Ads

مِّعْناتِي


خديجة المسعودي


صباح الخير أيها الكبار.
كل ما أشتهيه الآن هو أن أنهض من سريري، أغسل وجهي، أغير ثيابي و أتناول فطوري. حسنا لا داعي للفطور سأتناوله هناك. سأخرج من البيت نحو أكبر المزابل خلف الأحياء . سأبحث عن أي شيء يمكنه أن يذكرني بطفولتي. سأجمع قناني الماء والزيت الفارغات و أغطيتها. سأبحث عن علب سردين فارغة، عن قشر البطاطس والبادنجان والبرتقال. سأحضر معي بعض التراب أيضا لأن حينا الان للأسف نظيف لا غبار فيه. سأبحث عن أعواد صغيرة لأصنع منها سكاكين وملاعق. يجب أن أجد في المزبلة غطاء علبة الحليب "نيدو" لتكون صينية فاخرة لفطوري الجميل. سأجمع كل شيء في كرتونة و أعود للبيت. 
أيها الكبار لقد وصلت البيت الآن. الممر الفاصل بين الشارع وداخل البيت مغلق. فقد ملأته أمي بملابسنا المتسخة ودلوين من الماء. تغسل الملابس هناك ليسهل عليها دلق الماء في الزقاق مباشرة. كانت أمي بالداخل حينها وكان من الغباء ألا أستغل الفرصة. غطست إحدى قنيناتي داخل الدلو لأملأها وماكدتُ أنتهي حتى غيَّم المكان بظل جسد أمي وأطلقت أنا صرخة مدوية من شدة الألم وهي تشد أذني الصغيرة:
- يا بنت الحرام فين مشيتي من الصباح بلا ما تقوليها وجيتي دابا وسختي ليا الماء يا المعفونة. واش بغيتي طرطقي ليا مرارتي؟ غبري عليا الله يغبر لك الشقف.
قالتها وهي تدفعني داخل البيت بيدها القابضة على أذني كأنها حلوى تخشى أن يسرقها منها أحد. تمايلت من الدفعة و أنا أحاول ألا أقع وتسقط "مواعيني" من الكرتونة. متسللة صعدت إلى السطح و أذني الحمراء تصدر أصواتا مزعجة "ززززززز" . كان سطحنا لا سور فيه ولا درج يؤدي إليه. الكبار فقط من يستطيعون الصعود إلى السطح ويرون العالم كله. بينما الجميع يمنعنا نحن الصغار من الصعود حتى لا نقع وتتشتت أطرافنا. و إن حصل وحاولنا فلن نستطيع لأن أحجامنا الصغيرة لا تساعدنا. و أنا قررت أن أصعد لأنني بدأت أجوع ويجب أن أفطر. لاحظت وجود حفر على الحائط ففكرت أن أتسلق من خلالها و أصعد. لكنني لن أستطيع التسلق والكرتونة في يدي. إن وضعتها حتى أصعد فكيف سأحضِّر فطوري فوق؟ لم يكن أمامي أي خيار سوى أن أفرغ محتوى الكرتونة على قميصي وأجمع أطرافه و أمسكها بفمي. حينها استطعت أن أتسلق الحائط كالقردة وصعدت فوق السطح. شعرت بدوخة خفيفة و أنا أمام العالم لأول مرة. كنت أنا وحدي كبيرة و من دهشتي لفظت كلمة " ونااااري" حتى أفلتت أطراف القميص وسقطت الأواني مني وافتعلت ضجة يمكن أن تسمعها أمي من الأسفل. انحنيت بسرعة أجمعها و أنا أوبخها:
- ششششش أسكتي أيتها الأواني اللعينة. أتريدين فضحي مجددا؟ أصمتي وإلا رميتك من هنا –و أنا أشير إلى حافة السطح الذي لا سور فيه- خافت الأواني ولم تصدر أي ضجيج بعدها. اتجهت نحو الحافة لأرى زقاقنا كيف يبدو من فوق؟ فتذكرت تحذير الكبار لنا بعدم الاقتراب من الحافة و أننا سنقع وتتشتت أطرافنا. تراجعت قليلا وانبطحت على بطني. تقمصت دور الدودة لدقائق وزحفت بهدوء نحو الحافة حتى استطعت رؤية الزقاق. ضحكت لأن الأشياء الكبيرة أصبحت صغيرة جدا وقلت في نفسي:
- هي الحكاية هكذا إذن، كل شيء صغير وتوهموننا أننا نحن الصغار فقط. 
زحفت للخلف حتى أصبحت في منتصف السطح. وقفت لأكتشف نظافة السطح ووساخة ملابسي. ارتعبت و أنا أفكر في رد فعل أمي غندما تراني. ثم نسيت الأمر بسرعة لما تذكرت فطوري.
وضعت غطاء علبة حليب "نيدو" ورصصت عليه أغطية القناني وعلب السردين الفارغة. قطعت بالسكين الخشبي قشر البطاطس والبرتقال والبادنجان قطعا صغيرة لأحضر بها سلطة لذيذة ثم ملأت بها علب السردين وملأت أغطية القناني بالماء. لقد أصبح الفطور جاهزا الان. رأيت حجرا كبيرا تستعمله أمي لتثبيت الزربية عند نشرها. جعلت من الحجر مقعدا جلست عليه ووضعت رجلا على رجل. أمسكت ملعقتي الخشبية بأطراف أصابعي وبدأت أتناول فطوري على طريقة اسماعيل ياسين في فيلم "ذهب" أمضغ الفراغ و أصدر صوت الشرب و أنا أقرب غطاء القنينة المملوء بالماء من شفتي دون أن تلمسني. ذلك الصوت الذي أحبه لأنه يشعرني بالشبع لكن أمي تكرهه. هنا أنا أمام العالم بأسره ولا أحد يستطيع منعي من الأكل والشرب كما أشاء.
انتهيت من فطوري وشبعت. يجب أن أنزل الان قبل أن يكتشف أمر صعودي للسطح. اقتربت من الحائط الذي تسلقته قبل قليل.. ويا ويلي كم بدت الأرض بعيدة ومخيفة؟ كأن أحدا زاد من طول الحائط.. كيف سأنزل من هذا العلو الشاهق الان؟ صرختُ في وجهي و أنا أخبط أفخادي: " قفرتيها يا المسخوطة كيف غادي ديري حتى تنزلي؟ اليوم غادي تاكلي العصا بالسمطة ديال العسكر من البلاصة اللي فيها البزيم"
بدأت أبكي من الخوف و أصرخ: " وماما ولا ولا وماما و أجي نزليني وماما ..."
أسرعت إلي أمي مرعوبة من بكائي وهي تصرخ من أسفل الحائط :
- "شكون طلعك تما يا المسخوطة؟ قربي عندي نزلك. والله يا مك لا بقات فيك" 
زادتني أمي خوفا ورعبا وارتفع صراخي أكثر:
- " و لا. لا. أنا مدرت والو. راه واحد الشفار هو اللي طلعني هنا وضربني وجفف بيا السطح ها شوفي حوايجي كيف ولاو . أنا مدرت والو وحق الجامع الكبير. بغيتي تضربيني و أنا مدرت والو والله حتى نلوح راسي من الحافة ونتشتت طراف طراف حتى متلقاي ما ضربي فيا..."
- "ها ناري أبنتي لا. لا منضربكش غير أجي عندي نزلك. علاه كاين شي واحد يضرب بنتو العزيزة. أجي قربي ليا نزلك ابنتي الله يرضي عليك".
- "كتكذبي عليا. بغيتي نزل باش ضربيني يلاه حلفي مضربيني ونجي".
- "والله ابنتي منضربك غير أجي".
- "لا حلفي بالجامع الكبير عاد نجي".
- " وحق الجامع الكبير منضربك غير آجي".
اقتربت منها لتلتقطني وتنزلني بعد أن أقسمت ألا تضربني. لكنها ما ان أحكمت مسكي و أنزلتني حتى هوت يدها الكبيرة على جسدي الصغير ضربا مبرحا، وازدحم فمها بكلام كثير لم أفهم معظمه لكن طريقة خروجه من فمها أكد لي أنه سب وشتم ودعاء وووو و أنا بين يديها أبكي و أصرخ و أستغيث:
- ولالالالالا ومبقيتش نعاود. وصااااافي لالالالا وباركة وكوااااااك وبابا وفينك ولطيفة وربيعة ونعيمة ومليكة وعتقوني ولالالالالالالالا......



0 تعليقات:

إرسال تعليق