بقلم: منال الطيبى
عقب الاعتداء الارهابى الغاشم على الجنود المصريين فى الشيخ زويد بسيناء والذى أودى بحياة ثلاثين جنديا وجرح عشرات أخرين والذى سبقه الكثير من الحوادث الإرهابية الأخرى، اقترح العديد من المحللين والخبراء نقل السكان من هذه المنطقة لكى يستطيع الجيش مواجهة الجماعات المسلحة الإرهابية والتى تختبئ وسط المدنيين مما يصعب مهمة الجيش فى مواجهتهم، تجنبا لسقوط مدنيين أبرياء. فخرجت أصوات مؤيدة وأصوات أخرى معارضة، ولا يعنينى هنا القرار الذى قد تتخذه أو لا تتخذه الدولة المصرية فى هذا الصدد ولا الدوافع السياسية التى ساقها البعض سواء لتأييد هذا المقترح أو لرفضه، ولكن يعنينى فى هذا المقال مناقشة الدفوع القانونية التى ساقها الكثيرون من الخبراء والتى تم الدفع بها للاستدلال على عدم مشروعية وقانونية عملية نقل السكان، وهو الأمر الذى ساتناوله فى هذا المقال من وجهة نظر قانونية بحتة بغض النظر عن موقفى الشخصى من الموضوع، وذلك بغرض درء اللغط القانونى ممن يتحدثون عن غير وعى بقانونية أو عدم قانونية نقل الدولة لعدد من الأسر من سكان سيناء.وقبل أن نتطرق للدفوع القانونية التى سيقت فى هذا الشأن، علينا أولا أن نعرف ما هو التهجير الداخلى Internal Displacement (وهو يختلف عن مفهوم الإخلاء القسرى Forced evictionالخاص بالحق فى السكن المناسب)، وهنا يجب أن نفرق بين أمرين هامين وهما التهجير الداخلى القسرى، والتهجير أو النزوح الداخلى الاضطرارى. ويعرف القانون الدولى التهجير الداخلى القسرى بأنه "ممارسة تنفذها حكومات أو قوى شبه عسكرية أو مجموعات متعصبة تجاه مجموعات عرقية أو دينية أو مذهبية بهدف إخلاء أراض معينة وإحلال مجاميع سكانية أخرى بدلا عنها".
وقد شهد العالم ومازال نماذج صارخة لمثل هذا النوع من التهجير والذى تم إدانته تماما من قبل الأمم المتحدة وأجهزتها المختلفة. ويكون الهدف من هذا النوع من التهجير هو التطهير كما حدث فى يوغسلافيا ورواندا وكما يحدث الأن فى العراق.
النوع الأخر من التهجير هو التهجير أو النزوح الداخلى الاضطرارى، ويتم تعريف التهجير الاضطرارى بأنه:
"أشخاص أو جماعات من الأشخاص أُكرهوا على الهرب أو على ترك منازلهم أو أماكن إقامتهم المعتادة أو اضطروا إلى ذلك، ولا سيما نتيجة أو سعياً لتفادى آثار نزاع مسلح أو حالات عنف عام الأثر أو انتهاكات حقوق الإنسان أو كوارث طبيعية أو كوارث من فعل البشر ولم يعبروا الحدود الدولية المعترف بها للدولة".
وأمثلة هذا النوع من التهجير كثيرة وعديدة ومنها تهجير المصريين من محافظة السويس نتيجة الحرب حفاظا على أمن المواطنين، وكذلك الفارون من المجاعات فى السودان والصومال وغيرها، أو الفارون من النزاعات المسلحة مثل البوسنة وسوريا ورواندا.
ويستند المعارضون للتهجير على الدستور المصرى وخاصة المادة 63 منه والتى تنص على "يحظر التهجير القسرى التعسفى بجميع صوره وأشكاله، ومخالفة ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم."
ولكنهم يقرأون هذه المادة بتغافل تام عن إدراك معنى كلمة "تعسفى" التى وردت فى المادة. وتعسفى تعنى أن قرار نقل السكان لا تتوافر فيه "المشروعية" ولا "التناسبية"، وهو الأمر الذى سنوضحه بشكل أكبر فى السطور التالية.
وفى بحثنا عن إجابة على سؤال المشروعية والتناسبية لابد أن نتطرق إلى القانون الدولى، سواء القانون الدولى لحقوق الإنسان، والقانون الدولى الإنسانى، والقانون الدولى العرفى، حيث أن هذه المادة مستجدة فى الدستور المصرى ولم يتم ترجمتها بعد فى القانون المصرى.
على الرغم من التوسع الذى شهده القانون الدولى فى كافة المجالات وخاصة فى مجال حقوق الإنسان، إلا أنه لم يتم تبنى أى اتفاقية خاصة بالتشريد أو التهجير الداخلى من قبل المجتمع الدولى. إلا أن اتفاقيات جينيف قد تطرقت إلى هذا الأمر فى حالات النزاعات المسلحة الدولية ولا سيما فى المادة رقم 49 من الاتفاقية الرابعة والتى نصت على:
" يحظر النقل الجبرى الجماعى أو الفردى للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضى المحتلة إلى أراضى دولة الاحتلال أو إلى أراضى أى دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أياً كانت دواعيه.
ومع ذلك، يجوز لدولة الاحتلال أن تقوم بإخلاء كلى أو جزئى لمنطقة محتلة معينة، إذا اقتضى ذلك أمن السكان أو لأسباب عسكرية قهرية. ولا يجوز أن يترتب على عمليات الإخلاء نزوح الأشخاص المحميين إلا فى إطار حدود الأراضى المحتلة، ما لم يتعذر ذلك من الناحية المادية. ويجب إعادة السكان المنقولين على هذا النحو إلى مواطنهم بمجرد توقف الأعمال العدائية في هذا القطاع.
وعلى دولة الاحتلال التي تقوم بعمليات النقل أو الإخلاء هذه أن تتحقق إلى أقصى حد ممكن من توفير أماكن الإقامة المناسبة لاستقبال الأشخاص المحميين، ومن أن الانتقالات تجري في ظروف مرضية من وجهة السلامة والشروط الصحية والأمن والتغذية، ومن عدم تفريق أفراد العائلة الواحدة.
ويجب إخطار الدولة الحامية بعمليات النقل والإخلاء بمجرد حدوثها.
لا يجوز لدولة الاحتلال أن تحجز الأشخاص المحميين في منطقة معرضة بشكل خاص لأخطار الحرب، إلا إذا اقتضى ذلك أمن السكان أو لأسباب عسكرية قهرية.
لا يجوز لدولة الاحتلال أن ترحل أو تنقل جزءاً من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها."
ومع أن الاتفاقية تحدثت عن النزاعات المسلحة "الدولية" وليس الداخلية، إلا أنها اعطت لدولة الاحتلال امكانية إخلاء السكان كليا أو جزئيا إذا اقتضى ذلك أمن السكان أو لأسباب عسكرية قهرية، على ألا يتم إجلاء السكان خارج دولتهم. أى أن الاتفاقية لم تمنع إخلاء السكان بشكل مطلق ولكن وضعت له شروط وضوابط تضمن حقوق السكان المهجرين.
ولكننا فى الحالة المصرية لا نتحدث عن نزاع دولى مسلح بل عن مخاطر إرهاب داخلى مسلح يودى بحياة المدنيين والعسكريين معا، إذن علينا أن نبحث عن مصدر أخر ينظم عملية الإخلاء الداخلى للسكان فى غير أوقات النزاع "الدولى" المسلح. وهنا مرة أخرى نقول إنه لا يوجد اتفاقية دولية خاصة بالتهجير الداخلى، ولكن من الممكن الرجوع لمواد فى اتفاقيات أخرى فى القانون الدولى بشكل عام.
من الوثائق الهامة فى شأن التهجير الداخلى والتى لم تترجم بعد لاتفاقية دولية ملزمة للدول، ولكنها مستمدة من القانون الدولى الإنسانى والقانون الدولى لحقوق الإنسان، والقانون الدولى العرفى، هى المبادئ التوجيهية للتشريد أو التهجير الداخلى والتى تم إصدارها من قبل لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة فى عام 1998.
وقد حظرت المبادئ التوجيهية التهجير الداخلى القسرى من قبل الدول، إلا أنها كما فى اتفاقية جينيف الرابعة أيضا قد وضعت استثناءا من هذا الحظر فى الفقرة "ب" من البند الثانى من المبدأ السادس من المبادئ التوجيهية عندما ذكرت التالى:
2- يندرج تحت حظر التشريد التعسفى التشريد فى الأحوال التالية: …….. (ب) فى حالات النزاع المسلح، ما لم يتطلبه أمن المدنيين المعنيين أو تحتمه أسباب عسكرية.
إذن فإن المبادئ التوجيهية أيضا قد وضعت استثناءا من حظر تهجير السكان عندما يكون لهذا التهجير مبررات أمنية أو ضرورة عسكرية ملحة.
على أن المبادئ التوجيهية أيضا قد نصت على أن هذا التهجير يجب أن يكون مؤقتا ولأقل فترة ممكنة، وأن يتم إعادة توطين السكان مرة أخرى فى موطنهم الأصلى بعد زوال أسباب التهجير أو النقل، وعلى توفير الدولة كافة سبل الحياة الكريمة للسكان المهجرين وعلى احترامها لحقوقهم الإنسانية الكاملة. فإذا تعذر إعادة توطين السكان فى نفس المنطقة التى تم تهجيرهم منها لأسباب قهرية، وجب على الدولة أن تعوضهم بأماكن أخرى ذات نفس الطبيعة وفى أقرب نقطة لأماكنهم الأصلية.
ومن الممكن أن نتطرق أيضا لعدد أخر كبير من وثائق القانون الدولى كإعلان روما والذى يعتبر التهجير القسرى هو جرائم ضد الإنسانية، أو الاتفاقيات الخاصة بالشعوب الأصلية وغيرها من الاتفاقيات ولكن ذلك يحتاج بحثا طويلا مفصلا لا يتناسب وحدود هذا المقال، ولكننا سنصل لنفس النتيجة التى توصلنا إليها سابقا وهى أن التهجير القسرى محظور ومجرم دوليا بشدة، ولكن أيضا سنصل إلى أن هناك استثناءات من هذا الحظر كما سبق وذكرنا وهى أمن المواطنين والضرورات العسكرية الملحة.
نأتى للإجابة على السؤال الذى طرحناه سابقا وهو هل قرار تهجير جزء من سكان سيناء يخالف المادة 63 من الدستور، وبمعنى أدق هل يعتبر هذا القرار "تعسفيا"، وقد سبق وطرحنا أننا يجب أن نبحث مشروعية وتناسبية هذا القرار قبل أن نجيب على هذا السؤال.
من ناحية المشروعية فكما سبق وأوضحنا بعاليه، أن هناك استثناءات وضعها القانون الدولى لحظر التهجير القسرى للمواطنين إذا كان التهجير له اعتبارات أمنية للمواطنين وضرورة عسكرية ملحة، إذن فالمشروعية متوافرة من حيث توافر سند من القانون.
نأتى للنقطة الأخرى وهى تناسبية القرار مع الغرض الذى يصدر من أجله. والحقيقة أن هذا أمر لا يفتى فيه القانونيون، فهو يتطلب درجة عالية من الدراية بالأمور العسكرية والأمنية التى لا تتوافر لهم، ومع ذلك فإذا كان تهجير السكان سيخلق أضرارا أكثر من الهدف الذى تم من أجله وهو فى هذه الحالة القضاء على الإرهاب (أى أيهما يشكل المنفعة العامة العليا وأيهما يشكل المنفعة العامة الصغرى)، أو كانت هناك بدائل أخرى من الممكن أن تقضى نفس الغرض دون اللجوء للتهجير كان القرار غير متناسبا مع الغرض الذى صدر من أجله، ويجب على الدولة أن تبحث كافة البدائل الأخرى الممكنة من قبل أن تتخذ قرار التهجير، أى أن قرار التهجير هو الملاذ الأخير للدولة، كما عليها أن تثبت أنه سيحقق هدف القضاء على الإرهاب أو على الأقل الحد منه بدرجة كبيرة.
كان ما سبق عرضا قانونيا فقط لموضوع التهجير القسرى ولا يشكل بأى حال موقفا من قرار التهجير ذاته، إذ ترى الكاتبة أنه لابد من بحث كل البدائل الممكنة والأقل ضررا من قبل أن تتخذ الدولة قرار التهجير، وأن تتناقش الدولة مع المجتمع الذى سيتعرض للضرر من جراء هذه العملية للحصول على موافقتهم الحرة والمستنيرة، وعلى الأماكن التى سينتقلون إليها، والتعويضات المناسبة وغيرها من الأمور الأخرى الهامة، فإن عملية تهجير أو نقل السكان هى من أقسى الإجراءات التى تؤثر على كافة حقوق الإنسان للمواطنين وتترك أثرا سلبيا كبيرا على السكان ربما يستمر لمئات السنين وربما يستمر للأبد.
0 تعليقات:
إرسال تعليق