عبد الرازق أحمد الشاعر
عام 1979، قامت جماعة من الطلاب الإسلاميين في إيران باقتحام السفارة الأمريكية هناك، واحتجاز اثنين وخمسين مواطنا أمريكيا لمدة عام ونيف. وباءت كل محاولات أمريكا الدبلوماسية لإطلاق سراحهم بالفشل، مما اضطر القوات الأمريكية للتدخل. بيد أن عسكر أمريكا لم يكونوا أفضل حظا من دبلوماسييها. وباءت محاولة الاقتحام بفضيحة سقط على إثرها طائرتان وثمان ضحايا من المقتحمين، ومدني إيراني واحد.
وسقط مع الإف ستة عشر الرئيس جيمي كارتر وهيبة السي آي إيه والبنتاجون، وبعد دقائق من أداء رونالد ريجان اليمين، تم الإفراج عن الرهائن المحتجزين ليبدأ مسلسل العقوبات الدولية والحصار الاقتصادي على إيران الخمينية.
وقد حاول مارك بدوين - مؤلف كتاب سقوط الصقر الأسود - تعقب تلك الفضيحة، فالتقى ببعض الإيرانيين لاستطلاع آرائهم حول الواقعة، وكان من بين هؤلاء باحث أصولي يدعى رضا غابور. قال غابور يومها بثقة عليم: "السي آي إيه هي التي نصبت الشاه عام 1941، وأطاحت به عام 1979، وهي التي دعمت الحكومة الانتقالية التي أعقبت الثورة، ثم سلحت حركات التمرد التي أطاحت بها. وهي التي أشرفت على احتجاز الرهائن الأمريكيين." عندها ارتسمت علامتا دهشة فوق حاجبي بدوين الذي استمهل غابور بقوسي احتجاج: "ألا ترى تناقضا بين عباراتك سيد رضا؟ لماذا تطيح السي آي إيه بحكومة انتقالية تدعمها؟" عندها أطلق غابور زفرة حارة من صدره المعتل قبل أن يقول: "عليك أن تنظر للأمور من وجهة نظر إسلامية لترى ما أراه."
ولو استعرنا المنطق الغابوري لمَنْطٓٓقة ما يحدث في مصر، لوجدنا أن السي آي إيه هي التي أطلقت صافرة الربيع العربي لتتخلص من مبارك الذي أمّنت كرسيه عقودا، وهي التي سلمت شئون البلاد للعسكر وأتت بحكومة انتقالية هزيلة ثم حرضت عليها ودعمت حكومة أكثر هزلية لتحل محلها، ثم أطاحت بالعسكر لتسلم شئون البلاد للإسلاميين، ثم تعود فتحرك خلاياها النائمة من أجل الإطاحة بالحكومة الإسلامية التي تدعمها ظاهرا وتبطن لها كل المقت.
نقول ماذا لو كانت المؤامرة محض حقيقة لا أضغاث أوهام، وماذا لو كان غابور محقا، وكانت السي آي إيه تحرك كل خيوط اللعبة فوق مسرحنا المشحون بالآلام والإحن؟ هل يمكن أن تستمر لعبة التمكين والتحريض إلى ما لا نهاية حتى يسقط الوطن في براثن الفوضى الخلاقة التي بشرتنا بها أنثى الغراب رايس ذات صراحة؟ وماذا نستطيع أن نفعل لإيقاف لعبة التدمير الذاتي التي استهوت الكثيرين من سياسيي النكبة في هذا البلد الذي وضعته الخارطة المستبدة على حواف الألم منذ عصور؟
ماذا لو صدق غابور وتحولت سفسطاته إلى رؤى وتحليلاته إلى حقائق؟ وماذا لو اكتشفنا فجأة أن أقدامنا التي رقصت في مزارات الثورة حد الإعياء كانت تمشي على طريق رسمته ريشه مخابراتية بارعة، وأن ذهاب الرئيس المخلوع إلى شرم الشيخ وخروجه من المشهد إلى سجن مؤقت ليس إلا فصلا في كتاب لا نقرأ آياته إلا بعدما نمر عليها مصبحين؟ وماذا لو اكتشفنا أن الحكومة الإسلامية مجرد هامش صغير في مساحة تعج بالأحداث الكبيرة تنتهي بخروج الوطن من جلده واستقالته من حدوده الجغرافية لتتحول مدنه إلى قارات فتستباح الواحدة بعد الأخرى في مشهد هولوكوستي مرعب؟
قطعا لم أسع في مقالي هذا للتسويق للمنطق الغابوري، ولا أحبذ أن أنطلق معه في تحليلاته المرعبة حتى تفاصيل السقوط، ولست من دعاة نظرية المؤامرة ولا من المتحيزين لها، لكنني أشعر اليوم أن في الأمر تفاصيل أكثر من تلك التي تذيعها نشرات الأخبار أو تلك التي يتعرض لها المحللون في الغرف المكيفة، وتتجاوز الألتراس والبلاك بلوك والدخان المتصاعد من مؤسساتنا الحكومية. في داخلي ثمة حدس أن المنطق الغابوري سيجد له قدما وساقا فيما يحدث لدينا من انهيارات جليدية متتابعة. وأحذر الواقفين على حدود آرائهم النرجسية من نهاية غابورية مرعبة تشمل الكل ولا تستثني أحدا.
0 تعليقات:
إرسال تعليق