Ads

شهر رمضان : زاد للروح وإعداد للمؤمنين وموسم للانتصارات

الشيخ محمد الخطيب

لقد جعل الحق سبحانه وتعالى فريضة الصيام أصلاً من أصول الديانات السماوية كلها، على اختلاف فى أدائه وفى كيفيته، فهو عبادة قديمة قدم البشرية.
فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} "البقرة: 183" وليس الصوم إذلالاً للنفس بكفها عن المفطرات أو المحرمات، بل الهدف منه رفع النفس الإنسانية عن شهواتها، وإعدادها لعظائم الأمور، وتعويد المسلم الصبر والاحتمال، وليس الصوم الكف عن الطعام والشراب وما أحل الله للإنسان من طيبات فحسب، بل هو فى الأساس كف عن جميع المحرمات من قول وعمل، وفى ذلك يقول صلى الله عليه وسلم "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه من أجلى" فالحق تبارك وتعالى ليس فى حاجة إلى أن ندع طعامنا وشرابنا من أجله، إذا كذبنا أو نافقنا، أو اغتبنا، أو سخرنا من غيرنا من عباد الله، أو وعدنا فأخلفنا، أو نظرنا إلى المحارم، ولم نغض البصر، أو أكلنا حقوق الآخرين، أو استقر الباطل فى أنفسنا، أو قصرنا عن واجب عمداً، أو تجاوزنا الحق فى أحكامنا، أو تجرأنا على حدود الله ولم نعظم حرماته.
وهذا تعويد وتدريب على أفضل الأخلاق، وأكرم الصفات التى يجب أن يوصف بها المسلم، فإذا التزمنا مدة شهر بهذا كان خليقا بنا ألا نتحرف عن ذلك سائر العام، فى الصيام ما يعلم الصائمون، وما لا يعلمون، من فوائد، ونلفت النظر هنا إلى أن الحق تبارك وتعالى يعلم من أمورنا ما لا نعلم، وقد فرض علينا الصيام وغيره من الفروض مما هو غنى عنه، وإنما التكليف هنا لحاجتنا ومصلحتنا، مما فيه علاج القلوب وتصحيح النفوس والأبدان، فنقبل عليها ونؤديها لأنه سبحانه لا يفرض علينا إلا ما فيه سعادتنا ورقينا، فهو الذى خلق كل شئ وقدره تقديرا.
الصوم ضياء:
فإذا كانت الصلاة مناجاة بين العبد وربه ومعراجا يرقى فيه المؤمن، فإن الصوم ضياء وقرب ومشاهدة، كله لله، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، طاعة متصلة النفحات، ليس فيها للعبد نصيب، بل كلها خالصة لله "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به" وفى الأثر أيضاً "عليك بالصوم فإنه لا عدل له".
فالصوم صفة ربانية طاهرة مطهرة، وهو سمو فوق مطالب الجسد وحاجاته، رغم ضرورتها أحياناً، طاعة وامتثالاً لأمر الله، ولذلك فالحق سبحانه وتعالى، هو الذى ينفرد بالعطاء الجزيل، على من أحيا هذه الفريضة، والصائم يفتح طاقة رحبة بينه وبين خالقه، وهل من أمنية أشهى وأبهى، وأغلى وأعلى وأكرم وأسمى من تلقى هذا الفيض؟ فما أعظم هذه التجليات والفيوضات يسعد الصائم بالوقوف بين يدى مولاه يناجيه ويطرق أبوابه ويلح فى الدعاء، فله من الحق سبحانه فرحتان، فرحة عن فطره، وفرحة عند لقاء ربه، إلا إن الصوم يرقى بالصائم فى مراتب الرضا حتى يحظى بمغفرة خطاياه، وقد كفر الحق ذنوبه، وستر عيوبه، وحقق مطلوبة ونال ما يرغب ويتمنى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} "القيامة: 22 – 23" { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} "عبس: 39".
هل رأيتم إلى أى مستوى وصل الصائم، وهل تبينتم الموقف وعظمته؟ وجمال العبودية لله وعزها؟ إن العز الحقيقى فى الطاعة، وإن الذل الحقيقى فى المعصية { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} "المنافقون: من الآية 8".
فى رمضان عبودية كاملة لله، وهذه هى الحرية الكاملة للإنسانية، إن أوسع الناس حرية، أشدهم لله عبودية، هؤلاء لا تتحكم فيهم شهوة، ولا يستذلهم مال، ولا تضيع شهامتهم لذة، ولا يذل كرامتهم طمع أو جزع، ولا يتملكهم خوف ولا هلع، لقد حررتهم عبادة الله من خوف ما عداه، فقد انقطعوا بعبوديتهم لله عن كل خضوع لغيره، فإذا هم فى أنفسهم سادة، وفى حقيقتهم أحرار، وفى أخلاقهم نبلاء وفى قلوبهم أغنياء، وذلك لعمرى هو التحرر العظيم.
وأى فضل يفوق ما قاله سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فى عظمة هذا الشهر: "أعطيت أمتى فى شهر رمضان خمسا لم يطعهن نبى قبلى:
أما الأولى: فإنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان ينظر الله عز وجل إليهم ومن نظر إليهم لم يعذبه أبدا".
وأما الثانية: فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك".
وأما الثالثة: فإن الملائكة تستغفر لهم فى كل يوم وليلة.
وأما الرابعة: فإن الله عز وجل يأمر جنته فيقول لها استعدى وتزينى لعبادى، أوشكوا أن يستريحوا من تعب الدنيا إلى دارى وكرامتى.
وأما الخامسة: فإنه إذا كان آخر ليلة غفر الله لهم جميعاً، فقال رجل من القوم أهى ليلة القدر "قال: لا: ألم تر إلى العمال، فإذا فرغوا من أعمالهم وفوا أجورهم".
إن أمة الإسلام اليوم لا ينقصها العلم، فالجامعات والعلماء لا حصر لها فى الوطن العربى والإسلامى، ولا ينقصها المال، فهى بلاد الثروة الطبيعية، مما يجعلها أغنى أمم الأرض لو أحسنت استخدام هذه النعم، كما لا ينقصها العدد، فالمسلمون يزيدون على ألف مليون، لكن الذى ينقصها صدق الانتماء لهذه الرسالة التى أخرجت العالم من الظلمات إلى النور، ينقصها الصلابة فى الحق، ومقاومة الباطل بحق، والعمل بدينها والالتزام به، ينقصها الضمير المؤمن المعتصم بالله، والمراقب لله عز وجل، ينقصها وحدتها فى الوسيلة والهدف والغاية تحت راية الإسلام.
ويأتى شهر رمضان كل عام ليقيم الحجة علينا، ففى ميدان الأمة الواحدة لا عذر لأحد، فنحن فى شهر الصيام نصوم معاً فى مشارق الأرض ومغاربها ونفطر معاً، فى لحظة واحدة، ونتجه فى صلاة القيام وفى الفرائض كلها إلى قبلة واحدة، والقرآن الذى نزل فى هذا الشهر دستور المسلمين جميعاً، وشهادة التوحيد الخالص، هى عنوان لكل مسلم، والنبى صلى الله عليه وسلم لنا جميعاً ولغيرنا.
كل مقومات الوحدة والاتحاد قائمة، وينقصنا جميعاً التجرد والإخلاص والخروج من حظ النفس، عندها يتحقق فينا قوله تعالى {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} " المؤمنون: 52".
شهر الانتصارات الكبرى:
فى رمضان كانت غزوة بدر الكبى، معركة الفرقان بين الحق والباطل، وتحقق وعد الله للأبرار من المؤمنين من كتيبة بدر التى تخرجت فى رحبا الإسلام، وفى رمضان: زحف حملة المنهج الإلهى على مكة يرفعون لواء التوحيد، ويفتحون أكبر الأبواب لمن يريد الدخول فى هذا الحق ونكست دولة الأصنام والأوثان إلى الأبد وصدق الله العظيم إذ يقول { وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} "الإسراء: 81".
وانتهى الفجار الذين وقفوا فى وجه دعوة الحق، ووقف صلى الله عليه وسلم عليهم ينادى "يا أبا جهل، يا عتبة، يا شيبة، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فإنى وجدت ما وعدنى ربى حقا، فقال عمر يا رسول الله أتناديهم وقد جيفوا، قال يا عمر: ما أنت بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يجيبون" السيرة لابن هشام.
وفى رمضان كانت معركة عين جالوت التى ردت التتار الذين اكتسحوا البلدان الإسلامية واحدة بعد الأخرى، ولم ينج من شرورهم إلا الذين اعتصموا بالله ورفعوا لواء الجهاد، وحرصوا على الشهادة فوهبت لهم الحياة، وكانت الفاصل فى إيقاف هذا السيل المدمر وهزيمته وإعلاء كلمة الله وحده.
يقول أحد المؤرخين: تعتبر معركة عين جالوت من أهم المعارك الحاسمة فى التاريخ، وما أحرزه المماليك من انتصار أنقذ الإسلام من أخطر تهديد تعرض له".

0 تعليقات:

إرسال تعليق