Ads

قتلى بلا حدود

قندز عاصمة الشمال الأفغاني المضطرب، لا تعرف راحة السلام، ولا قوانين الحرب. وفي قندز، لا يمكنك أن تنام أو تمرض أو تهرم أو تموت وأنت في مأمن من القصف. فالطائرات في سماوات الإقليم تطير بطانا وتعود إلى مرابضها كل يوم خماصا بعد أن تفرغ شحنات البارود في جوف الليل، دون أن تفرق بين ثكنة عسكرية ومشفى، أو بين الأهداف المتحركة وشواهد القبور.  
لم يكن المتقاتلون باسم "الله" يعرفون وهم يلقون أسلحتهم أمام مشفى قندز العام أنهم يفرون من الموت إلى الموت، أو أنهم يستجيرون بالرمضاء من نار أتت في البلاد على كل شيء. وأمام قضبان الحديد، كان طابور المصابين يتلوى كأفعى جريحة، ويزداد طولا مع الوقت، حتى فاق العدد قدرات لابسي البياض: "كانت المشفى تعمل بأقصى طاقتها، وكنا نعالج المصابين من الجانبين،" يقول كريستوفر ستوكس في مؤتمر صحفي حول الكارثة. وكانت أعلام منظمة أطباء بلا حدود تحلق فوق سقف المشفى، وعند مدخل وحدة الصدمات النفسية، لكن ذلك لم يمنع طائرات لوكهيد إيه سي 130 من إفراغ حمولتها هناك. 
كان المشفى يعج بالمرضى، ولم يكن من إخوة كرامازوف بها إلا خمسة وعشرون، ينتمي أربعة أخماسهم لتنظيم طالبان وخمسهم للجيش الأفغاني النظامي. ولم يكن صوت المدفعية يسمع في الجوار. وكانت وزارة الدفاع الأمريكية وداخلية كابول وجيشها وأنظمة الملاحة على الجانبين مزودة بكافة المعلومات عن أكبر مشفى في كابول.
أرسل الأطباء استغاثتهم حين بدأ القصف، وجاءهم الرد بعد أكثر من نصف ساعة من فريق الدعم: "يؤسفني سماع ذلك، لكنني لم أتلق حتى الآن أنباء عن الحادث." وعلى استغاثتهم الثانية جاء الرد مخيبا: "سأبذل ما بوسعي .. دعواتي لكم." لكن يبدو أن أبواب السماء لم تكن مفتوحة في ذلك التوقيت، لأن طائرات لوكهيد استمرت في القصف نصف ساعة أخرى. وفي تمام الثالثة والربع من صباح الثالث من أكتوبر الحزين، خرج من تبقى من الأطباء من تحت الأنقاض لإحصاء من رحل. 
كان المشهد داخل المشفى كارثيا بامتياز، ففي غرف العناية، كان المرضى على أسرتهم لم يزالوا، لكن أحدا ممن بقى على قيد الصدمة من الأطباء لم يستطع تمييز ملامحهم أو الشارات فوق أكتافهم، لأن النار أتت على كل شيء. وخسر "الأطباء بلا حدود" ثلاثين معطفا كانت معلقة فوق ثلاثين رجل لم يشاركوا في الحرب، لكنهم شاركوا في دفع فاتورتها الغبية بكل سخاء.
يؤكد البنتاجون وتؤكد الحكومة الأفغانية أن تحقيقا محايدا على وشك الإنتهاء، لكن منظمة أطباء بلا حدود تشكك في نزاهة التقرير قبل أن ينتهي، وتطالب بتحقيق مستقل. أما ذوو ضحايا الأسرة المحترقة فلا وقت لديهم لانتظار التقارير أو الطعن فيها، ولا وقت لديهم للبكاء فوق الجثث المتفحمة، لأن جميع أبناء البلاد التي يسكنها الرعب والأشباح من الحدود إلى الحدود منهمكون دوما في الإعداد لحروب جديدة مقدسة.
عبد الرازق أحمد الشاعر