Ads

لحظة من خمسين ألف سنة!!

سيد حربى

يَفتح الكتاب و ينظر فيه فرحاً ، و يروح يقلب صفحاته في سرعة و لهفة ، ثم يغلق الكتاب في سعادة و يحكم كلتا يديه عليه قبل أن يقفز في الهواء صارخاً:
-          هاؤم اقرءوا كتابي .. هاؤم اقرءوا كتابي..
فلا يجيب أحد ..
و لا ينظر إليه أحد..
ما بال القوم؟!
يتقافز صارخاً في سعادة و يهرول بين الصفوف متقدما للأمام و هو يتابع هتافاته:
-          هاؤم اقرءوا كتابي .. هاؤم اقرءوا كتابي .. أنا (عبد الله) أناديكم..
فلا يلتفت له أحد أيضاً..
عجيب أمر هؤلاء القوم..
ألا يسمعون..
ألا يفهمون..
يتابع هرولته رافعاً كتابه بيمناه ، محاولاً بلوغ مقدمة الصفوف التي لا يرى لها نهاية و هو يصرخ في حماس:
-          هاؤم اقرءوا كتابي .. إني ظننت أني ملاقٍ حسابي.. كنت موقناً .. كنت موقناً بلقاء ربي..
لكن المسافة طويلة و الحر شديد و الناس في حالة عجيبة ، فلا هم نائمون و لا هم مستيقظون..
هم كالسكارى أو كمن فقد جميع حواسه عدا حاسة النظر..
يتوقف لاهثاً ، و يتلفت حوله و لم تفارقه سعادته بعد ، فيلاحظ أن الجميع قد تعلقت أبصارهم بالسماء التي امتلأت عن آخرها بالكتب المتطايرة في سرعة البرق..
الجميع تعلقت أبصارهم بتلك الكتب في ترقب و خوف..
أما هو فقد بدأت سعادته تخفت بالتدريج و هو يرى بعض الكتب تهبط إلى ايدي البعض فيصرخون فرحاً مثله و هم يلوحون بها ، و تهبط إلى أيدي البعض الآخر فيخرون على وجوههم نائحين و يحاولون إخفاء كتبهم بأي وسيلة فيفشلون..
يتوتر و هو يرى ذلك و يخرج هتافه التالي ضعيفاً متردداً:
-          هاااا ..ؤم.. اقـ .. رأوا.. كتابي..
و تهبط يمناه الممسكة بالكتاب إلى جواره ، ثم يعود ليرفع الكتاب أما عينيه و يتناقله بين يديه و هو يهمس لنفسه في شك:
-          ويحي .. هل تلقيت الكتاب في يمناي أم في يسراي؟!
يداخله الشك بشده و يزيد من هذا الشعور ما يراه امامه من مواقف متباينة و متعددة فيغمغم في خوف :
-          ويحي .. ويحي .. أين تلقيت كتابي؟؟
تتساقط عبراته و يتلفت حوله في حيرة و هو يردد تساؤله دونما إجابه..
و هنا يرى مشهدا يجمد الدماء في عروقه..
يرى رجلاً يهرول فاراً و فوق رأسه يطير كتابه في إصرار عجيب ، و يتوقف الرجل أمام مجموعة من الوحوش ثم يلتفت ملتاعاً إلى الكتاب الذي يقترب منه..
و يخفي الرجل يده اليسرى خلف ظهره و يمد يمناه محاولاً بلوغ الكتاب ، و لكن الكتاب يلف حوله و يقفز ليده اليسرى ، فيصرخ الرجل صرخة لم ير لها (عبد الله) مثيلاً في حياته..
يرفع الرجل الكتاب أما عينيه و ينظر إليه في رعب صائحاً:
-          يا ويلي .. يا ويلى..
ثم يفتحه و يقلب بضع صفحات منه في خوف ، قبل أن يغلقة بسرعة و كأنما يخشى أن تخرج منه شياطين الجحيم ، و يصرخ و هو يهوي أرضاً:
-          مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها؟!.. ليتني لم أوت كتابي.. و لم أدري ما حسابي..
و يرمي كتابه بعيداً بكل قوته ، فيعود الكتاب ليقفز في يسراه من جديد ، فينوح في يأس:
-          يا ليت الموتة التي مِتَّها كانت القاضية.. ياليتها كانت القاااااضية..
و هنا يسمع (عبد الله) صوتاً قوياً يهتف بذلك الرجل:
-          أين أموالك لتنجيك..
فيقول الرجل في حسرة و هو يضرب رأسه بالأرض:
-          ما أغنى عني مالى..
و يعود الصوت يهاتفاً في لهجة أكثر قوة:
-          و أين سطوتك و قوتك و سلطانك..
فيأتي جوابه منتحباً :
-          هلك عني سلطاني..
و هنا يتوقف تطاير الكتب ..
لقد أوتي كل كتابه..
و يرتفع الصوت مردداً في قوة تخلع القلوب:
-          هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق .. انا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون..
فيرتفع بكاء الرجل و انتحابه و يعود ليدفن رأسه في الأرض..
و يتراجع (عبد الله) في رهبة و هو يتشبث بكتابه بكلتا يديه..
يتراجع ببطء في أول الأمر ، ثم يسرع مهرولاً إلى مكانه الأول..
لم تعد به حاجة ليكون الأول.. ولا ليعلن أنه تلقى الكتاب بيمينه..
إنه خائف رغم الكتاب المستقر بيمناه..
يرتعد رغم الشمس الواقفة فوق الرؤوس..
و يصل (عبد الله) إلى مكانه..
يتوقف لاهثاً..
يضم كتابه إلى صدره ليستمد منه بعض الطمأنينة..
و هنا..
تشرق الأرض بنور عجيب لم ير له الخلق شبيها من قبل..
نور على نور..
نور لا يمكن وصفه أو حتى تصوره..
و يرتفع صوت قوي يعلن في هبة:
-          لقد جااااااااااااء الله..
و يدعى الناس إلى السجود..
يخر (عبد الله) ساجداًً من فوره و بينما هو ساجد يسمع بعض الناس يتصايحون:
-          يا ويلي .. يا ويلي .. ظهري قد تصلّب.. لا أستطيع السجود لله..
يزداد خوفه و تتزايد رهبته ، و لا يجروء على رفع رأسه ، فيزيد من دفن جبهته في الأرض و يزيد من خشوعه و تَذَللُّه و هو يردد:
-          يا رب سلم سلم.

0 تعليقات:

إرسال تعليق