قد يكون الكلام في قضية اعتذار الرئيس من وجهة نظر البعض نوع من التزلف الممجوج ، أو هو من قبيل التضخيم المتعمد لأمر بسيط ، وخلق هالة حول حدث عادي من الممكن أن يحدث ، ويحدث ، في الكثير من دول العالم . وأنه محاولة للتسويق للرئيس من خلال هذا الحدث . والواقع أن من يقول بذلك لا ينظر إلا إلي النصف الفارغ من الكوب من وجهة نظر البعض ، وهناك من ينظر لذات الكوب ويري فيه النصف الملأن " ولكل وجهته هو موليها " . والموضوعية تقتضي الإنصاف ليس بالإنتصار لطرف علي حساب طرف ، وإنما بالإنتصار للحقيقة ، والحقيقة وحدها . وتوجه الرئيس السيسي بلا موكب حيث ترقد السيدة العادية ، تلك التي تعرضت للتحرش في ميدان التحرير ، مقدماً لها بيده باقة من الورد ، مبدياً اعتذاره لها ، ولكل سيدات مصر ، مكرراً للإعتذار والأسف ، واعداً إياها ـ وكل سيدات مصر ـ بعدم تكرار ذلك . هذا ما حدث ..فما دلالته ورمزيته ؟ . باستقراء التاريخ سنقف بين صفحاته مشدوهين أمام الحاكم الإله المقدس ، الذي بالقطع لا يجوز في حقه الإعتذار أو الأسف عما يقع منه من قول أو فعل أو عمل . صحيح أن البشرية قد تجاوزت هذه التصورات الساذجة عن الحاكم ، والتي كانت سائدة لفترات طويلة غابرة من تاريخها . إلا أن تلك التصورات الساذجة ما زالت موروثة لدينا ، تتناقلها الجينات الوراثية من جيل إلي جيل . ولم نعرف حاكماً مصرياً مارس هذا الفعل ـ فعل الإعتذار ـ في القديم أو الحديث سوي الرئيس عبد الناصر في خطاب التنحي ، وذلك في أعقاب نكسة 1967 م . فقد اعتذر إلي الأمة عن تلك الكارثة التي حلت بها ، معلناً اعتذاره عنها ، ومسئوليته عن نتائجها . ثم تلاه الرئيس السيسي . وبالمقارنة بين الإعتذارين سنجد أن كلا الإعتذارين قد جاء بعد كارثة ، في الحالة الأولي كانت الكارثة قد حلت بالأمة ، وفي الحالة الثانية كانت الكارثة قد حلت بامرأة مصرية . في الأولي كان اعتذار من الرئيس إلي الأمة ، وفي الثانية كان الإعتذار من الرئيس والأمة إلي إمرأة . في الأولي كان الإعتذار واجباً وحتمياً من الرئيس ذاته لجبر كسر الأمة ، ومنحها حق الإختيار فيمن يصطحبها في مشوار جبر الضرر الذي لحق بها . وفي الثانية كان يكفي الرئيس أن يرسل مندوباً عنه كي يعتذر ، واعتذاره سيكون كافياً لجبر الضرر . إلا أن الرئيس السيسي آثر أن يكون الإعتذار منه شخصياً . يقف أمام تلك السيدة وقفة المعتذر الآسف ، يقف أمامها وجهاً لوجه ، أمام عدسات التلفاز التي تصوره وهو في هذه الحال ، اعتذاره كان اعتذاراً شخصياً لأنه عد نفسه مسئولاً عما حدث باعتبار الرجولة والمروءة ، واعتذاراً رسمياً باعتباره رئيساً للجمهورية . ورغب في أن يكون هذا الإعتذار مشاهداً من الضحية وأبناءها ، ومن المجتمع المصري كله ، ومن محيطه العربي والأفريقي ، بل والعالم أجمع . والذي بداخله ميول ديكتاتورية استبدادية تسلطية لا يعتذر حتي بينه وبين نفسه . ولذا فإنني شعرت بالإطمئنان والإرتياح عند مشاهدتي للرئيس وهو يعتذر ويتأسف بلغة حميمية دافئة ، شعرت معها بالصدق والثقة . ولعل في ذلك طمأنة لمن يرغب في الإطمئنان من المتخوفين من الخلفية العسكرية للرئيس . ومن يستسهلون الأمر أطالبهم بالتفتيش في دواخلهم عن الفراعين الكامنة في نفوسهم ، والتي تجعلهم يستنكفون عن الإعتذار . ففي داخل كل منا فرعون صغير يمارس دور الفرعون الإله الذي لا يخطيء أبداً ، ولا يصدر في أقواله وأفعاله وأعماله إلا عن مقتضي الحكمة والسداد . هذا الفرعون الصغير الكامن بداخلك لا يعترف بالخطأ إذا أخطأ لأن الإعتراف بالخطأ يستوجب الإعتذار والأسف ، وأنت أكبر من أن تعتذر وتتأسف . ومن هنا فإن التهوين من قدر ما قام به الرئيس ، والغض من قيمته ، وتركه يمضي هكذا دون التفكير فيه ظلم كبير . ليس من قبيل التطبيل والتهليل للرئيس ، وإنما من قبيل التواضع الذي يقتل الفرعون الذي بداخلك . فالرئيس ـ وهو الرئيس ـ قد اعتذر ، فمن أنت ؟ . فها هو صاحب أرفع منصب في البلاد يقدم القدوة والمثل ، فلِمَا يغلب علينا الإستنكاف عن الإعتذار ؟ . فالاعتذار والأسف أولي خطوات الإصلاح لأنه يمثل إدراكاً للخطأ وإقراراً به ، ووجوب إصلاحه . كلنا يدرك ذلك ويعرفه ، ولكن عندما تأتي لحظة الإعتذار ، يتراجع بداخلنا ذلك الفرعون الصغير . ومصر الغد تأبي أن يعيش في ظلالها فراعين اُخَر .
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة
(
Atom
)
0 تعليقات:
إرسال تعليق