بقلم : منال عبد الحميد
عندما سلمني صاحب العمارة مفاتيح الشقة قالي وهو بيضحك :
" شكلك راجل قلبك جامد وما بتخافشي .. أنا بحب الرجالة اللي زيك .. مبروكة عليك "
طبعا أنا كنت فاهم هو بيتكلم عن أيه حتى إذا كنتوا حضراتكم مش فاهمين .. رديت عليه بابتسامه وقلت له :
" يا عم ما عفريت إلا بني آدم .. عفاريت أيه بس ؟! "
فرفع إبهامه وقالي بسعادة : " تعجبني "
خرج صاحب العمارة وتركني بمفردي بعد ما أصبحت مستأجر رسمي للشقة الواقعة في الدور الثاني من عمارته المطلة على شارع رئيسي في واحد من أكبر وأشهر أحياء القاهرة المتوسطة .. مش غريب إن عمارة زي دي في مكان زي ده تبقي أغلب شققها فاضية ؟
.........................
من حسن حظي إني لحقت شقة في العمارة قبل ما تتسكن كلها .. وإن كنت أشك إن ده ممكن يحصل بسبب سمعة العمارة السيئة ..
مش قصدي حاجة وحشة لا سمح الله لكن العمارة دي حصلت فيها حادثة من كام سنة .. حادثة فظيعة خلت السكان هربوا منها وسمعتها بقت في الحضيض .. ولدين توأم ماتوا في شقة في الدور الثالث محترقين !
كان عمرهم تسع سنوات لما حصلت الحادثة دي .. بعدها بشهر كانت العمارة كلها خالية من سكانها .. واللي ما هربش منها قفل شقته وعزل واستمر يدفع الإيجار لحد الظروف ما تتعدل .. ولكن يبدو أن الظروف ما أتعدلتش لسه لدرجة إن لما سكنت هناك لما لقتش غير شقتين بس ، غير شقتي ، مسكونين في عمارة فيها عشر شقق
لحسن الحظ إني كنت ساكن لوحدي لأني كنت بجهزها لزواجي .. خطيبتي مكانتش عارفة حاجة عن موضوع سمعة العمارة ده عشان كده ما أتعترضتش .. وهكذا أتاجرت الشقة وأبتديت أجهزها لاستقبال العروسة ..
قالوا إن الولدين بيظهروا بالليل ويصرخوا ويخبطوا على الأبواب طالبين المساعدة .. أمهم كانت بره وقافلة عليهم الباب بالمفتاح لما اشتعلت النار في الشقة .. ومحدش لحق ينقذهم !
الحكايات دي أنا سمعت زيها كتير لكني بصراحة مبصدقهاش لإني عمري ما شوفت حاجة بعيني .. وريني العفريت بعيني وأنا أصدق إنه موجود غير كده كلام لا يصدقه عاقل !
بعد أن ذهب صاحب العمارة بالسلامة بدأت أرتب شوية حاجات وبعدها كلت لقمة خفيفة وطفيت الأنوار كلها ودخلت أنام .. كنت ميت من التعب طول اليوم وما صدقت أدخل السرير
نمت على طول لكن بعد ربع ساعة سمعت صوت جرس الباب فقمت بسرعة وروحت فتحت .. لقيت قدامي ولد صغير عمره 8 أو 9 سنوات .. ما تفرحشي قوي كده وتقولي " عفريييت " .. ده " أحمد " ابن الأستاذ " مؤمن " اللي ساكن في الدور الرابع .. كان نازل لي ومعاه صينية عليها عشا بسيط باعتاه أمه ربنا يكرمها .. جماعة في منتهي الذوق والله
شكرت " أحمد " وأخدت منه الصينية وقفلت الباب .. بكرة الصبح أبقي أحط لهم عليها طبقين من طبيخ خطيبتي وأطلعها لهم بنفسي .. ده أقل واجب
ودخلت نمت تاني .. وللمرة الثانية ، وبعد ربع ساعة كمان ، سمعت صوت جرس الباب .. أتضايقت جدا وروحت فتحت .. بس ما لقتش حد ..
استغربت جدا وكنت هبتدي أفكر في حكاية العفاريت دي لما فكرت إنه ممكن يكون حد من عيال الأستاذ " مؤمن " هو اللي رن الجرس وهو نازل .. خصوصا لما بصيت على السلم وشوفت ظل طفل صغير في بير السلم
وللمرة التالتة دخلت نمت .. لكن الحمد لله محدش رن تاني ولا ما حصلش أي حاجة غريبة
في الصبح جات خطيبتي وأمها ومعاهم آكل وحاجات للشقة .. وكانت أول حاجة عملتها إني ملأت أطباق بشوية أكل وحلويات من اللي جابتهم خطيبتي معاهم حطيتهم على صينية من بتاعتنا لإني ملقتش صينية أستاذ " مؤمن " وطلعتهم بنفسي لحد شقة الأستاذ " مؤمن " دقيت الجرس ففتحت لي مراته الجميلة اللطيفة :
" أتفضلي دي حاجة كده بسيطة عشان تدوقي عمايل أيد حرمنا المصون في المستقبل "
ولسه كنت هستعد أعتذر لها عن مسألة ضياع الصينية بتاعتهم لقيتها ضحكت وقالت :
" شكرا مع إني زعلانة منك لأنك كسفت " أحمد " إمبارح وما رضتش تاخد منه صينية الأكل ! "
......................
عديها عديها .. مؤكد إن الست غلطانة أو نسيت أنا مصر على أن هناك خطأ ما في الموضوع رغم إني فتشت شقتي حتة حتة ملقتش الصينية اللي جابها الولد بالليل .. لكن ربما كان هذا دليل على أنني نسيت أو أي حاجة تانية لكنه مش دليل على وجود عفريت طبعا
في الليلة الثانية لي في الشقة آويت إلى فراشي مبكرا جدا .. في التاسعة والنصف كنت في السرير وفي الساعة العاشرة إلا الربع كان الباب يدق بإلحاح :
" لو كان الواد " أحمد " ده هولع فيه ! "
فتحت الباب وأنا هطق من الغيظ لقيت قدامي طفل .. لكنه مش أحمد المرة دي ..
طفل غريب أول مرة أشوفه :
" عاوز أيه يا حبيبي ! "
سألته فرد علي بصوت غريب :
" عاوز مية "
" مية "
" أيوه يا عمو .. من فضلك هاتلي مية "
استغربت جدا من طفل يدق أبواب الناس عشان يطلب ميه لكني دخلت المطبخ .. ومليت له كوباية ميه ورجعت بيها .. لكني ملقتش الطفل العجيب ده عند الباب :
" الحمد لله إنه مشي .. باين عليه عيل شقي ورذل "
كان كوب الماء لا يزال في يدي وكدت أغلق باب الشقة عندما وجدت شيء غريب على الباب من الخارج .. علامة كف يد بشرية .. كف بشرية سوداء !
نظرت للعلامة الغريبة لدقيقة ثم سقط كوب الماء من يدي وتحطم !
لم أستطع النوم ليلتها .. أصابني الأرق والخوف لأول مرة ..
ما معني هذا ؟
خرجت في الصباح لشراء حاجات وروحت زرت بيت خطيبتي ، كنت واخد أجازة من الشغل عشان أخلص الشقة ، ورجعت على المغرب كده .. لقيت مدخل العمارة غارق في ظلام دامس
الحقيقة إني كنت خايف فعلا رغم تفكيري العقلاني اللي بيرفض مسألة الأشباح دي من أساسها .. طلعت السلالم جري وطلعت مفاتيحي عشان أفتح باب الشقة .. المفتاح دار في الكالون لكن الغريبة بقي إن الباب ما أتفتحش .. حاولت فتح الباب مرة وأتنين وتلاتة لكنه ظل عنيدا رافضا أن ينفتح .. حطيت الحاجات اللي في أيدي على الأرض وحاولت فتح الباب بالزق والدفع بقدمي بشدة لكنه بردو ما أتفتحش .. أتلفتت حواليا وأنا محتار هعمل أيه دلوقتي .. أرجع الشارع وأدور على بتاع المفاتيح والكوالين اللي معرفوش هنا ولا أطلب مساعدة حد من الجيران ولا أروح أبات في بيتنا أحسن ؟!
ما كنتش عارف أعمل أيه بالضبط بعد لحظة سمعت صوت خطوات نازلة على السلم .. كانت خطوات خفيفة بطيئة لحد صغير .. بصيت شوفت ولد صغير نازل على السلم ووراه تلت صبيان تانين ميزت فيهم " أحمد " و" نور " ولاد الأستاذ " مؤمن " .. بس الأتنين التانيين دول مين بقي .. آه أفتكرت فعلا صاحب العمارة قالي إن الأستاذ مؤمن عنده أربع أولاد ..
يبقوا الأتنين التانيين دول ولاده بردو .. كويس كده عرفت حاجة مهمة عشان مخافشي تاني لو شوفت عيل معرفهوش !
ابتسمت للولاد وقلت لأحمد :
" أزيك يا حبيبي .. رايحين فين كده دلوقتي "
فرد علي وقال :
" رايحين نجيب فينو من الفرن اللي جنبنا يا عمو .. نجبلك معانا ؟ "
" لا يا حبيبي شكرا .. أتفضلوا معانا "
" شكرا يا عمو "
وتجاوزني الأولاد ونزلوا على السلم حتى غابوا عن عيني .. عدت للنظر إلى باب شقتي ففوجئت به مفتوح
لم يكن هناك وقت للذعر ولا الدهشة .. شيلت حاجتي من على الأرض وجريت على جوه وقفلت الباب ورايا بسرعة !
في الليلة دي معرفتش أنام خالص كنت خايف وقلقان وبفكر .. يا تري اللي حصل مع باب الشقة ده طبيعي .. إزاي أفضل أحاول أفتح الباب أكتر من ربع ساعة وأعجز وبعد كده يتفتح لوحده في لحظة ..
في حوالي الواحدة صباحا غرقت في نوم قلق متوتر لنصف ساعة لا أكثر صحيت بعدها على صوت غريب يدوي في الظلام .. كان صوت رجلين لكنها لا بتلطع ولا بتنزل .. كانت رجلين بتتحرك في مكانها .. أو على الوجه الدقة بتدور في حلقات
خرجت من السرير وولعت نور أوضة النوم وبعدين خرجت على الصالة .. فتحت باب الشقة بهدوء وحذر وبصيت .. لقيت على بعد متر من الباب ولدين صغيرين عمرهم حوالي تمن أو تسع سنوات .. ولاد الأستاذ " مؤمن " التانيين اللي كانوا نازلين مع " أحمد " و" نور " أخواتهم .. كانوا واقفين قدام شقتي ماسكين أيدين بعض وبيلفوا حوالين بعض وبيغنوا بصوت واحد :
طيري طيري يا عصفورة أنا متلك حلوة صغيورة
طيري طيري يا عصفورة أنا متلك حلوة صغيورة
بركض فوق حفاف الزهر ...بحجر ع ميات النهر و بخبي بشعري بشورة
بركض فوق حفاف الزهر ...بحجر ع ميات النهر و بخبي بشعري بشورة
بيتك يا عصفورة وين ما بشوفك غير بتطيري
ما عندك غير جناحين حاكينا كلمة صغيرة
ولو سألونا بنقلن ما حاكتنا العصفورة
فضلت باصص عليهم ومستني يخلصوا لعب ويطلعوا شقتهم ويريحوني من دوشتهم لكنهم فضلوا يلعبوا ويغنوا فترة طويلة لحد ما أعصابي ولعت طلعتلهم من الباب وزعقت فيهم :
" يا عيال حرام عليكم .. ده بردوا وقت لعب ؟! "
وقفوا وبطلوا لعب وغنا وبصولي بهدوء من غير ما يتكلموا هديت نفسي شوية وكلمتهم بالراحة عشان ما يعندوش :
" حد يلعب دلوقتي يا حبايبي .. يلا أطلعوا لماما لحسن تقلق عليكم "
الغريب أن الولدين وقفا ينظران لي بهدوء دون أن يردا علي .. الأغرب أنهما بعد أن تأملاني في صمت لعدة دقائق أخذ كلا منهما يد الآخر بهدوء واتجها نحو السلم وبدءوا يطلعوا فوق ..
" الحمد لله .. سمعوا الكلام "
تنفست الصعداء وكنت هرجع شقتي لما سمعت صوت جمد الدم في عروقي .. صوت فتح وقفل باب فوقي على طول .. باب الشقة اللي في الدور الثالث !
مين اللي فتح بابها وخرج منها أو دخل فيها .. جريت على جوه ودخلت سريري وأتغطيت وحاولت أنام لكن معرفتش !
في الصبح بدري خرجت من البيت وروحت قعدت على كافيه قريب بيفتح 24 ساعة كلت فطار خفيف وشربت مج نسكافيه أد الداهية .. فضلت قاعد هناك كنت في حالة غريبة جدا .. مش عارف هو أنا خايف من اللي سمعته إمبارح ولا ده قلق وأرق عادي ملوش علاقة باللي سمعته عن العمارة دي .. ولا ببساطة ده مجرد انتقال الرعب بالإيحاء .. هو أنا ليه متأكد قوي كده أن الصوت اللي سمعته أمبارح كان صوت باب شقة الدور الثالث اللي أتحرقوا فيها الولدين ؟!
ما يمكن صوت باب تاني .. وبعدين ما الأستاذ " مؤمن " وعيلته قاعدين في شقتهم زي الفل ولا حصلهمش حاجة .. مؤكد لو كانوا شافوا حاجة كانوا عزلوا خصوصا ودول عندهم أربع أطفال وأكيد بيخافوا عليهم فلو كان في أي حاجة في البيت كانوا سابوه وعزلوا من زمان !
أهدا كده وأعقل يا أخي .. في الحقيقة كنت بكلم نفسي ولكن كانت المحاورة جامدة شوية
سبت الكافيه وقررت أرجع الشقة .. ولأن المسافة قريبة أتمشيت بالراحة وأنا بتفرج على المحلات اللي أبتدت تفتح دلوقتي ..
بعد الضهر جات خطيبتي ومعاها أمها وأخوها الكبير وقعدوا شوية في الشقة وأتغدينا سوا وبعدها مشيت أم خطيبتي وأخوها وسابونا ننزل إحنا الأتنين سوا نشتري شوية طلبات لزوم الجهاز والجواز .. وإحنا ماشيين في وسط البلد لقينا الدنيا زحمة قوي والمرور متعطل خالص ومفيش فايدة من ركوب تاكسي لإنه كده كده مش هيعرف يعدي بينا في الزحمة دي .. خدنا المسافة كلها كعابي وإحنا بنتفرج على المحلات .. وقفنا قدام محل ملابس حريمي فخم وكبير قوي .. دخلت خطيبي تنقي شوية حاجات بس أنا فضلت أستناها بره ..
وأنا بره وقفت قدام المرايات اللي في الواجهة وقعدت أتفرج على الفساتين الأنيقة فجأة لمحت في المرايا وش أعرفه كويس .. وش واحد من أولاد جاري الأستاذ " مؤمن "التوأم اللي معرفش أسمهم .. كان واقف ورايا بالضبط .. أستغربت جدا وبصيت ورايا لكني ملقتوش .. رجعت تاني وبصيت في المرايا والغريبة إن انعكاسه كان ظاهر بوضوح جدا فيها .. كان شيء غريب جدا أدورت وأبتديت أتمشي على طول الواجهة بتاعة المحل وبصيت كويس على امتداد الشارع من اليمين ومن الشمال لكن بردو ملقتش الولد ..
معرفش أيه اللي خلاني أشعر بخوف شديد .. خوف في عز الضهر وفي وسط الشارع المزدحم .. نفضت راسي وقلت لنفسي :
" لا لا أنت أبتديت تخرف .. أيه اللي هيجيب عيل صغير لوحده هنا ؟! "
فعلا أقنعت نفسي بأني بتخيل كالعادة .. رجعت قدام المحل وخرجت خطيبتي وروحتها وبعدين رجعت شقتي .. لما وصلت عند باب الشقة تفاجأت بمنظر غريب .. باب الشقة كله كان مليان لطع سوداء .. علامات سوداء تشبه كف يد بشرية صغيرة ودقيقة .. دهشت للغاية لمنظر البقع السوداء على بابي الأبيض اللامع الذي أنفقت مئات الجنيهات على دهانه وتلميعه ..
" مفيش غيرهم هما العيال العفاريت ولاد " مؤمن " .. والله لأقول لأمهم "
وفعلا وبمنتهي الغضب والغل .. نطيت على السلم قاصدا الدور الرابع حيث شقة الأستاذ " مؤمن " وعديت طبعا في طريقي على الدور الثالث .. كان هادي وساكن تماما وفيه انطباع غريب يخلي قلبك يتقبض كده وتشعر بالحزن والأسى متعرفش ليه ..
مش عارف أيه اللي خلاني أروح ناحية باب الشقة اللي في الدور التالت وأبص عليه كويس .. كانت دي أول مرة أروح ناحية الشقة دي من ساعة ما دخلت العمارة دي ..
باب الشقة كان لونه أبيض زي باب شقتي بالضبط .. لكنه طبعا كان باهت ومقشر في حتت كتيرة .. لكن مش هو ده سبب الدهشة اللي صابتني .. الدهشة كان سببها إن الباب هنا كمان كان ملطخ كله بعلامات سوداء زي العلامات اللي ماليه باب شقتي .. نفس العلامات بنفس شكلها وحجمها تقريبا .. أيه معني كده ؟
ممكن يكونوا ولاد " مؤمن " العفاريت كمان بيلطخوا باب الشقة دي ، رغم إنهم المفروض يخافوا منها ويبعدوا عنها ، زي ما بيعملوا مع بابي أنا .. معقول فيه أطفال أشقياء ومتعفرتين للدرجة دي ؟
" والله العظيم لأنا قايل لأمهم "
وفعلا طلعت جري على السلم ووصلت عند شقة الأستاذ " مؤمن " .. رنيت الجرس وبعدها خبطت على الباب بعنف بكل الغضب والغيظ المكبوت جوايا .. فتحت لي مدام " مؤمن " كان شكلها غريب ومنظرها يدل على وجود مشكلة كبيرة عندهم لكن أنا ما أهتمتش .. اللي تخلف عيال زي دول حلال فيها مشاكل الدنيا كلها :
" يا ست " أحلام " يرضيكي كده بردو .. ولادك بوظوا باب شقتي خالص "
شحب وجه الست فجأة شحوبا شديدا وظهرت نظرة رعب في عينيها وسألتني بصوت مبحوح :
" ولادي .. عملوا أيه ؟"
أتغظت منها أكتر وقلت لها بقسوة :
" عملوا أيه .. لطخوا باب الشقة ورسموا عليه كفوفهم باللون الأسود .. مش عيب كده برض... "
ما لحقتش أكمل كلامي لأن الست قفلت الباب في وشي .. وسمعتها من ورا الباب المقفول بتقولي :
" مش ولادي اللي عملوا كده .. لازم تعرف كده كويس .. مش ولادي مش ولادي "
ثم سمعتها تبكي بحرقة ..
................................
في المساء ، وبعد أن هدأت قليلا ، قررت أن أنظف باب الشقة بنفسي وأمري إلى الله .. جبت جردل ومليته ميه بصابون وإسفنجه وطلعت بره الشقة عشان أنظف الباب .. غطست السفنجة في المية ومسحت بيها أول بقعة كف سودا .. هنا تفاجأت حقا وأصابني الرعب .. لأني وبمجرد ما لمست البقعة لقيت مسحوق بيسقط على الأرض .. مسحوق أسود أعرفه جيدا .. رماد !
وقفت للحظة عاجز عن التفكير وبعدها سحبت الجردل ودخلت الشقة وتربست الباب ورايا وقفلته بكل القفول اللي عندي .. مش هلمسها .. مش هلمس البقع دي تاني !
معرفتش أنام طول الليل .. ما إما الست دي كدابة وولادها العفاريت هما اللي عملوا كده يا إما أنا جبان .. بس على فرض أن ولادها هما اللي عملوا كده في بابي طيب جابوا الرماد منين ؟
إزاي يقدر ولدين عمرهم تمن أو تسع سنيين يرسموا كفوف بشرية بالرماد بالعشرات على بابي وباب شقة الدور الثالث .. ولأي سبب ؟
فعلا لأي سبب .. لأي سبب .. لأي سبب
كانت نايم وبهلوس لما صحيت مفزوع على صويت صراخ .. صراخ بيرج العمارة كلها ..
قمت مفزوع وبالبيجاما خرجت من الشقة .. سمعت الصراخ جاي من الدور الثالث أو من الرابع .. مكنتش قادر أحدد بالضبط جريت على السلم لقيت باب شقة الدور الثالث مفتوح على مصراعيه والنار مولعة في الشقة .. لا لا دي مش هلوسة ولا شغل عفاريت دي نار بحق وحقيق .. ترددت ما بين إني أطلب المطافئ والنجدة وبين إني أحاول أساعد لحد ما أي مساعدة تيجي من بره .. اقتحمت الشقة ودخلت وأنا بصرخ وبنادي على أستاذ " مؤمن " وعلى الست " أحلام " .. الشقة كانت كلها مولعة والنار تلتهم كل شيء فيها .. وجدت أمامي عدة أبواب أوض مفتوحة وكلهم النار مولعة فيهم .. فضلت أصرخ وأنده على الجيران بأعلى حسي وجريت ناحية حمام الشقة أحاول أجيب ميه أطفي بها النار الشرسة دي ..
الحمام هو كمان كان والع لكني شوفت فيه أغرب منظر ممكن تتخيله في حياتك .. البانيو في الحمام كان مليان ميه وبيطفطف على الأرض .. لكن الغريب أن الميه نفسها كانت النار على سطحها .. الميه نفسها كانت مشتعلة ..
أنعقد لساني من الدهشة وفجأة وجدت كل النار أطفت لوحدها والدنيا هديت تماما .. بعدها بلحظة سمعت صوت باب الشقة بيتقفل من بره بشدة وأصبحت وحدي فيها وسط الظلام الدامس !
.....................................
طيري طيري يا عصفورة أنا متلك حلوة صغيورة
بركض فوق حفاف الزهر ...بحجر ع ميات النهر و بخبي بشعري بشورة
انتي و كل الاهل صحاب بتحكيلن شو ما عملنا
لعبنا درسنا بكتاب و تشيطنا و أكلنا
و ما شفناكي و شفتينا
كيف عرفتي يا عصفورة
كابوس .. كابوس فظيع أعوذ بالله .. أعوذ بالله !
صحيت مفزوع وجريت على المطبخ .. شربة مية أبل بها ريقي قبل ما أموت .. ولعت نور المطبخ وفتحت التلاجة وشربت .. بعد ما قفلت التلاجة وفجأة .. النور قطع !
ضلمت الدنيا مرة واحدة وغرقت الشقة كلها في ظلام زي الكحل .. البوتاجاز كان جنبي وعليه علبة الكبريت .. مديت أيدي ومسكت علبة الكبريت وولعت عود .. اشتعلت رأي العود وأول ما ولعت شوفت حاجة بتتحرك قدامي .. ما لحقتش أحدد أيه ده اللي بيتحرك بالضبط لأن العود أطفا بسرعة .. ولعت واحد تاني لكن أيدي كانت بتترعش فمعرفتش أمسكه كويس فوقع مني على الأرض وأطفا .. مسكت نفسي وبلعت ريقي وولعت العود التالت وعلى نوره .. شوفت .. شوفت حاجة بتتحرك جنبي بالضبط ..
مكنتش قادر أحدد أيه ده بالضبط .. ممكن تكون قطة أو أي حاجة .. برجلين بيرتجفوا دورت على الشمع لحد ما لقيته في درج من أدراج المطبخ .. ولعت شمعة .. لكن كانت أول حاجة شوفتها على نور الشمعة هو وش .. وش طفل صغير واقف قدامي وبيبص لي .. ولد من أولاد جاري الملعون .. أيه اللي جابه هنا .. دخل هنا إزاي ؟!
كان بيبص لي بثبات من غير ما تتهز فيه شعرة .. بصيت له لحظة وبعدها شوفته بيتحرك بهدوء .. ريقي نشف مقدرتش أنطق بكلمة واحدة .. تحرك الولد بهدوء وراح ناحية الصالة .. وعلى نور الشمعة شوفته بيمشي بثقة في الصالة ورايح ناحية الباب .. عند الباب أتدور وبص لي بصة مخيفة جدا وبعدها أنفتح الباب وخرج منه .. وأتقفل الباب لوحده !
هنا بس لقيت صوتي الضايع .. وصرخت !
.................................
لازم أكون مغفل عشان أفضل مصر على أن مفيش عفاريت في العمارة دي .. لا في .. لكن المصيبة ولاد الأستاذ " مؤمن " مالهم بالموضوع ده .. معرفتش أنام تاني خالص .. فضلت صاحي لحد الصبح وأول ما الصبح طلع لبست هدومي ونزلت كافيه قريب عارفه بيفتح بدري وطلبت فطار خفيف وشاي .. لكني مقدرتش أكل وشربت الشاي .. بعدها حلفت لروح للي أسمه " مؤمن " ده ومراته وأوبخهم وأطلب منهم يبعدوا عيالهم العفاريت عني بدل ما أوديهم في داهية .. أكيد العيال دول بيلعبوا معايا لعبة سخيفة ولازم الوضع ده يكون له حد !
وصلت العمارة ودخلت الأسانسير لكنه فوجئت بيه عطلان رغم إني لسه نازل بيه من شوية .. مش مهم أنا شقتي في الدور الثاني .. أبتديت أطلع على السلم وتقابلت في نص المسافة مع مرات الأستاذ " مؤمن " اللي كانت نازلة ومعها ولادها " أحمد " و" خالد " وشكلهم كده رايحين حتة بعيدة لأنهم كانوا لابسين وواخدين أكياس وشنط معاهم ..
صبحت عليهم وابتسمتلهم ، قبل ما أتفتح فيهم ، لكن وجوههم كانت شاحبة ومرهقة ومحدش فيهم ابتسم ولو مجاملة حتى مدام الأستاذ " مؤمن " كان باين عليها زعلانة قوي ومتوترة لسبب معرفوش لكن الغريب إنها كانت واخدة ولدين بس من ولادها الأتنين :
" صباح الخير يا مدام " أحلام " أزيك "
" صباح النور "
ردت عليا بوجه جامد وهي بتشد أيد ابنها " خالد " اللي كان عمال يتنطط زي فرقع لوز
" على فين العزم كده بدري ؟! "
" على إسكندرية .. رايحين عند ماما شوية نريح أعصابنا "
" ترجعوا بالسلامة .. أمال فين بقية الولاد "
مش عارف ليه كنت حاسس إن مدام " أحلام " بتتجنب نظراتي ومش عايزة تكلمني ولا حتى تشوفني خالص لكنها ردت عليا ببرود :
" البنتين عند جدتهم أصلا في إسكندرية ! "
تركتني مدام " أحلام " ونزلت السلم بسرعة مع ولادها بينما تجمدت أنا مكاني .. البنتين ؟!
بنتين أيه .. يعني هي عندها ولدين وبنتين مش أربع أولاد !
أمال الولدين التانيين دول ولاد مين .. ولاد مين ؟!
...........................
دلوقتي أصبح الوضع ظاهر جدا وعايز قرار سريع .. أسيب الشقة ولا أفضل فيها وأمري إلى الله ؟!
سؤال بسيط وواضح وعايز إجابة سريعة .. والإجابة هي أنا مش هسيب شقتي !
فلنفرض إن في عفاريت في العمارة ودي حاجة شبه مؤكدة هيعملولي أيه يعني ؟!
واضح إنهم عيلين صغيرين ماتوا بطريقة مأساوية وكل اللي عايزينه إنهم يرعبوني ويخوفوني ويلاعبوني أستغماية زي أي أطفال .. خلاص خليني ألاعبهم بقي وأديني قاعد في الشقة ..
وكده قررت أفضل في الشقة لأنهم في الآخر أطفال صغيرين مش مؤذيين .. لحد دلوقتي يعني !
تاني يوم أتأكدت أني بقيت لوحدي في العمارة .. الساكن التالت غيري وغير الأستاذ " مؤمن " عزل وساب العمارة .. وأيه يعني انا قررت ماأخافش .. ومش هخاف !
الليلة دي معرفتش أنام رغم تظاهري بالشجاعة .. قررت أتسلي شوية ففتحت الفيس بتاعي وقعدت أدردش مع خطيبتي ومع كام واحد من صحابي .. كنت حاطط سماعات الكمبيوتر ومركز في الشاشة .. فجأة لقطت صوت واطي مش واضح من بره .. أعتذرت لصاحبي " مدحت " وخلعت السماعات عشان أسمع كويس .. فعلا فيه صوت غريب .. بعد شوية تركيز عرفت إنه صوت خبط على الباب .. خبط على باب شقتي بالذات ..
كنت قلقان وخايف منكرش لكني روحت على الباب وفتحته بشويش .. على الباب لقيت حد غريب واقف .. واحدة ست عمري ما شوفتها قبل كده !
استغربت قوي من رؤية الست الغريبة لكني بلعت ريقي وقولتها :
" أفندم "
" حضرتك أستاذ "....... " ! " وقالت اسمي
" أيوه حضرتك مين ؟! "
" أنا أم " نور " و" أيمن " ! " جاوبت الست على سؤالي فسألتها
" مين " نور " و " لكنها ما أدتنيش فرصة أكمل سؤالي لإنها كملت بسرعة :
" أنا أم الولدين اللي ماتوا محروقين هنا .. " نور " و" أيمن " ! "
بصيت لها بدهشة .. دي أيه اللي يجيبها هنا .. عايزة أيه مني
" ممكن أدخل لو سمحت "
كنت محرج جدا ، وضعي زي الزفت ، أنا عازب وقاعد لوحدي ودي ست حلوة وصغيرة وإحنا داخلين على نص الليل .. أدخلها ولا ما أدخلهاش .. يا دي الحيرة يا ربي
وواضح أن الست قرت أفكاري لأنها قالت لي بصوت هاديء حزين :
" أنا مش هاخد من وقتك كتير .. عندي كلام لازم أقولهولك .. أرجوك ده لمصلحتك ! "
طبعا مكانش قدامي غير إني أدخلها ..
" اتفضلي "
ودخلت الست الشقة .. كان شكلها متوترة وقلقانة .. دخلتها وقعدتها في الصالون وكنت هروح أجيب لها حاجة تشربها لكنها قالتلي وهي بترتجف :
" مش وقته .. أنا مش جاية أتضايف .. أنت ممشيتش ليه زي بقية السكان ؟! "
سؤال مباشر وسريع .. الحقيقة إن طريقتها لخبطتني وخلتني مش عارف أرد عليها أقولها أيه بالضبط .. لكن في النهاية قررت أقول لها الحقيقة حتى لو ما صدقتهاش :
" لأني قررت إنهم طفلين صغيرين ومفيش منهم أذي "
ابتسمت الست ابتسامة حزينة شاحبة وقالتلي بصوت واهن حزين :
" اطفال صغيرين فعلا .. لكنهم ماتوا وهما خايفين ومحبوسين في شقة بتتحرق مش عارفين يطلعوا منها .. ماتوا وهما خايفين .. أنت فاهم معني كده ؟! "
" لا في الحقيقة مش فاهم حاجة "
" مش مهم تفهم .. المهم تمشي من هنا وفورا .. أنا عارفة إن صاحب العمارة مفهمك إن مفيش خطر عليك .. لكن أنا بقولك أرجوك متفضلش هنا دقيقة واحدة تاني "
كلام الست خوفني وزود قلقي منكرش لكن لهجتها خلتني أعند :
" طيب ولو ممشتش هيحصل أيه يعني "
هنا لمعت الدموع في عيون الست وقالتلي بصوت كله رجاء وإستعطاف :
" أرجوك تمشي من هنا بسرعة .. أنا أتسببت بإهمالي في موت ولادي ومش عايزة أكون السبب في مأساة جديدة .. أرجوك أمشي ! "
فجأة حسيت بإصرار وعناد غريب قوي فقولت للست بمنتهي الحزم وأنا بفتح لها باب الخروج :
" آسف أنا مش هسيب شقتي مهما حصل .. أنا مش عيل عشان أخاف ! "
طبعا كان من الواضح إني مصر وإني عنيد ومش هستسلم بسهولة عشان كده الست خدت بعضها وخرجت .. لكن قبل ما تخرج قالتلي بتوسل :
" حتى لو ما كنتش خايف على نفسك فعلي الأقل في ناس بيحبوك ويستاهلوا تحافظ على نفسك علشانهم .. متقعدش في الشقة لازم تمشي قبل يوم 20 مارس .. أرجوك اليوم ده يجي وانت لسه هنا .. دي ذكري موت ولادي .. 20 مارس اليوم اللي أتحرقوا فيه ! "
............................
الصبح جالي صاحب العمارة .. كان شكله مش طبيعي ومتوتر وجاي من غير سابق ميعاد ومفيش سبب يخليه يجي أصلا .. لف شوية في الشقة وقعد يشكرلي في الديكور اللي عملته ويقولي إنها هتكون شقة مبروكة ووشها نادي عليا إن شاء الله وفجأة سألني :
" هي الست المجنونة دي قالت لك أيه ؟! "
أتلخبطت دقيقة وسألته :
" ست مين "
قالي " الست ملك أم الولدين اللي ماتوا في الشقة اللي فوق ! "
" آه فهمت "
هو ده السبب اللي جايب السيد صاحب العمارة رديت عليه ببساطة وحاولت أوضحله إنها ما قالتش حاجة مهمة وإن كلامها ميهمنيش لكنه قالي بغضب شديد :
" متصدقهاش .. دي ست مجنونة .. ولعلمك هي اللي قتلت ولادها عشان تتطلق من أبوهم .. فتحت محبس الغاز وقفلت عليهم من بره عشان يتخنقوا .. لكن العيال لعبوا بالكبريت والشقة ولعت وماتوا محروقين .. النيابة أتهمتها بقتلهم لكن محدش قدر يثبت عليها حاجة .. لكن كل الناس عارفة إنها هي اللي قتلتهم ! "
تركني صاحب العمارة وذهب .. مشي بس بعد ما خلاني قربت أتجنن من الكلام الي بيقوله .. معقول .. معقول الست الرقيقة الطيية دي هي اللي قتلت ولادها .. معقول ؟!
بالليل خرجت روحت مشوار ورجعت بدري .. كنت تعبان وعايز أنام .. طبعا على فرض إني هقدر أنام بعد كل البلاوي اللي سمعتها دي من أم الولاد ومن صاحب العمارة ..
جهزت لنفسي عشا بسيط .. كنت واقف في المطبخ قدام البوتاجاز بقلي بيض .. فجأة سمعت صوت جرس الباب جريت أفتح لكن ملقتش حد .. أستغربت جدا وقفلت الباب ورجعت جوه الشقة .. لكني لقيت المطبخ مولع .. المطبخ كله مولع .. صرخت وجريت على طفاية الحريق اللي وشديتها من مكانها وحاولت أفتحها عشان أطفي الحريق .. الصمام معصلج الصمام مش راضي يفتح .. لو الأنبوبة أنفجرت هتبقي كارثة .. كنت بضغط على الصمام بجنون عشان أفتحه وأنا هبكي من الذعر .. وأخيرا الحمد لله لف الصمام وأنطلق السائل الرغوي على الحريق .. وفي خلال دقائق طفيت النار .. الحمد لله الأنبوبة ما أنفجرتش .. الحمد لله الحمد لله
كنت هبكي من الرعب وفرحة النجاة .. دخلت المطبخ متوقع ألاقي دمار وخراب من الحريق ..
الغريب إن المطبخ مكنش فيه أي أثر للحريق .. مفيش أي حاجة أتحرقت ولا أتدمرت في المطبخ .. أيه ده ؟!
أيه اللي بيحصل هنا بالضبط ..
حتى البيض كان لسه بيستوي فوق البوتاجاز من غير ما يتحرق رغم كل الوقت ده الي هعدي وأنا بحاول اطفي الحريق .. أيه معني ده كله .. أيه معناه !
تليفوني بيرن مسكته ورديت :
" آلو "
صوت نقيق على الناحية التانية .. ثم صوت تنفس هاديء :
" مين معايا "
مفيش رد .. كنت هقفل السكة لما سمعت صوت بيقول بلهفة :
" أنا " ملك " .. أنت بخير ؟! "
للحظة مقدرتش أفتكر " ملك " مين .. لكني بعد شوية أفتكرت
" مدام " ملك " في أيه ؟! "
جاني صوتها من الناحية التانية كله ذعر ولهفة :
" انت كويس .. أنت بخير "
" بخير أيوه أطمني "
" فيه حصلت النهاردة مش كده .. قولي متخبيش عليا "
" مفيش حاجة أنا كويس "
" أرجوك قولي .. خليني أساعدك "
" مش محتاج مساعدة من حد .. أنا بخير .. تصبحي على خير "
قفلت السكة في وشها .. أتدورت علشان أرجع المطبخ .. لكني لقيت حاجة غريبة .. على بعد متر ورايا كان الولدين هناك ..
" أيمن " و" نور " كانوا واقفين هناك وبيبتسموا لي !
...................................
بيتك ياعصفورة وين مابشوفك غير بطيري ماعندك غير جناحين حاكينا كلمة زغيرة
بيتك ياعصفورة وين مابشوفك غير بطيري ماعندك غير جناحين حاكينا كلمة زغيرة
ولو سألونا منئلون ماحاكتنا العصفورة
طيري طيري طيري طيري
طيري طيريييييييييييييييي ياعصفورة
....................................................
كانوا خايفين .. طفلين صغيرين قاعدين لوحدهم وماما مش موجودة :
" مش هتأخر عليكم يا حبايبي .. هجيب حاجة وأجي بسرعة "
" خديني معاكي يا ماما " قالها " أيمن " وهو بيترمي في حضنها
ضحكت الأم وقالت له :
" لا يا حبيبي أنا مش هتأخر .. هرجع بسرعة .. أقعد مع أخوك .. غنوا الأغنية اللي بتحبوها وقبل ما تخلصوها هتكون ماما رجعت من برة "
وهي تغادر الشقة كان الولدين بالفعل بيغنوا
بيتك ياعصفورة وين مابشوفك غير بطيري ماعندك غير جناحين حاكينا كلمة زغيرة
لكنها ما رجعتش قبل ما يكملوا الأغنية .. لأنهم ما كموهاش خالص ولأنهم ماتوا بعد خروج الأم بدقائق .. ولأنهم ملحقوش يشوفوها تاني .. ولأنهم ماتوا وحيدين ومرعوبين ومتألمين !
كله ده شوفته في عيون الولاد اللامعة .. كانوا بيقربوا مني بهدوء وببطء .. اللحظة دي بس تذكرت .. تذكرت اليوم .. اليوم 20 مارس .. ذكري وفاة الولدين .. اليوم الذي حذرتني منه الأم !
" عايزين أيه ؟! "
سالتهما وأنا بحاول أبعد عنهم ..
" مش عايزين حاجة يا عمو .. عايزين ماما ! "
ردا علي في صوت واحد :
" عايزين ماما .. عايزين ماما ! "
" ماما " سألتهم وأنا حلقي نشف من الرعب :
" ماما أتاخرت .. "
" قالت هتيجي قبل ما نخلص الأغنية ولسه ما جاتش "
" لو إحنا غنينا تاني ممكن ماما تيجي ! "
كنت في قمة الذعر والرعب مش عارف أعمل بالضبط .. الولدين قدامي مش عارف أهرب منهم إزاي ..حاولت أتكلم بهدوء يمكن يسيبوني ويمشوا :
" ماما فوق .. فوق في شقتكم ! "
قولتلهم وأنا بحاول ابتسم :
" أنت كذاب .. " جاوب علي واحد فيهم وبدأت ملامحه تتغير :
" أنت كذاب .. كذاب .. حرام الكذب .. حرام اللي بيكذب بيروح النار .. بيتحرق في النار "
" لو كذبت هتتحرق زينا .. إحنا أتحرقنا في النار عشان كنا كذابين .. "
" ماما حرقتنا عشان إحنا كذابين "
صعقت لكلامهما .. " ماما حرقتنا "
فعلا كلام صاحب العمارة صحيح .. الأم المجرمة هي اللي حرقت ولادها .. عشان كده .. عشان كده مش عايزاني أفضل هنا ..
كنت بحاول أبعد عنهم بأي طريقة .. فجأة رن جرس الشقة رنين مزعج متواصل .. جريت ملهوف وفتحت الباب لقيتها واقفة هناك على الباب .. ملك الأم !
دخلت الشقة وبمجرد ما دخلت النور قطع تماما وبقينا في الضلمة .. فجأة سمعت صوت صراخ .. صراخ شديد مرعب .. صراخ الولدين المذعور مختلط بصراخ الأم
كنت سامع الصراخ لكن مش عارف أيه اللي بيحصل بالضبط ..
صراخ صراخ شديد في وداني .. استمر الصراخ لدرجة مرعبة ولحد ما بقتش قادر أستحمل .. حسيت بضعف ووهن شديد ووقعت على الأرض وغبت عن الوعي ..
مش عارف قد أيه أستمريت غايب عن الوعي .. لكن لما فوقت وجدت نفسي مرمي على السلم .. كنت حاسس إن عظمي كله مكسر .. كنت مرمي قريب من باب العمارة والاب مفتوح .. لازم أمشي من هنا لازم أمشي وبسرعة ..
وقفت وطلعت كام درجة وبصيت على شقتي .. كان بابها مفتوح والنور منور .. طلعت بالراحة وأنا بترعش من الخوف .. سمعت صوت صراخ حاد جاي من الدور اللي فوق .. من شقة الدور الثالث .
دخلت شقتي بسرعة .. عايز ألم حاجاتي الضرورية وبس .. الباقي بعدين بعدين .. بعدين أجي ومعايا أصحابي نلم بقية الحاجات .. مش عايز الشقة .. مش عايز أتهبب أتجوز .. حتى فلوسي مش عايزاها .. المهم أخرج من هنا .. يا ربي يا ربي
يا رب أخرج من هنا .. يا رب أخرج من هنا سليم
حطيت كل حاجاتي في هاندباج وخرجت من الشقة وقفلت الباب ورايا بالمفتاح .. تساقط الرماد المرسوم بيه كله على الأرض بشكل أرعبني .. نزلت السلم وأنا بجري زي المجنون .. وما صدقت وصلت عند باب العمارة وخرجت منه بسرعة البرق وأنا بتشاهد .
" الحمد لله .. الحمد لله نفدت "
" الموبيل .. الموبيل نسيت الموبيل فوق ! يا ربي يا ربي "
نفخت من الغيظ والضيق .. أسيب الموبايل وأمشي وأنفد بجلدي أحسن .. ولا أطلع أجيبه ..
" مش معقول مش معقول الجبن ده .. "
وهكذا قررت أن أعود إلى الشقة لأحضر الموبيل .. رجعت العمارة وفتحت الباب الخارجي اللي كنت سحبته ورديته ورايا .. دخلت جوه .. وطلعت على السلم بسرعة ..
وصلت الدور التاني في لحظة وطلعت مفتاح شقتي وفتحت الباب وأنا بسمي باسم الله وبستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ..
دخلت فورا أدور وبسرعة على الموبايل الزفت .. فجأة سمعت صوت جنبي على طول .. كان صوت غريب زي ما يكون همهمة غير مفهومة كده .. تجاهلت الصوت الغريب وأنطلقت أدور في كل حتة على الموبايل .. فوق كنبة الصالة في أوضة النوم في المطبخ فوق الطرابيزات تحت الكراسي وفي كل مكان لكني ملقتلوش أي أثر ..
وعلى حين غرة سمعت صوت الرنة الخاصة بموبايلي .. الرنة كانت جاية من حتة قريبة وقريبة قوي كمان .. كانت جاية من جيبي !
مديت أيدي في جيب البنطلون ولقيت الموبايل موجود هناك .. الموبايل كان في جيبي طول الوقت وأنا اللي رجعت الشقة عشان أدور عليه !
في اللحظة دي سمعت أصوات غريبة .. أصوات طفلين بيرددوا أغنية نفس الأغنية المشئومة ..
خرجت من الشقة زي المجنون .. سبت كل حاجة وجريت على السلم .. أنطلق دخان كثيف من الدور الثالث بينما ارتفعت أصوات الغناء :
تحت لقيت باب العمارة الخارجي مقفول .. طلعت الموبيل زى المجنون وحاول أتصل بأي حد يلحقني .. مجرد ما طلعت الموبيل من جيبي فصل وشاشته ضلمت ..
كنت هموت من الرعب والغيظ ومن غير ما أحس بنفسي جريت في كل حتة في العمارة حاولت أفتح أي باب أو أي شباك أستنجد منه بالناس .. بأي حد .. لكني لقيت كل الأبواب والشبابيك مقفولة بقسوة ومن غير رحمة .. وكنت واثق من ذلك !
وجدت نفسي عاجز محاصر مغلوب على أمري بينما ألسنة النار تندلع من كل حتة في العمارة والنار تحاصرني أينما ذهبت .. وقفت حائرا أمام باب العمارة .. ظهر الولدين فجأة على السلم .. كانت أشكالهما متغيرة .. كانا مرعبين والغضب على وجهيهما .. صرخ أحد الولدين صرخة مرعبة .. كانوا بينزلوا السلم ناحيتي والرماد يتساقط تحت أقدامهما ..
كانت ملامحهما تتغير شوية بشوية وتزيد رعب وبشاعة .. في اللحظة التالية ظهرت الأم .. كانت نازلة جري وصرخت في برعب :
" أهرب أهرب .. أجري .. أفتح الباب واجري ! "
حاولت أفتح الباب .. كنت عايز أنقذ نفسي وانقذها كمان .. شديت الباب بكل قوتي .. مرة وأتنين وعشرة ..
" أتفتح أتفتح "
أتفتح الباب وخرجت .. أتقفل الباب ورايا بقوة وسمعت صوت انفجار يهز العمارة كلها !
0 تعليقات:
إرسال تعليق