وأن القانون يجب أن يسود، وألا تمارس ضد الفرد سلطة مستبدة، ويتفرع عن ذلك الإقرار أن تركيز السلطة أمر خطير وأن من المرغوب فيه توزيع هذه السلطة، حتَّى لا توجد سلطة دكتاتورية.
ويجب التمييز بين المشروعية الفردية الشكلية وبين المشروعية الموضوعية والمشروعية المذهبية، فإذا كان أساس إلزامية القانون وأساس المشروعية هو أساس شخصي ويعتمد على الإرادة الفردية، فإننا نكون أمام مشروعية فردية شكلية، ومن المسلم به أن مبدأ المشروعية في صورة الشكلية الفردية كان من نتاج المذهب الحر والفلسفة الفردية، وبعد الثورة الفرنسية أصبح هذا المبدأ يشغل أذهان وكتابات الفقهاء؛ إلا أنه قد ظهرت عدة عوامل كانت السبب في تحول الفكر عن صورة المشروعية الفردية الشكلية إلى صور أخرى جديدة للمشروعية، ألا وهي المشروعية الموضوعية والمشروعية المذهبية، حيث إن سيادة القانون قد اتجهت مع اضمحلال الشكلية القانونية التي كانت تنميها الوضعية القانونية نحو الموضوعية بدلا من الشكلية (التي كانت تحدد القيمة والقوة القانونية للنص القانوني على أساس شكلي، يتمثل في مكانة الجهة التي أصدرته ووضعها في البناء القانوني للدولة بغض النظر عن موضوع النص وفحواه).
أما إذا كان أساس إلزامية القانون وأساس المشروعية في كل عمل من الأعمال في الدولة أساسا موضوعيا يعتمد على وجود هدف اجتماعي موضوعي يسعى القانون إلى تحقيقه؛ فإننا نكون في هذه الحالة أمام مشروعية موضوعية. وإذا وصل التمسك بالهدف الاجتماعي الموضوعي إلى حد الاعتقاد العام والإيمان الشعبي فإننا نكون في هذه الحالة أمام مشروعية مذهبية.
يرتبط مبدأ سيادة القانون ارتباطا وثيقا باحترام قواعد القانون العامة والمجردة من قبل الحاكم والمحكومين؛ ومن هنا يتأتى الارتباط الوثيق بين مبدأ سيادة القانون وحقوق الإنسان؛ حتَّى إنه قيل: إن حماية الحقوق والحريات لا تصبح حقيقة واقعة إلا بتدعيم سيادة القانون
كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ومدير مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
عضو والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية
في كل مجتمع ثمة نوعان أو مستويان للسلوك الإنساني الأول: السلوك المثالي الذي ترسمه شريعة المجتمع وأنظمته، ويمثل ما يجب أن يكون عليه العمل، والثاني: السلوك الواقعي الممارس فعلاً في المجتمع، ويمثل ما عليه العمل في الحقيقة، وغالباً ما يعتريه نقص عن النوع الأول المثالي، فإذا جاوز هذا النقص الحد المسموح به اجتماعياً أو نظامياً صار انحرافاً يستوجب نوعاً من العقوبة.
وهذا يعني أن ليس كلُّ نقصٍ عن المثالي يستوجب عقاباً، فالكثيرُ من المخالفات المحدودة تكون ضمن الحدِّ المسموح به اجتماعيّاً ونظاميّاً، كما أنَّ العقاب الذي قد يستوجبه الانحراف عن الأمثل في الغالب لا يكون متساوياً في نوعه أو في درجته من حيث الشدة أو اللين.
هذه الثنائية في الحياة الواقعية بجميع أبعادها وأشكالها والمتغيرات الداخلة فيها هي ميدان الظواهر التي تشكل موضوعاً لشتى التخصصات والدراسات في فروع العلوم المختلفة، ومنها ظاهرة التقاضي، فمما لا شك فيه أن القاضي يجد فرقاً بين القضاء المثالي والقضاء الممارَس، فالجانب المثالي ليس مرتبطاً بنقص الموارد والقدرات، أما الجانب الواقعي الممارس فهو مقيد بالإمكانات والقدرات، والتقاضي كظاهرة اجتماعية يتم حسب قواعد ومتطلبات تتحكم فيه، ومن سمات هذه الظاهرة وجود حالة من الثنائية السلوكية، تتمثل في الفرق بين القضاء المثالي، والقضاء الممارَس، فلا يوجد إنسان لديه تمام القدرة على تحصيل الصورة المثالية للعمل، فالصورة المثالية للعمل تتطلب أن يكون لدى المكلَّف معرفة تامة وفهم كامل وقدرة على التحكم بالبيئة المحيطة به؛ لذا فهو مستحيل، فلا بد من حصول فرق بين المثالي والواقعي؛ لذا لا يمكن الاحتراز من الفرق اليسير بين المثالي والواقعي، ولا تكون هذه الحقيقة عذراً لتبرير الابتعاد المتعمد عن المثالي بتقصير أو نحوه بحجة أن المثالي مستحيل، فالحق المقدور عليه لابد من إتيانه والسعي لتحصيله قال العز بن عبد السلام: "لا يُترك الحقُ المقدور عليه من أجل الباطل"، كما أن التحصيل المطلوب يكون حسب الاستطاعة،
قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) متفق عليه من حديث أبي هريرة. واختلاف الاستطاعة ونقصها عن القدرة التامة هي سبب في وجود ثنائية وفرق بين المثال المطلوب والتطبيق الواقع، وذلك يمثل فجوة سلوكية يجب ردمها، ومع ذلك فإن تحقيق وحدة التقاضي ممكن ومن باب أولى عند المسلمين حتى وإن كان كل إنسان بنفسه لا يستطيع أن يكون مثالياً بصفه تامة أو دائمة ويمكن تدارك جوانب القصور عبر تعلم العلم النافع وتعود العمل الصالح، ثم إن طبيعة وجود هذه الثنائية في ظاهرة التقاضي وكيفية التعامل معها وتعدُّ من أهم الموضوعات التي يدرسها علم اجتماع القانون،
وهي موضوع هذا العمل الذي سيتطرق إلى بيان أهم العوامل والمعطيات الاجتماعية التي تكمن وراء الانحراف عن الصورة المثالية الموصوفة في الأحكام القضائية والأنظمة المرعية. وهكذا أصبح تجريم الأفعال ضد الإنسانية تدريجيا وقيما نبينه لاحقا – من المعطيات الثابتة التى استقرت في مبادئ القانون الدولي والتي أصبحت محسومة ولا مجال لأي خلاف حولها، والتي تشكل التزاما آمرا في القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي العام.. وتنطلق مشروعية تجريم الأفعال التي تنتهك الإنسانية من تواري مجالات الشئون الداخلية التي يحرم ميثاق الأمم المتحدة التدخل الخارجي فيها مع النمو المضطرد للتعاون الدولي في كل المجالات مما جعل مفهوم ال interdependence يطغي علي مبدأ الاستقلال dependenceالأمر الذي ضيق كثيرا من نظرية السيادة الوطنية بصفة عامة وفي مجال حقوق الإنسان بصفة خاصة بحيث الذي لم يعد انتهاك حقوق الإنسان في داخل الدولة محصنا بمبدأ السيادة وعدم التدخل في الشئون الداخلية فلم يعد الحكام في مامن من الملاحقة والمحاسبة والمساءلة عما يرتكبونه من انتهاكات لحقوق شعوبهم الإنسانية من المجتمع الدولي، ولم يعد مقبولا الاحتماء بمقولة أن هذه الانتهاكات هي من صميم الشئون الداخلية ومن ثم يمتنع علي المجتمع الدولي ملاحقتها.
وليس هذا بغريب عن الفكر الإنساني فطالما تواردت أحلام الفلاسفة والكتاب منذ قرون عن وجود عالم موحد تسوده مكارم الأخلاق (المدينة الفاضلة يوتوبيا عند افلاطون وتوماس مور) وكتابات القديس توماس مور في لقرن الخامس عشر. وليست فكرة المدينة الفاضلة فكرة غربية خالصة، بل هي فكرة لها تاريخ في الفلسفة الإسلامية، لا سيما مع الفارابي في القرن الرابع الهجري وكتابه “آراء المدينة الفاضلة” الذي طرح فيه فكرته عن المعمورة الفاضلة كأعلى أشكال الاجتماع الإنساني.
وقد تحققت أحلام هؤلاء الفلاسفة اعتبارا من عام بإنشاء عصبة الأمم التي تطورت الى منظمة الأمم المتحدة وهي التي انتزعت صلاحيات أوسع بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945. ومنذ ذلك اليوم لعبت المنظمة الدولية دوراً بارزاً في تنظيم العلاقة بين دول العالم لاسيما في حفظ السلام. ومع تسارع التطور في عالم متغير نحو التقارب وتلاقي المصالح، تزايدت صلاحيات هذه المنظمة الدولية،
ونمت الحاجة الى دور المجتمع الدولي اكثر فاكثر، ليس في حفظ السلام ومنع الحروب بين الدول فحسب، بل وتوسعت صلاحياتها وخاصة في الفصل السابع من ميثاق المنظمة الدولية الى حماية الشعوب من حكامها. وهذه في الحقيقة نقلة نوعية في الحضارة البشرية لصالح الشعوب المضطهدة من قبل حكامها. فلا سيادة وطنية كاملة الا في ظل حكومة شرعية أي منتخبة من قبل الشعب. ومعظم الحكومات المستبدة هي حكومات غير شرعية بالمعنى العصري ولذلك فلا سيادة حقيقة لها أصلاً لكي تدعي انتهاكها،
لأن هذه السيادة الوطنية هي بالأساس منتهكة من قبل الحكومات المستبدة. برزت بعض القواعد والعادات والتي تبلورت في قواعد قانونية مكتوبة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ويعد تصريح باريس الصادر في 16إبريل 1856 أول وثيقة دولية مكتوبة تنظم بعض الجوانب القانونية للحرب البحرية.
وجاء إعلان سان بيترسبورج بشأن حظر استعمال المقذوفات في وقت الحرب والموقع في 11ديسمبر 8681، ليعلن أن التقدم الحضاري يجب أن يخفف قدر الإمكان من نكبات الحرب، وأن الهدف المشروع الوحيد الذي يجب أن تسعي إليه الدول أثناء الحرب هو إضعاف القوات العسكرية للعدو مع مراعاة المبدأ الأساسي الذي يقضي بأن حق أطراف أي نزاع مسلح في اختيار أساليب ووسائل القتال ليس حقًا لا تقيده قيود، بحيث يحظر استخدام القوة العسكرية فيما يتعدى الضرورات الحربية بهدف إضعاف قوة المعتدي. يمثل علم اجتماع القانون أداة مفيدة ووسيلة مؤثرة للذين يهدفون إلى إصلاح الأنظمة القضائية أو التصرف فيها، وعلى العكس من السابق حيث كان الداعون إلى إصلاح الأنظمة القضائية وحتى المناضلون من أجلها، ينظرون إلى الواقع من خلال بروج عاجية بعيدة عن عالم التجربة، فيجعلون -على سبيل المثال- عدم التقنين المُلْزِم هو السبب الوحيد لاختلاف القضاة في الحكم على القضايا المتشابهة، وفاتهم أن الاختلاف موجود تاريخياً مع وجود التقنين، ومصاحب له، ويزيد بزيادته، ولأجل ذلك فإن علم اجتماع القانون -كما سبق عرضه- يأتي كسلاح لطيف في يد دعاة الحقوق المدنية والإصلاحات،
وكل من أراد أن يبني إصلاحه على الواقع المعاش والحقائق الثابتة، وليست القضايا المثالية التي ربما لا يكون لها صور واقعية؛ لذا فعلم اجتماع القانون يمثل أداة مفيدة ووسيلة مؤثرة لإصلاح الأنظمة القضائية، وتقويم النظر القضائي، وهذه الأداة على عكس ما كان عليه الأمر في السابق في علم اجتماع القانون، حيث كان دعاة الإصلاح ينادون بأفكار جيدة الصياغة ولكن غير قابلة للتطبيق لعدم وجود أدوات وإجراءات تطبيقية عملية، بينما علم اجتماع القانون في مرحلته الحالية يأتي بأدوات تضبط وتقيس جانبي الممارسة والتطبيق. وتتميز هذه الأدوات بأنها لا تتطلب تدخلاً في عمل القاضي، فجميع المعلومات التي يتطلبها تقويم أداء القاضي والنظر القضائي يمكن إدخالها في إجراءات التقاضي،
بحيث تُرصد وتُجمع ثم تُعالج دون سؤال القاضي أو معاونيه أو مراقبتهم من قبل مفتشين قضائيين؛ لذا فالفوائد العملية تحصل دون أن تتطلب رضا العاملين أو المتعاملين مع القضاء لِما أن العملية بكاملها تتم بتلقائية وعفوية لا يشعر معها المراَقَبُ بالرقابة مما يتيح له كامل المجال في التركيز على العمل المناط به والتفرغ له.
وعلى العكس من استنتاجات علم اجتماع المعرفة -على سبيل المثال- حيث تحقيق الفوائد العملية يعتمد على قبول الأطراف المعنية لتلك النتائج، فإن استنتاجات علم اجتماع القانون والتناقض البارز بين المثالي المجمع عليه والواقع الحالي الذي يماط اللثام عنه لا يترك مجالاً أمام أحد ويواجه الجميع بالحقائق المُرة التي قد تُخل بسلامة المجتمع المدني؛ على أقل تقدير. تحتاج منظومة تحقيق العدالة إلى كفالة احترام مبدأ سيادة القانون وكفالة الحق في التقاضي، والتزام الدولة بتوفير الوسائل الفعالة لتمكين تمتع الأفراد غير القادرين -بالإضافة إلى القادرين- من اللجوء إلى القضاء، لطلب الحماية القضائية إذا تم الاعتداء على حقوقهم من خلال آليات كثيرة أهمها نظام المساعدة القانونية لغير القادرين.
وطبقا لفلسفة القانون العام، يتكون مبدأ سيادة القانون من شقين هما: الشق الأول: الشق الموضوعي، ويشير إلى أن كل ما يصدر من السلطات في الدولة يجب أن يكون متفقا مع القواعد النافذة في الدولة. والشق الثاني: شق شكلي، ويشير إلى ضرورة احترام مبدأ تدرج القواعد القانونية؛ بحيث إن القاعدة الأدنى يجب أن تكون متفقة مع القاعدة الأعلى وهكذا، بمعنى أنه يجب أن يحترم كل نص قانوني النصوص القانونية الأقوى منه، فالقواعد القانونية يجب أن تحترم القواعد الدستورية.
وقد تقرر هذا المبدأ منذ العصور الوسطى كمبدأ دستوري في النظام الإنجليزي، على أساس أنه يوجب على السلطة التنفيذية أن تقيم تصرفاتها على أساس من القانون، والذي يتمثل في التشريع والقانون القضائي ولكن هذا لا يعني أن المجتمعات القديمة قبل العصور الوسطى لم تعرف سيادة القانون. يعمل بمبدأ سيادة القانون في الأنظمة القانونية المعاصرة على اختلاف أشكالها؛ إذ تواتر الأمر بأنه يجب أن يستند كل تصرف أو عمل قانوني -سواء أكان عاماً أو خاصاً- إلى قاعدة قانونية مجردة وسابقة على التصرف أو العمل، وأن يخضع جميع الأفراد في علاقاتهم القانونية بعضهم ببعض، وفي علاقاتهم القانونية بالدولة وهيئاتها المختلفة لحكم القانون؛ إذ لا يكفي أن يخضع الأفراد وحدهم للقانون؛ بل يجب أن تخضع الهيئات الحاكمة في الدولة للقانون، انطلاقا من أن جوهر المشروعية في الدولة يكمن حقيقة في سيادة حكم القانون بين الفرد والدولة.
والفكرة الجوهرية من وراء مبدأ سيادة القانون هي كفالة الحماية من السلطة الغاشمة، وأن القانون يجب أن يسود، وألا تمارس ضد الفرد سلطة مستبدة، ويتفرع عن ذلك الإقرار أن تركيز السلطة أمر خطير وأن من المرغوب فيه توزيع هذه السلطة، حتَّى لا توجد سلطة دكتاتورية.
ويجب التمييز بين المشروعية الفردية الشكلية وبين المشروعية الموضوعية والمشروعية المذهبية، فإذا كان أساس إلزامية القانون وأساس المشروعية هو أساس شخصي ويعتمد على الإرادة الفردية، فإننا نكون أمام مشروعية فردية شكلية، ومن المسلم به أن مبدأ المشروعية في صورة الشكلية الفردية كان من نتاج المذهب الحر والفلسفة الفردية، وبعد الثورة الفرنسية أصبح هذا المبدأ يشغل أذهان وكتابات الفقهاء؛ إلا أنه قد ظهرت عدة عوامل كانت السبب في تحول الفكر عن صورة المشروعية الفردية الشكلية إلى صور أخرى جديدة للمشروعية، ألا وهي المشروعية الموضوعية والمشروعية المذهبية، حيث إن سيادة القانون قد اتجهت مع اضمحلال الشكلية القانونية التي كانت تنميها الوضعية القانونية نحو الموضوعية بدلا من الشكلية (التي كانت تحدد القيمة والقوة القانونية للنص القانوني على أساس شكلي، يتمثل في مكانة الجهة التي أصدرته ووضعها في البناء القانوني للدولة بغض النظر عن موضوع النص وفحواه).
أما إذا كان أساس إلزامية القانون وأساس المشروعية في كل عمل من الأعمال في الدولة أساسا موضوعيا يعتمد على وجود هدف اجتماعي موضوعي يسعى القانون إلى تحقيقه؛ فإننا نكون في هذه الحالة أمام مشروعية موضوعية. وإذا وصل التمسك بالهدف الاجتماعي الموضوعي إلى حد الاعتقاد العام والإيمان الشعبي فإننا نكون في هذه الحالة أمام مشروعية مذهبية.
يرتبط مبدأ سيادة القانون ارتباطا وثيقا باحترام قواعد القانون العامة والمجردة من قبل الحاكم والمحكومين؛ ومن هنا يتأتى الارتباط الوثيق بين مبدأ سيادة القانون وحقوق الإنسان؛ حتَّى إنه قيل: إن حماية الحقوق والحريات لا تصبح حقيقة واقعة إلا بتدعيم سيادة القانون
كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ومدير مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
عضو والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية